مائدة يوغرطة صخرة تتحدى الزمن


قرون من الزمن تطلّ علينا من أعالي هذه الصخرة:
  تحمل اليوم القلعة الطبيعية الشامخة في عمق نوميديا اسم مائدة يوغرطة نسبة إلى البطل النوميدي الذي تحصّن بها وكانت ملجأه الأخير خلال مقاومته للغزو الروماني. كما أنّ إشرافها على منطقة السهول الزراعية مكّن الفلاحين الأفارقة من التباري مع القوى الكبرى في ذلك الوقت.
لقد بات من الضروري اليوم حفظ ذاكرة هذا المعلم المهيب الذي مثّل على مر العصور حصنا للذاكرة وشاهدا تاريخيا على أولئك الذين استقروا على سفحه وفوق مائدته حيث لا تزال الآثار مرئية سواء من خلال أسس المباني للقرى القديمة وبقايا مسجدها، أو من خلال الأحواض المنحوتة من الصخور وأروقتها المغمورة في باطن الأرض تحت تأثير الإنجراف وبفعل الأنشطة البشرية.
  كما يمثّل المعلم مخطوطا ثمينا متكوّنا من الرق يمكن للمرء أن يقرأ من خلاله الحياة اليومية للمتساكن القديم لإفريقية:  فلاح العصور القديمة العامل في الأرض والراعي الصالح والمحارب والمصارع عند الضرورة.
إنّ التونسي المعتزّ بتاريخه والحريص على الحفاظ على تراثه الطبيعي والثقافي يتطلع لجعل هذا المكان موقعا معترفا به، ويسعى إلى إعطائه روحا جديدة وحياة ثانية، وذلك من خلال إدراجه على لائحة التراث العالمي.
والسؤال المطروح اليوم، ما هي الخصائص التي يمكنها أن تجعل من مائدة يوغرطة موقعا طبيعيا وثقافيا استثنائيا وذو قيمة عالمية؟
1- موقع جيولوجي ذو قيمة استثنائية عالمية :
يتكون هذا المرتفع من حجر لوحي كلسي هائل يعود إلى فترة بداية الحقبة الثالثة (إيوسين) بين 56 مليون سن و 34 مليون سنة  ق.م، و يتجاوز سمكه الخمسين مترا تقريبا. كما يرتكز المرتفع على طبقة من الطين يقارب سمكها 150 مترا تشكل موضع التقاء جيولوجي نادر بين حقبتي الكريتاسي الأعلى (بين 100.5 مليون سنة و 66 مليون سنة ق.م) وحقبة البليوسين (بين5.33 مليون سنة و2.58 مليون سنة ق.م) الغنية بالمعادن (الفسفاط، الحديد الرصاص الزنك كبريتيد الرصاص الثنائي وكبريتيد الزنك معدن بيريت).
وتعتبر مائدة يوغرطة نتوءا طبيعيا لهذا الالتقاء الجيولوجي ممّا يؤهّلها لأن تكون شاهدا كونيا على فترة تاريخية هامة من التاريخ الجيولوجي لكوكب الأرض.
وتقوم الشقوق البارزة على سطح المائدة بتسهيل سريان المياه المتدفقة في جوفها مما يفسر وجود عدة ينابيع للمياه العذبة في المناطق المجاورة.
2- منظر طبيعي خلاب فريد من نوعه: 
تتميّز المائدة كما تشير إلى ذلك التسمية بكونها صخرة ضخمة مسطحة على مستوى  الجهة العلوية ويقارب حجمها 20 مليون متر مكعب. وتنتمي هذه الكتلة الجبلية إلى سلسلة المرتفعات التلية العليا المحفوفة وسط جبال السلسلة الظهرية البارزة فوق الأرض منذ العهد الجيولوجي الثالث.
وبفضل شكلها المتميّز وأبعادها الاستثنائية يمثل منظرها الخلاب العنصر الطبيعي المهيمن على قمم التشكيلات التضاريسية لجهة بوجابر ومرتفعات سلاطة بجهة تاجروين ومرتفعات بولحناش بجهة تالة مع ارتفاع يفوق 1271 متر وعلى امتداد مسطح يناهز 82 هكتار، حيث تغطي هذه الهضبة الصخرية المسطحة طبقة رقيقة من بعض النباتات. ومن أعلى مائدة يوغرطة يمكن للمتفرّج أن يمتدّ نظره إلى جميع السهول القديمة لنوميديا: بلاد القديسس أوغستينون ويوغرطة، كما يمكنه أيضا مشاهدة الأراضي المجاورة  للجزائر فضلا عن آثار الطرق الرومانية والسهول الزراعية الشاسعة لبلاد افريقية. هذا المشهد  البانورامي يمنحنا خلال المواسم الخصبة مناظر طبيعية متعددة تعكس الثراء البيولوجي للجهة.
3- موقع تاريخي، مكان للذاكرة
مائدة يوغرطة هي كذلك مكان يزخر بالذاكرة منذ العصور القديمة، لا سيما وهي تقف شاهدة على آخر المعارك التي خاضها ملك نوميديا ضد روما قبل استسلامه لقائد جيشها الجنرال ماريوس. هذا المكان الطبيعي المقاوم الضارب في القدم ساعد المجموعات القبلية مثل الحنانشة وبوغانم وغيرها من القبائل على اتخاذه كـملجئ وحصن لتعزيز المقاومة الذاتية ضد القوى المركزية التي تعاقبت على البلاد التونسية إلى حدود القرن التاسع عشر. كما نشاهد على هذه الهضبة المسطحة آثارا لبقايا مبان تعود إلى عصور مختلفة خلّدت الذاكرة الإنسانية لحقب ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى ما يمكن أن تشي به حول الطرق البدائية والرعوية لاستغلال الأرض وحول أنماط عيش الفلاحين القدامي الذين استقروا في افريقية.
وأخيرا، وكما هو معلوم فلقد مثّلت منطقة قلعة سنان بالنسبة للمستعمر الفرنسي مجالا خصبا لتوسيع أنشطته المنجمية من الجزائرإلى تونس( استخراج الفسفاط والزنك والرصاص والباريت وحديد الهيماتيت..) ممّا ساهم في نماء ثروات شركاته.
وقد أشار ابن فضل العمري إلى مائدة يوغرطة فأورد في كتابه"مسالك الإبصار في ممالك الأمصار" الوصف التالي:
وبالقرب منها على مسيرة يوم قلعة سنان وهي قصر لا يعرف على وجه الأرض أحصن منه على رأس جبل منقطع عن سائر الجبال، ليس في رأسها ماء إلاّ المطر، بها خمس مواجل نقشت في حجر، وهو جبل يقصر سهم العقار عن الوصول إليه، ويرتقي إليها من سلم نقر في حجر طوله مائة وتسعون درجة، بأسفلها قصبة بها عين، وبها فواكه وثمار".

تعليقات