علي الشبعان يكتب عن سيرة صمود

(طريقي إلى الحرية): سيرة و حكايات...كتاب نفيس ألفه العلامة حمادي صمود أستاذ الأدب و النظرية بالجامعة التونسية....و هو كتاب يحكي تغريبة الرجل على امتداد سبعة عقود....كما يروي علاقاته المركبة بذاكرة حبلى بالتجاريب يستعيدها كتابة تنضح متانة و تتقد بريقا ....و هذا السمت في الإنشاء ليس غريبا عن كل من اختلف إلى سي حمادي إن بالتتلمذ و إن بالمصاحبة و قد أكرمني القدر بأن نلت الفضلين: فضل التتلمذ، و مزية المصاحبة...لذلك حق لي الحديث و جاز لي القول....
هذا الكتاب كما قال صاحبه في شأنه يمهد للقارئ سبيله:« و إنما صنع لأمر آخر تبين أن طريقه لا بد أن تمر بهذه الذات في صيغة المفرد أو في صيغة الجمع، صنع ليكون شهادة...».
لقد كان سي حمادي في سيرته شاهدا على سير غيره، مذ كان صبيا يافعا، إلى أن اشتد عوده و اكتهل يروي في أسلوب متين شهي يرغبك في التهام الحروف و امتطاء المعاني، لتحلق مع المؤلف بعيدا في دهاليز ذاكرة البحر و رياسه، و ما حاكته حولهما خيالات السكان من مخيالات تخلد البطولات و تعلي الرايات و ترفع منازل المغامرين....
لقد كان سي حمادي و هو يسلك طريقه إلى الحرية، لا يقص أحداثا مضت أسعفته بها ذاكرته المتدافعة تدافع البحر الذي عشق رماله المذهبة و ماءه الساحر، بقدر ما كان يبني بالسرد المحبوك و النظم المرتوق، و هو الذي أرخت إليه البلاغة أعنتها و سلمته قودها، عالما بديعا تتلاقى في محيط دائرته الأحداث المستعادة بالحكم المستنبطة من أنسجة تلك الحكايات، بطولات خارقة، و أحداثا دامية، و حلما بغد أفضل   لطالما تاقت إليه نفس الفتى تهديه عزيمة أمه المناضلة...تريد أن تصنع منه شيئا....
لقد حوى الكتاب، فصولا ثلاثة:
-موارد الصفاء
-مسالك الحرية
-أبواب مشرعة
تضاف إلى الفصول الثلاثة التي من نسيجها قد سدى الكتاب و صنعت لحمته، إهداء و مقدمة و عنوان (في انتظار الآتي)
أما الإهداء، فكان لصاحبة الفضل (جميلة)، والدة المؤلف...قاهرة الخوف....
و أما المقدمة فدائرة على تهدي رغائب القارئ و ذلك بإخراجه من طقس الوجوم و الاشتباه، ليقبل على الكتاب و قد أهداه الكاتب، بعضا من سره، فتحسن العشرة و يقوى الرباط...
أما العنوان (في انتظار الآتي)، ففيه حكاية المؤلف مع كتابه ينتظر اكتمال عناصره و تخلق أجزائه، تخيفه العطالة المفاجئة و يروعه الغياب...و قد بدا هذا في قول للمؤلف صريح:«... و سكنك خوف أن يسكت الكتاب فيك و يلفه الصمت، إذ يلفك الموت، حياة لم تعصف بها لذة كلذة القول، و لم تؤمن بشيء إيمانها بالكتابة، زهوا و إقبالا على الدنيا و رفضا عنيدا للنهايات....».... و لكن شاءت الأقدار أن تبدد هذا الوجل العنيد الذي استبد بالمؤلف دهرا لم يبرح كيانه، إلا عندما اكتمل العنصر و استوى الخلق، كتابا بديعا يكتب علائق صاحبه بالعالم كتابة تذكرني بكتابات العظام من الفلاسفة و العلماء يخلدون في زمن من حيواتهم محدد، ذكراهم الباقية لأنهم آمنوا كما آمن من صلى في قداس اللغة، قبلهم من أسلافهم، بأن سبيل الخلود تدوين بالحرف و تقييد بالكلمات، حتى لاىينفرط عقد الانتظام، فيضيع الذكر و تغسل الذاكرة و يسود العدم....
إن سي حمادي من هؤلاء و هو الذي عاشر الحرف دهرا و تملى في كتب العظام، وقتا....لذلك سار على درب التخليد، فكتب طفولة البحر من طفولته، و حكى هيامه بالجامعة التونسية من هيامه بمؤسسيها....
طريقي إلى الحرية...شهادة عالم فذ على ذاته المركبة....و شهادة رجل أخذ على نفسه عهدا أن يظل واقفا بكامل قامته، سدا منيعا في وجه الرداءة، و الابتذال، و الاستعطاف، و البساطة القاتلة...و التعفف المزعوم....
إنها كتابة الوشم....مسكنها قاع الروح....لا يفهم سرها إلا صاحب السر....فيا ترى من يكون صاحب السر؟!......
(نص مقتطف من بحث طويل ألفته، وفاء لمعلمي الأول أستاذي حمادي صمود....و سينشر قريبا، كاملا مستتما)
علي الشبعان.

تعليقات