مرض العصر

علامات             16                  بقلم رياض المرزوقي

( العلامات روح الطريق )

46 - مرض العصر                 " شربت حزن جيل
                                                                       شربت يأسه المكدّر الثقيل " ر.م

تتفق الدراسات حول الحركة الرومانسية على وجود ضرب من السأم أو القلق يتفق فيه
الرومانسيون جميعا , وينعتونه ب"مرض القرن " , وهو في رأيهم السبب الأصلي
لهذا الإحساس الذي نعته الشابي ب"الكآبة المجهولة " , والدافع الجوهري لتشاؤمهم .
والحق أن هذا الأمر لا يخص الرومانسيين وحدهم , وهم الذين عانوا من فشل الثورات
المتتابعة وويلات الحروب النابليونية , ودفعهم إلى الاختيار بين " الأسود والأحمر "
كما يقول ( ستاندال ) أي بين الزي العسكري , وزي الرهبان .
لا يخصهم لأن جيلا آخر ( وبلا شك أجيالا أخرى ) عانى من الاحباط نفسه , وأعني
جيل " النكبة " . وقد اختار القدر أن أكون من مواليد سنة النكبة 1948 , وجيلي في
معظمه , يقارب الرومانسيين في هذه النقطة .
ومن الصحيح أن الإحساس بالألم نبع ثرّ للإبداع , لكنه معبّر أيضا عن فشل شبه كامل
في الاندماج الاجتماعي .
بهذا عللت وما زلت أعلل ما ينتابني من رفض للمجتمع , وقيمه التي أعتبرها بالية ,
ويستهويني من الشعراء " الغرباء " كالمتنبي , والمعري أكثر من أولئك الذين نجحوا
في حياتهم , وعبروا عن رضاهم بنجاحهم .
وفي نهاية الحديث , أجد المبدع بهلوانا يرقص على الأسلاك فوق المجتمع الجاحد ,
" رقصت في الساحات ..
أحمل قلبي في يدي ..
أموت في الساحات ..
سيدتي فلس لهذا المعدم الفقير ..
سيدتي , أبيعك الشعور لقا دريهمات ...
تأكلني الأشباح ..
تسري مع دمي ..
تنطق من فمي ..
كل الحروب والمآسي ,,
والناس , والسماء , والغد البعيد
تقرع كالناقوس في شعوري
ترسم لي مصيري
أحمل في ضميري ..
مأساتكم ..
أحملها حتى متى ؟
تقتلني حتى متى ؟
إذا أتى مصيري ..
تذكري أجمل ما يحمله فتى ..
فؤادي الكبير ! " .


47 - ( عمّ  سعد )                          " ليس للإنسان إلا ما سعى "

أنا من جيل يؤمن بالعمل , ويمقت الفراغ , وإلى وقت قريب كنت أكره العطل , وأوقات
الراحة . لقد درّست في شبابي أسابيع ذات أربعين ساعة وأكثر , وعشت في الإدارة
سنوات لم أتوقف خلالها عن العمل يوما حتى أيام الأحد . وأذكر أني لم أتغيب عن
الدروس لحظة ,  طيلة مساري المهني . ولا أدري إن كنت لا أمرض , أو أنني أمرض
خارج التوقيت الرسمي .
والحق أن أكبر معضلاتي عندما خرجت للتقاعد , لم يكن البحث عما أشغل به وقتي ,
بل كيف أجبر نفسي على الراحة , بعد أن أصبح جسمي غير قادر على الجهد كما كان .
هكذا تربيت , وهكذا رأيت والدي يذيب نفسه يوما بعد يوم , ويجلس إلى مكتبه المنزلي
أيام الشتاء الصاقع , والصيف الحارق , من الصباح الباكر إلى حلول الظلام .
وكان الكثيرون ممن أعرف يعيشون على هذه الصورة , ومنهم ( عم سعد ) .
عرفته مسنّا منذ صغري , وعايشته يتقدم في العمر سنة بعد أخرى . كان " بيّاضا " ,
يركب دراجته العتيقة , ضاما ساقي بنطلونه بمشابك الغسيل حتى لا تعوقه ثيابه عند
السياقة , يدخل البيت , فلا يضيع وقتا , بل يقوم بإخراج الأثاث بنفسه , وهو لا يترك
هذه العملية لغيره , ويصعد السلم في جهد , ويعمل في صمت . وعند المساء ,
ينظف الأرضية , ويعيد الأثاث إلى مكانه  . وكان عندما يعود إلى منزله , أو في أيام
راحته يشتغل تارة بإصلاح مظلات المطر , وأخرى بإصلاح الساعات , وما شابه ذلك
من أشغال لا يهدف منها إلى الكسب قدر تجنب البقاء عاطلا .
وأعلم أتم العلم أن الزمن تغيّر , وأن " الترفيه " أصبح قيمة قائمة الذات , لكنني في
قرارة نفسي أعتبر أن ذلك لا يهمّني .
وذات يوم سمعت أن ( عم سعد ) لم يعد قادرا على القيام بشغله , ثم علمت أنه مريض
ولم أشكّ لحظة في أن سبب مرضه هو تعطله الإجباري . وتوفي الرجل , فشعرت
بموت زمن كامل , رحل معه .
أفكر أحيانا في أنني لا أمتّ بصلة إلى المجتمع الذي أعيش ضمنه , حين اضطرّ
إلى تأجيل مصالحي إلى التاسعة أو العاشرة صباحا , وهو موعد فتح أغلب المتاجر ,
واشتغال الإدارات والمؤسسات , والحال أني أعتبر نفسي متأخرا إذا استيقظت بعد
السابعة , ثم أعود إلى زمن مضى كنت أستيقظ  فيه يوميا على الساعة الخامسة لأركب
سيارة الأجرة إلى عملي في زغوان , وأنا في سنّ العشرين ...
قال أحد الحكماء معلّقا على مقولة " ليس للراحة قيمة " , فهمت كلمة " قيمة " ,
لكني لا أعرف معنى كلمة " راحة " .


 



تعليقات