البشير خريف ...ابو الرواية التونسية



البشير خريّف...أبو الرواية التونسية





محمد آيت ميهوب
(تونس)








تهلّ علينا هذه الأيام الذكرى المائة لولادة الأديب التونسي البشير خريّف (1917- 1983)، أبي الرواية التونسية ومؤسّسها. ولا شكّ في أنّ هذه المناسبة ستتّخذ في تونس بعدا وطنيا احتفاليّا وستشحذ همم الباحثين الأكاديميّين والنقاد ومؤرّخي الأدب للعودة إلى تراث الرجل في الرواية والقصة القصيرة والمسرح، والانكباب مجدّدا على تدارسه أفقيّا وعموديّا: أفقيا بالنظر في وجوه تفرّده الفنيّة وعناصر تميّزه المضمونيّة، وعموديا بالنظر في علاقة أدب خريّف بما سبقه وعاصره ولحقه وتنزيله المنزلة التي هو جدير بها في تاريخ الأدب التونسي. والحقّ أنّ الرجل وإن كان قد نال بعد وفاته خاصة نصيبا محترما من الاهتمام والتوقير، فترجمت بعض من أعماله ووضعت فيه مجموعة من الأطاريح الجامعية وأقيم باسمه ملتقى للقصة في مسقط رأسه وأصدرت وزارة الثقافة في ذكرى ميلاده التسعين (2007) طبعة فاخرة لأعماله الكاملة ما نشر منها في حياته وما لم ينشر، فإنّ المتابع العارف بدقائق مسيرة القصة والرواية في تونس ليدرك جيّد الإدراك أنّ البشير خريّف لم ينصف بعد كما ينبغي أن ينصف، وأنّ أبواب النقد الأدبي والبحث الجامعي مفتوحة أمامه ولكن في مواربة، وأنّ أراضي كثيرة وجزرا نائية في أدبه ما زالت تنتظر مغامرين يستكشفونها.
ولا بدّ في هذا السياق من الاعتراف بالفضل لرجلين كرّسا جهودا كبيرة للتعريف بأدب خريّف وإنقاذه من النسيان. أوّلهما الناقد توفيق بكار الذي تناول كتاباته بالنقد ووجّه طلبته إلى دراسته وأعاد سنة 1990 إصدار روايته "الدﭬلة في عراجينها" ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" بتقديم للروائي الطيّب صالح عبّر فيه بإسهاب عن إعجابه بهذا الأثر "رواية فريدة" دلّه عليها "الشاعر المصري المبدع، عبد الرحمان الأبنودي" ، فكان ذلك بمثابة انبعاث جديد لهذه الرواية الفذّة. أما الرجل الثاني فهو الباحث فوزي الزمرلي الذي أوقف شطرا كبيرا من مسيرته العلمية على دراسة كتابات خريّف، فكتب فيه بحوثا عديدة وأشرف على تحقيق كثير من مخطوطاته وتبويبها وبعثها إلى الحياة حين أصدرها ضمن أعمال خريّف الكاملة. وليس هذا المقال إلا مجهودا بسيطا في التعريف بالبشير خريّف اعترافا بما له من فضل على صاحب المقال، إذ قرأ قصصه ورواياته وهو صبي ثم وهو شاب وكهل، وما زال يقرؤه إلى اليوم وفي كل مرة يكتشف في أدبه الجديد ويتعلم منه الجديد...           

نجيب محفوظ بين البشير خريّف ومحمود المسعدي...
حين التقيت في خريف 1997 بنجيب محفوظ في مجلسه بفندق "شيبرد" وجدته يحدّثني عن البشير خريف ويسألني إن كان ما يزال على قيد الحياة، ثمّ أفصح لي عن رأيه في أدبه. ومن عجب أنّ هذا الرأي جاء في سياق ثنائيّة كثيرا ما انساق نقاد الرواية في تونس إليها كلّما تحدثوا عن البشير خريف وموقعه في مسيرة الرواية التونسية، وأقصد بها ثنائيّة المسعدي/ خريّف. فقد قال لي :"لقد قرأت للمسعدي وخريف، وخريف أفضل في رأيي. إنّه هو الروائي الحقيقي".
فعلا لقد أصاب عميد الرواية العربية فالبشير خريّف هو الروائي الحقيقي بالمعنى الدقيق للكلمة، بل قل هو مؤسّس الرواية في تونس ورائدها. ولا يعني ذلك طبعا التقليل من فرادة تجربة محمود المسعديّ الأدبيّة ولي فيها دراسات أعتزّ بها، ولكنّنا إذا ما تحدّثنا عن نشوء الجنس الروائيّ في تونس وفق المواصفات الأجناسيّة الغربيّة فإنّ الريادة ولا شكّ هي للبشير خريف. وعلى كلّ حال فالمسعديّ نفسه لم يسمّ نفسه روائيّا في يوم من الأيّام، وحرص طيلة حياته على أن يجعل كتاباته في منأى عن الانضواء داخل جنس أدبيّ بعينه وهي كذلك فعلا، وها هو النقد الأدبيّ ما يزال إلى اليوم يخوض في شأن التصنيف الأجناسيّ لنصّ "حدث أبو هريرة قال..." ويعجز عن الحسم في أمر صلته بالرواية. لقد كان البشير خريف أوثق صلة بالفنّ الروائيّ من محمود المسعديّ، وكان وعيه بعمليّة استيعاب هذا الجنس الأدبيّ الغربيّ وتحويله إلى البيئة الأدبيّة الغربيّة والتونسيّة تحديدا وما تتطلّبه من مقتضيات واحتياطات أوضح وأنبه من وعي محمود المسعديّ بذلك. بل يمكن أن نقول في كثير من الاطمئنان إنّ هذه  القضيّة لم تكن تشغل بال المسعديّ قدر ما كانت تشغله قضايا أدبيّة وفلسفيّة وحضاريّة أخرى.
وعلى هذا النحو فإنّ ريادة البشير خريف ليست ريادة زمنيّة في  المقام الأوّل، بل هي ريادة فنيّة إنجازيّة. فمعه وبدءا من روايته "برق الليل" الصادرة سنة 1961، وضعت الرواية التونسيّة قدميها فوق عتبة النضج الفنّي وبدا أنّها ملكت ناصية الكتابة الروائيّة الواعية بخصوصّياتها، المتمرّسة بأدواتها السرديّة. فلم تعد صورة ملتبسة للمقال الأدبّي حينا، والكتابة الوعظيّة التقريريّة حينا آخر، والخطاب الأدبيّ المحايث للخطاب السياسيّ حينا ثالثا.
صحيح أنّ رواية "ومن الضحايا" لمحمّد العروسي المطوي قد سبقت "برق الليل" بخمس سنوات (1956) وصحيح أنّ كثيرا من مؤرّخي الأدب في تونس قد نزعوا إلى اعتبار عمل العروسي المطوي بداية الرواية التونسيّة التي زامن تجلّيها حصول تونس على استقلالها، ولكنّ القراءة المتأنيّة الموضوعيّة لا بدّ أن تعطي هذا النصّ حقّه من حيث أنّه محاولة جديّة جسّدت مرحلة متقدّمة لتلمّس الطريق نحو الكتابة الروائيّة. أما الكتابة الروائيّة الفنيّة الناضجة والواعية خاصّة بمميّزات الرواية جنسا أدبيّا غربيّا يستجلب إلى الأدب العربيّ، فهذا طور ابتدأ مع "برق الليل" ثمّ نما وأينع وأثمر على نحو رائع في "الدﭬلة في عراجينها" (1967) وتعزّز مع رواية "ونصيبي من الأفق" لعبد القادر بن الشيخ سنة  1972، وحين صدر "حدث أبو هريرة قال..." كاملا بعيد ذلك سنة 1973 وعدّ في جنس الرواية انفتحت أمام الكتابة الروائيّة في تونس طريقان لعلّهما ما تزالان تتجاذبانها إلى اليوم : طريق من يكتب الفكر في  الرواية ويجعل همّه النحت في اللغة، وطريق من يكتب الحياة ويجعل مرامه الواقع منبعا للإبداع.
الرحلة الأولى ...
ذات يوم من أيّام الربيع هو العاشر من أفريل 1917 ولد البشير خريف ببلدة نفطة بين واحات الجريد التونسيّ وفي كنف النخيل الذي سيلهمه بعد ذلك بنصف قرن عنوان روايته البديعة "الدﭬلة في عراجينها"...
الأب هو الشيخ إبراهيم خريف وكان من علماء نفطة وأثريائها وله مؤلّف معروف يؤرّخ للجريد وساكنيه موسوم بـ :"المنهج السديد في تاريخ أهل الجريد". وأمّا الأم فهي شريفة بنت ميلاد من عائلة "بن ميلاد" المشهورة في تونس العاصمة. وبذلك كان للطفل البشير انتماءان عائليّان أحدهما بدويّ يضرب بجذوره في الجنوب التونسيّ، وثانيهما حضريّ متين الصلة بالمدينة وتونس العاصمة وكانت التسمية المتداولة لها آنذاك هي: الحاضرة. وقد ظلّ هذان الانتماءان متداخلين يتنازعان شخصيّة البشير الكهل ويضرب كلّ منهما بسهم في تحديد عوالم كتاباته القصصيّة وتوجيه نزعاتها العامّة.
ولم يلبث الطفل في نفطة إلاّ ثلاث سنوات حتّى قرّ عزم الأب على النزوح بعائلته إلى الحاضرة تونس. فحلّ بها آل خريف سنة 1920 وسكنوا حيّا من أحياء المدينة العتيقة يسمّى "رحبة الغنم" و"تربة الباي". ويذكر البشير خريّف في حوار له أجراه في أخريات حياته مع الروائيّ حسونة المصباحي أنّ ذاكرته مازالت تحتفظ بظروف وصول العائلة إلى تونس ودخولها البيت الحضريّ :"أتذكّر أنّنا وصلنا إلى تونس عند المغارب، وأتذكّر أنّه حال وصولنا خرجت مع أخي الكبير إلى باحة الدار ورحنا نتأمّل الجليز ونتلمّسه بأيدينا في رهبة وإعجاب، كان شيئا رائعا بالنسبة لنا، في الجريد لم يكن هناك سوى التراب" . كانت تلك الصدمة الأولى مع العمران والحياة الحضريّين، ولكن أتراه شفي منها ذلك الطفل بعد أن ألف المدينة واعتاد مساكنها وأزقّتها وأهلها وشوارعها وأمضى بها ما يفوق الستين عاما. يجيب البشير خريف في الحوار نفسه فيقول :" (...) وحتّى عندما كبرت ظللت أكره المدينة الحضريّة... وأخاف منها... إنّها تذكّرني بالاستعمار... وبالزيف... وها أنت ترى أنّي لم أقدر على مغادرة البيت الذي عشت فيه طفولتي وشبابي... ثم كهولتي...وها أنا أنتظر فيه الموت... وأقول إنّ لكّل كاتب عالمه الخاص... وهناك سريّة وسريّة جدّا هي التي يتأسّس منها عالم كلّ كاتب... وكلّ مبدع" .
وفي هذا الحيّ الذي كان يقع على هامش المدينة بعيدا عن الأحياء الأرستقراطيّة والذي كان يضمّ خليطا من الأجناس البشريّة من تونسيّين ومالطيّين وغجر وإسبان وإيطاليّين، أتيح للطفل أيضا أن يرى عن قرب الآخر الأجنبيّ وأن يقف على نماذج من جمال المرأة الأوروبيّة والإيطاليّة تحديدا :"كنّا نسكن في "تربة الباي"... وكان الطليان يسكنون أيضا في هذا الحيّ... وقد أحببت فتيات إيطاليّات ... من بعيد... لم أتمكّن البتّة من الاقتراب منهنّ... كنت أفعل كلّ شيء في الخيال..." . فهل يمكن للباحث أن يتلمّس في هذا المعطى السيرذاتي تفسيرا لأهميّة حضور العنصر الأجنبّي في أعمال خريّف ؟
قصاص في عائلة من الشعراء
يشبه شأن عائلة " خريّف" في الأدب التونسي شأن عائلة "تيمور" في الأدب المصري. فكلاهما عرفت بغرام أفرادها بالأدب وخوضهم في شؤون الثقافة وتعلّقهم بالعلم. وقد كان والد البشير خريّف أديبا حفاظة للشعر العربي القديم ونثره، وكانت للبشير أختان تنظمان الشعر، ويعدّ أخوه مصطفى من أعلام الشعر التونسي في المنتصف الأول للقرن العشرين، أما محيي الدين خريف وعبد الحميد خريف وهما ابنا أخويه، فقد كانا من رموز حركة التجديد في الشعر التونسي في المنتصف الثاني من ذلك القرن.
وهكذا يتبيّن أنّ البشير خريّف كان حالة متفرّدة وسط عائلته، فلم يعرف عنه نظم للشعر واتجه منذ شبابه الباكر إلى فنون السرد. وقد سئل عن ذلك ذات مرة في حوار أجراه معه الإذاعي خالد التلاتلي، فعلّل الأمر بإتقانه اللغة الفرنسية من دون إخوته وبفضل قراءاته الأولى في الأدب الفرنسي التي نقلت إليه عدوى القصّ .
ولئن كان للتمكّن من اللغة الفرنسيّة دور ولا شكّ في التوجّه نحو الكتابة القصصيّة استفاد منه من قبل الكاتب التونسي الرائد علي الدوعاجي، فإننا لا نرى بأيّ حال من الأحوال أنه السبب الأوحد الذي يفسّر اصطفاء البشير خريّف السرد مسارا أدبيا. والرأي عندنا أنّ عاملين اثنين يكمنان وراء هذا الأمر: أوّلهما ذاتيّ يعود إلى شدّة تأثر البشير خريف الصبي بعلي الدوعاجي وكان صديقا لأخيه مصطفى يلازمه ليله ونهاره وكثيرا ما التقاه البشير في بيتهم واستمع إليه يحدّثه في شؤون القصة والمسرح، وفي أحد حوارات خريّف تأكيد منه لقوة هذا التأثير في تكوينه واعتزاز صريح بأنه" ابن علي الدوعاجي" ، بل إنّ من الأسباب التي قدّمها لتجرّئه على كتابة الحوار بالعامية رغبته الشديدة في تحقيق حلم الدوعاجي بإتيان هذا الأمر نفسه لكنه لم يجد من الشجاعة ما يدفعه قدما فيه. وأما العامل الثاني فموضوعيّ ويتعلّق بطبيعة المرحلة الأدبية التي شبّ فيها الفتى وأخذ يحتكّ بالساحة الثقافية. فقد عرفت فترة الثلاثينيات في تونس ازدهارا للكتابة القصصية وإقبالا منقطع النظير عليها. وكان لزين العابدين السنوسي صاحب مجلة العالم الأدبي دور في ذلك وفضل. فلم يأل جهده في إقناع شباب المثقفين الذين كانوا يلتفون حوله وحول مطبعته بضرورة التوجّه إلى القصة، "فنّ المستقبل"، والتعويل عليها في النهضة الحضاريّة المرتقبة للوطن . لذلك لم يكن من الغريب أن نجد مصطفى خريف نفسه يؤلّف قصة قصيرة، وأبا القاسم الشابي ينشر قصتين، والشيخ الفاضل بن عاشور يحرّر قصة هو الآخر... وغير هؤلاء كثير.  وعلى هذا النحو فقد تفتّحت عينا البشير خريف الفتى وقد غدت القصة بعد أفقا من آفاق الكتابة ومسارا يغري هاوي الأدب  بالسير فيه.    
  مشاق التعلّم
طريق التعلّم في حياة البشير خريف طريق قصيرة وطويلة، متقطّعة ومتجدّدة في آن معا. ابتدأها ككلّ صبيان جيله ومثله مثل أشقائه فوق حصير الكتّاب القريب من البيت، كتّاب "سيدي البغدادي"، ثم التحق بـ"مدرسة السلام القرآنيّة" التي فارقها لينضمّ سنة 1925 إلى المدرسة الفرنسيّة العربيّة بنهج دار الجلد في قلب المدينة العتيقة. وهذا النوع من المدارس انتشر في بدايات القرن العشرين وكان ذا  توجّه عصريّ يقرن بين تدريس اللغة العربيّة واللغة الفرنسيّة، ويركّز على العلوم الطبيعيّة والحسابيّات. وفي هذه المدرسة كان للبشير خريف أوّل اتّصال مع الأدب الفرنسيّ. فقد أشاد في كثير من أحاديثه وشهاداته الأدبيّة بفضل مدير هذه المدرسة عليه في تعريفه بأعلام الأدب الفرنسيّ لاسيّما ألفريد دي موسيه، ودفعه إلى قراءة نماذج مختارة من كتاباتهم. وقد كان للأسرة دور أساسيّ أيضا في تكوين الصبيّ اللغويّ والأدبيّ وتغذيته بالمعارف الأوليّة الضروريّة. ذلك أنّ الأب كان يتولّى بنفسه في سهرات العائلة وأسمارها إطلاع أبنائه على ألوان من التراث السرديّ العربيّ، وتحفيظهم عيون الشعر العربيّ القديم. ويذكر خريّف أن لأخيه مصطفى خريّف الذي سيغدو أحد كبار الشعراء التونسيّين في القرن العشرين، فضلا جمّا عليه في هذا المجال.
في سنة 1932 أحرز البشير خريّف على شهادة الابتدائيّة، وكانت شهادة عالية الصيت في ذلك الحين. فالتحق بمعهد العلويّة مواصلا دراسته الثانويّة. لكنّ ميله الشديد إلى الموادّ الأدبيّة ونفوره من مادّتي العلوم والرياضيّات جنيا عليه، ففصل عن الدراسة في نهاية السنة الثانية.
وقد أثّر هذا الحدث في نفسيّة الفتى وأورثه ميلا إلى العزلة حينا من الدهر وكرها للكتب والكراريس، لكنّه فتح له في الوقت نفسه كوّة للّواذ بالكتابة على سبيل التسلّي. فكان أن أخذت تخامر ذهنه بدايات مشاريع لكتابة تمثيليّات ومقالات. بيد أنّ اليأس من التعليم قد أوجب عليه من جهة أخرى الخوض في غمار الحياة والسعي إلى كسب الرزق. فقضّى خمس سنوات يتنقّل فيها بين مهن بسيطة تدور في فلك عالمي السوق والتجارة. فعمل مدّة في صناعة صناديق حلوى الحلقوم، ثمّ امتهن صناعة الشاشية بسوق الشواشين، واتّخذ له في وقت لاحق كشكا خشبيّا يبيع فيه عصير الليمون والحلويّات .
في سنة 1937 حلّ بيرم التونسي بتونس منفيّا إليها من فرنسا وكان قد نفي إليها للمرّة الثانية من مصر. وقد التقى بيرم أثناء إقامته ببلد أجداده بجمع من شباب المثقفين والأدباء التونسيّين، فأثّر فيهم أيّما تأثير وزاد من ولعهم بالأدب والصحافة. ولعلّ ذلك كان أحد الدوافع التي شجّعت الشاعر مصطفى خريّف، شقيق البشير خريف، على إصدار جريدة سمّاها "الدستور" تعبيرا منه عن مساندته لمطلب التونسيّين الأوّل آنذاك، مطلب بعث دستور تونسيّ، ذلك المطلب الذي سيتفجّر ثورة شعبيّة عارمة بعد ذلك بسنة في 9 أفريل 1938.
ولئن لم تعمّر هذه الجريدة طويلا فإنّها قد عادت بمنافع كثيرة على البشير خريف. فقد انغمس يعين شقيقه في إدارة الجريدة وتسويقها، وساهم في موادّها بنشر عدد من المقالات وأقصوصة بعنوان "ليلة الوطيّة" جلبت له نقدا لاذعا لتعمّده إجراء الحوار بالعامية التونسية. وبفضل هذه التجربة أمكن له أن يخرج من حالة العزلة والإحباط التي سقط فيها بعد انقطاعه عن التعليم، وأتيح له فوق ذلك أن يحتكّ بعدد من طليعة كتّاب ذلك الوقت لاسيّما القاصّ علي الدوعاجي الذي عرّفه بأعلام الأدب العربيّ والغربيّ وحرّضه على القراءة ودعاه إلى اكتشاف عالم المسرح في تونس .
كانت تلك تجربة أولى مع الكتابة والنشر والاحتكاك بالدائرة الثقافيّة، تجربة انقطعت سريعا لكنّها وفّرت للبشير خريف مخزونا سيغرف منه بعد ذلك سنوات حين سيخوض غمار الحياة الثقافية في تونس ويقترب من إدارة مجلّة "الفكر" في الخمسينيّات ويغدو عنصرا فاعلا ضمن أسرة تحريرها.
وبعد أن أقفل الشقيق جريدته، عاد البشير يلاحق حظّه في  التعليم. فانتسب إلى مدرسة "السمنجة" الفلاحيّة لكنّه ما لبث أن غادرها في السنة نفسها. وانبرى بعدها يتقلّب في الأعمال دون أن يقطع صلته بالأدب تدوينا لمذكّراته وتدرّبا على كتابة القصّة. فاشتغل كاتبا لدى أحد المحامين، ثمّ فتح متجرا لبيع الأقمشة بأحد الأسواق العتيقة. وتزوّج سنة 1938 ورزق بابن، فأعاده الوليد إلى الدراسة من جديد إذ يصرّح في بعض شهاداته أنّه خاف من أن يكبر ابنه ويجد أباه شبه أميّ لا يستطيع مصاحبته في تمدرسه . لذلك تابع دروسا كانت تلقى مساء في جمعيّة "الخلدونيّة " توجّها بالحصول على شهادة "البروفي" سنة 1940. وفي الأثناء كان يقبل بشغف على قراءة ما يصل إلى تونس من كتب لأعلام الأدب المصريّ : العقّاد، وأحمد أمين، وطه حسين، وتوفيق الحكيم.
وتقوم الحرب العالميّة الثانية ويصل شيء من لظاها إلى تونس، فرحل البشير خريّف صحبة عائلته إلى ضاحية حمام الأنف. ثمّ انخرط في بيع التوابل حينا من الزمن، وما لبث أن عاد إلى تجارة الأقمشة التي نفقت سوقها أيّام الحرب، ثمّ عرفت بوارا كبيرا بعد أن حلّ السلم. حينها أقفل البشير خريف دكّانه ورجع بقوّة إلى مجالس الفكر والأدب، وانخرط يؤلّف بعض  المسرحيّات القصيرة.
الاستقرار في العمل ...التفرغ للتأليف
في سنة 1947 عاد مجدّدا إلى التعلّم والتحصيل الدراسيّ. فاختلف إلى مدرسة "العطّارين" وأحرز منها شهادة الدراسات العليا في اللغة العربيّة. وبذلك انفتح أمامه مجال التدريس معلّما بالمدارس الأدبيّة. وعلى هذا النحو أمكنه أن يكسب موردا قارّا للرزق، وأن يجد من الوقت ما يسمح له بالانقطاع إلى مطالعاته في التاريخ والأدب عربيّه وغربيّه. وقد فتن في هذه المرحلة بتاريخ تونس في العهد الحفصيّ وتحديدا في القرن العاشر الهجري، ووضع مخطّطا لتأليف رواية تاريخيّة حملت عنوان "بلاّرة" وهو الاسم ذاته الذي أطلقه على إحدى بناته. وسار شوطا لا بأس به في رسم ملامح شخصيّاته ووضع الخطوط الكبرى للأطر والأحداث. وقد ألّف فعلا مخطوطا أوّل به أجزاء خمسة عاد إليها مرّات بالتنقيح والتعديل دون أن يفصل فيها القول. فظلّت مسودّة يعتريها النقصان إلى أن توفيّ وأشرف على إصدارها من بعد وفاته الباحث فوزي الزمرلي .
في هذه الأثناء ينقطع البشير خريف عن كتابة "بلاّرة" وينصرف سنة 1958 تأثّرا بـ"تجربة شخصيّة عنيفة" مرّ بها  إلى كتابة أولى رواياته رواية "حبّك درباني" وقد نشرها أوّل مرّة منجمّة في مجلّة الفكر التي اشترطت عليه أن يعدّل العنوان تخفيفا لطبيعته المغرقة في العامية. فأضاف إليه عبارة "إفلاس" وأصبح "إفلاس أو حبّك درباني". لكنّ قبوله هذا التعديل لم يجعله يتراجع عن إفراطه في إجراء الحوار بالعامية بشكل مطلق، فجرّ عليه حملة انتقاديّة واسعة أعادت إلى الأذهان الاستهجان والإدانة الكبيرين اللذين لقيتهما قصّته "ليلة الوطيّة" عندما نشرها قبل ذلك بعشرين سنة في جريدة "الدستور". على أنّ عنوان هذه الرواية قد عاد إلى سيرته الأولى "حبّك درباني" عندما نشرها المؤلّف كاملة في كتاب. ولم يتمّ له ذلك إلا سنة 1980 حين أصدرها على نفقته الخاصة وفشل في ترويجها وظلّت نسخها مكدّسة يضيق بها المكان. وعلى هذا الأساس فـ"حبّك درباني" هي روايته الأولى تأليفا، ولكنّ "برق الليل" هي الأولى صدورا في كتاب.
ولم يرضخ البشير خريف لهجوم النقاد الصفويّين ولم يرعو. بل استغلّ قربه من أسرة تحرير مجلّة الفكر ليحوّلها إلى قضيّة سجاليّة أشرك فيها عددا من النقّاد التونسيّين على رأسهم الأستاذ الجامعي الناقد فريد غازي. ولعلّ طرح هذه القضيّة للنقاش لاقى هوى وتشجيعا أيضا لدى مؤسّس المجلّة محمّد مزالي وصديقه ومعاونه الأوّل البشير بن سلامة، لاسيّما وأنّ توقيت هذا الطرح توافق مع احتدام نقاش فكريّ وحضاري آخر أعمّ عرفته تونس لم يخل من التوظيف السياسيّ وانصبّ على النظر في مسألة الهويّة التونسيّة وعلاقة الدولة الفتيّة بالمشرق العربيّ.
وانتهت الخمسينيّات بمنح البشير خريف إعفاء من التدريس لأسباب صحيّة، فوسع ذلك من وقت فراغه وزاده عزما على الانصراف إلى القراءة التاريخيّة المركّزة والعمل على إتمام رواية "بلاّرة". لكنّ محاولته لم تشف غليله، ولم يستقم النصّ في عينيه رواية كاملة استطاع توظيفُ التاريخ فيها أن يحمل رؤية المؤلّف للمرحلة التاريخيّة المقصودة، وينهض بالأهداف الجماليّة والمضمونيّة التي رام بلوغها. ورغم المجهود الكبير الذي بذله الباحث فوزي الزمرلي حين أشرف على إصدار هذه الرواية تحقيقا للمخطوط وتبويبا لفصوله، فإنّ الرواية ظلّت تنطق في نسختها المطبوعة أبين النطق عن نقصانها وعدم اكتمالها، فجاءت متشذّرة، كثيرة العناوين الفرعيّة كثرة فاحشة تؤكّد أنّها مازالت مسودّة ومذكّرات قصيرة تنتظر لمسة الفنّان الأخيرة تربط الأجزاء بعضها ببعض، تمازج هذا بذلك وتسكب في نسغ كلّ واحد منها دماء حارّة لا تلبث أن تتدفّق في ما بعد وتترافد في جسد الكتاب الحيّ. هذا ما حاول البشير خريف أن ينجزه فلم يتسنّ له ذلك ولم تهبّ من أعماقه نفثة الخلق السحريّة، فيئس وترك الكتاب مشروعا غير مكتمل. وكان أولى في رأيي أن يبقى كذلك إلى الأبد، فذلك أفضل من أن يخرج مشوّها معوقا. وما أكثر ما عجز عظماء الروائيّين أن يتمّوا مشاريع روايات تعلّقت بها مهجهم تعلّق البدن بالروح !
بيد أنّ ذلك الصراع المرير مع نصّ "بلاّرة" لم يذهب سدى. فما إن عدل البشير خريف عن إتمام هذه الرواية، حتّى عكف على كتابة رواية جديدة تبدو وكأنّها مشتقّة من "بلاّرة" وسمها بـ"برق الليل" ونشرها سنة 1961. فهذه الرواية تدور أحداثها في منتصف القرن العاشر الهجريّ زمن الدولة الحفصيّة وتحديدا عند هروب السلطان الحسن الحفصي من البلد واستعانته بالإسبان الذين أعادوه إلى العرش سنة 1535 واستولوا على البلاد، ثمّ لحق بهم الأتراك واصطدموا معهم في عرض البحر المتوسّط. ولئن جذّر المؤلّف أحداث روايته في قلب التاريخ المرجعيّ، فقد اتّخذ لها بطلا تخييليّا لا وجود له في  التاريخ هو العبد الزنجيّ "برق الليل". وفي موازاة مع حركة السياسيّين وقادة الجيوش الخضارم، عقد خريّف خيوط قصّة عشق تخييليّة ربطت بين الزنجيّ وريم الشابّة الحسناء اللذين جمعت بينهما الصدفة ثمّ حالت المواضعات الاجتماعيّة دون تمام اللقاء. لكنّ القصّة العاطفيّة التخييليّة سرعان ما تشتبك مع القصّة التاريخيّة المرجعيّة وتترافد معها. فبينما كان برق الليل يسعى نحو محبوبته، وجد نفسه في خضمّ الحرب بين الأتراك والإسبان وأصبح عنصرا فاعلا في طرد جيش شارلكان.
أحدثت "برق الليل" عند صدورها ضجّة كبيرة وجلبت إليها نظر النقّاد الذين وإن انتقد بعضهم مواصلة المؤلّف إجراء الحوار بالعاميّة، فإنّهم لي يقووا على أن يتغافلوا عمّا تميّزت به الرواية من إحكام بناء، وطرافة في تشكيل الشخصيّات وعقد علاقات متشابكة بينها، وذكاء كبير في المواءمة بين ماضي التونسيّين وحاضرهم، وكتابة هواجس الحاضر في دفاتر الماضي. وبذلك ارتقى البشير خريف إلى المرتبة التي هو حقيق بها رائدا للكتابة الروائيّة وصاحب أوّل رواية تاريخيّة تونسيّة. فنال جائزة "علي البلهوان" التي تقدمها بلدية تونس، وأخذ يغدو إلى مجالسه بـ"مقهى المغرب" و"دار الثقافة ابن خلدون" وفي البيت العائليّ في المدينة العتيقة، الصحفيّون وشباب الكتّاب ، وقامت الإذاعة بإخراج الرواية مسلسلا إذاعيّا بثّت حلقاته في شهر رمضان سنة 1968.
مثّل ذلك كلّه دافعا حيويّا استمدّ منه البشير خريّف طاقة لمواصلة السير في دروب الكتابة والتأليف. فكانت الستينيّات ومطلع السبعينيّات أخصب فترات حياته. وعلى هذا النحو أصدر سنة 1969 روايته "الدﭬلة في عراجينها" وأعقبها سنة 1971 بمجموعته القصصيّة البديعة "مشموم الفلّ" التي تعتبر درّة من درر القصّة القصيرة التونسيّة. ولئن دارت أحداث "الدﭬلة في عراجينها" في الجريد التونسيّ وغاصت إلى أعماق البيئة الواحيّة معمارا ولغة واقتصادا وعلاقات اجتماعيّة وقيما أخلاقيّة، فإنّ الغالبيّة الغالبة من أقاصيص "مشموم الفلّ" تجري وقائعها وتتحرّك شخصيّاتها داخل المدينة العتيقة في تونس العاصمة كاشفة عن خصوصيّات هذه البيئة وأهمّ مشاغل أهلها وعاداتهم في الأفراح والأتراح.
الانسحاب والعزلة...
بعد هذه "الفورة" الإبداعيّة، دخل البشير خريف بدءا من سنة 1973 إلى وفاته بسكتة قلبيّة في الثامن عشر من ديسمبر 1983، في طور من الصمت والركون إلى العزلة والانقطاع عن الكتابة. فلم يكمل "بلاّرة"، وزهد في التأليف الأقصوصيّ، وخاب أمله في الكتابة المسرحيّة بعد أن فرغ سنة 1972 من كتابة مسرحيّة "سوق البلاط" وعرضها على لجنة الدعم المسرحيّ التي طلبت منه تحوير بعض فقراتها وقسم من عباراتها، فرفض ذلك وأعرض عن طلب الدعم مهملا مخطوطه في رفوف خزانة كتبه.
ما سبب هذا الصّمت ؟ لماذا استبق البشير خريف موته الفيزيقيّ بانسحابه الأدبيّ وليس لنا أن نقول "موته الأدبيّ" لأنّ حياة أدب الرجل في نصوصه لا في حضوره ومواظبته على النشر والكتابة ؟ لماذا انصرف عن الحياة الثقافيّة وخيّر الانزواء شطرا من السنة في عمق المدينة العتيقة يكاد لا يغادر البيت العائليّ الذي تربى فيه، وبين أحضان واحات الجريد التونسيّ شطرا آخر من السنة ؟
يمكن أن نجد في حوارات المؤلّف وبعض من رسائله وشهاداته الأدبيّة نتفا من الإجابات تركّز كلّها على الجوانب الماديّة من عمليّة النشر وتردّي وضعيّة المؤلّف الاجتماعيّة والاقتصاديّة في تونس. فما هو يبوح في فيفري 1982 قبل سنة ونصف من وفاته، بين جمع من المحتفين به في ندوة تحتفل بأدبه، بشعوره بالمرارة جرّاء تعدّي الناشرين والسينمائيّين على حقوقه الماديّة جاعلا من ذلك السبب الرئيس وراء زهده في الكتابة فيقول :" ولقائل أن يقول : أين إخوة برق الليل وخليفة الأقرع وجماعة الدﭬلة في عراجينها هل انتجعوا ؟ فالجواب أنّ دولتنا أصدرت مجلّة في حقوق التأليف وأنشأت مؤسّسات لرعاية الأدب وتشجيعه غير أنّ التصرّف كان سلبيّا. فما من منتج ولا مؤلّف ولا مترجم إلاّ وهو مهضوم الحقّ. فالتجأت إلى القطاع الخاص فما أجدى. فأمسكت واكتفيت بنفسي أتبادل وإيّاها الهواجس والأفكار والأحلام" . وها هو في حوار مسجّل مع فوزي الزمرلي أدرجه الباحث في الأعمال الكاملة بالدارجة التونسيّة، يحمل حملة عشواء على ناشريه والمنتجين السينمائيّين الذين حوّلوا بعض قصصه إلى السينما ويذكر بالتفصيل استيلاءهم على حقوقه وفشله في مقاضاتهم، مؤكّدا أنّ ذلك هو العامل الحقيقيّ لتقاعسه عن التأليف وإكمال ما بدأ فيه من مشاريع قصص ومسرحيّات حدّد عددها بعشرين مشروعا . وفي رسالة من البشير خريف إلى الشاعر نور الدين صمّود بتاريخ 15 أفريل 1978 يصف له فيها حاله وهو مقيم في نفطة وقد أحيل على التقاعد و"تعافى" من الأدب :" أيّها الصديق إقامتي هنا في نفطة إقامة رجل محال على المعاش بل على معاشات. فمنذ أكتوبر الماضي ترسّم اسمي في قائمة قدماء المعلّمين. ومنذ سنوات كبر أولادي وهم يعملون، كلّ في مرتزقه وغالبهم متزوّجون. فلم يبق عليّ إلاّ التفكّه بأولادهم. ومنذ مؤتمر الأدباء بتونس سنة 1973 أحيط بالهواية الأدبيّة. فقد عرضت عدّة مخطوطات على النشر فلم تنشر. فوضعت قلمي في بيت "القربج" . وقلت ما قال البدوي لحبيبته المتجنّية :
ملّة راحة حبّك ندير الصبر في مطراحه
وأمّا أعمالي فهي التلهّي بجنينة في وسط الحوش ومغازلة العجائز ومتابعة حفظ القرآن الذي توقفت عنه منذ السابعة من عمري (...) قد تعافيت من الأدب والحمد لله، وإنّما هي نوبات قليلة متباعدة تنتابني من حين لآخر" .
ما أشبه الأمس بما قبل الأمس ! وما أشبه اليوم بالأمس وما قبل الأمس !
لكأنّني أقرأ في سطور رسالة البشير خريف إلى نور الدين صمّود سطور رسالة أبي القاسم الشابيّ إلى صديقه الناقد محمّد الحليوي قبل ما يزيد عن أربعين عاما وهو يشتكي له من تعثّر جهوده من أجل نشر ديوانه "أغاني الحياة" والصعوبات التي يجدها في ترويج اشتراكات الديوان. وهذه الطريقة كانت متّبعة في تونس في بداية القرن العشرين وتقوم على بيع نسخ الكتاب قبل أن يطبع في شكل اشتراكات يدفع المساهمون فيها ثمن الكتاب مسبقا، وعندما يصدر يتسلّمون نسخهم. وقد جرّب الشابيّ هذه الطريقة لكنّها لم تنجح رغم اجتهاده في توسيع نطاق توزيع الاشتراكات على مناطق عديدة من المملكة التونسيّة حينها شمالا ووسطا وجنوبا، ريفا ومدنا. فكثير ممّن تطوّعوا بتوزيع هذه الاشتراكات لم يوفوه الأموال، وكثير ممّن وعدوه بالمساهمة فيها لم يفوا بالوعد.
ولكأنّني أقرأ في سطور هذه الرسالة نفسها حال كثير من الكتّاب التونسيّين الموهوبين حقّا الذين ما زالوا إلى اليوم يجدون أنفسهم مضطرّين إلى أن يطبعوا كتبهم على نفقتهم الخاصّة أو يقاسموا الناشرين تكاليف الطبع، ومازالوا يسفحون أعمارهم في الجري هنا وهناك سعيا إلى ترويج كتبهم والتعريف بها.
موت الكاتب... ولادة النصّ...
البشير  خريف متحدّثا بالعامية عن أبطاله :"المهم هوما (هم) ماتوا في كتاب باش يعيشوا بعدي".
في الثامن عشر من ديسمبر 1983 توفّي البشير خريف بسكتة قلبيّة عن سنّ تناهز 66 عاما. ولعلّه كان قد أخذ يموت قبل هذا التاريخ بعقد من السنين حين وجد في نفسه ضيقا من الحياة الأدبيّة في بلده وأصابه الاشمئزاز من الوضعيّة الاجتماعيّة المعطاة للكاتب تلزمه بأن يظلّ في الهامش مهما تفرّدت عبقريّته وعلا في عنان السماء إبداعه، وأن يكتفي بدور الضحيّة والشهيد الحيّ الذي يقضي حياته فقيرا معوزا بينما يثرى من آثار قريحته تجّار الكتب. بيد أنّها لم تكن المرّة الأولى التي صمت فيها خريّف ردها من الزمن. فقبلها انقطع عن النشر والحضور في ساحات "الوغى الأدبيّ" بعد أن نشر سنة 1937 قصّته "ليلة الوطيّة" وناله من سهام النقد ما ناله لاعتماده العاميّة في الحوار بدلا من الفصحى. فهل كان سيعود إلى الكتابة ويطلع على الناس برائعة جديدة لو أمهله الموت قليلا وتكرّمت عليه الحياة بسنوات أخر ؟ ولكن ألا تقف النصوص الكبرى أحيانا وراء موت مؤلّفيها ؟ ألسنا نجد في تاريخ الأدب والرواية أحيانا أمثلة كثيرة لروائع أكلت أصحابها ؟ ألم يمت العظيم الروسيّ دوستويفسكي بعيد إتمامه "الإخوة كارامازوف" روايته الأهمّ والأحكم إبداعا، وإن كانت جلّ أعماله من الروائع ؟ وألم يفارق العملاق الفرنسي بلزاك قبله الحياة فور أن اكتمل مشروعه الروائي الضخم "الكوميديا البشرية" ؟ وبعدهما بعقود ألم يستسلم مرسيل بروست إلى الموت مرحّبا به بعد أن أتمّ رائعته "بحثا عن الزمن الضائع" وكأنّه ما صمد في وجهه وقاوم وقاوم إلا لكي ينهيها؟
فلعلّ البشير خريف لا يختلف كثيرا عن هؤلاء، وما حديثه عن وضعيّته الماديّة واستيلاء الناشرين والسينمائيّين على حقوقه تفسيرا لصمته واعتزاله الأدب، الاّ مخاتلة للآخرين ولذاته أوّلا. أفلا يكون وراء ذلك الصّمت ما شعر به بعد كتابه "الدﭬلة في عراجينها" هذا النصّ الاستثنائيّ، من استفراغ للكيان وإحباط مميت وقد بلغ المبدع من الخلق الأدبيّ أقصاه...
الكتابة شوق إلى الكمال، فمتى بلغه المرء سقط في العدم... والكتابة الحقّ، الكتابة الحوشيّة المنفلقة من لبّ الكيان كما ينفلق الماء من الصخر تتطلّب فداء لجسد النصّ بجسد الكاتب، وخلودها لا يحتمل وجودين، فمتى وجد النص تحتّم أن ينطفئ وجود صاحب النصّ...
لقد شيّد خريف في "الدﭬلة في عراجينها" ودشّن عالما بكرا حيّا يغمره الشعر أرضا وسماء، نخيلا أبكارا وحقولا ووهادا، بيوتا وأكواخا، مناجم فسفاط وزوايا صوفيّة، مساجد لمصلّين وحوانيت لشاربين، عالما استطاع أن يتسلّل إلى ما في الواقع اليوميّ الحياتي المبتذل من جوهر وعمق فحوّل حيوات البشر المهمّشين إلى أساطير يمكن أن تصدق مع كلّ البشر، وكشف عمّا يكمن في الأشواق الإنسانيّة الكبرى إلى الحبّ والحريّة والخلود من صلات متينة بصراع الفرد اليومي مع واقعه الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ومع أخيه الإنسان... عالما متعدّد الألوان متحوّلها متموّجها ليس الأبيض فيه أبيض ولا الأسود أسود، وإنّما لكلّ لون ألوان ودرجات وتمايزات. فمن كان غافلا في الحياة عن رؤية مهرجان ألوانها، يمكن حين يقرأ هذه الرواية أن يرى ما في الخيّر من شرور، وما عند التقيّ من استعداد للوقوع في الإثم، وما في القويّ من ضعف، وما يعتمل في نفس الشجاع من جبن...
موكب من الحياة هي هذه الرواية وإن كان الموت هو بطلها الحقيقيّ... لقد أوهمنا خريّف في العنوان الذي تخيّره لأثره أنّ "الدﭬلة في عراجينها"، ولكنّه لم يفعل في الحقيقة غير إنزال العراجين من النخلة عرجونا عرجونا ودفنها واحدا وراء الآخر في مقبرة الواحة. لقد كان الموت مصير الأخيار من شخصيّات القرية ديجة ومكيّ والعطراء، مصير العراجين المثقلة ثمارا... واحدا وراء الآخر ساروا مبكّرا في ريعان الشباب إلى العالم السفليّ، يفتدون الواحة تلك التي صوّرت في الصفحات الأولى من الرواية وكأنّها جنّة الخلد، بأجسادهم وأعمارهم من شرّ "حفّة" وجشعه إلى الكسب الحرام... وكلّما ماتت شخصيّة من هذه الشخصيّات الثلاث كان فصل من فصول الرواية يكتمل، وطابق من طوابق صرحها يعلو...
بيد أنّ المؤلّف ما كان يدري وهو يقتل أبطاله أنّه إنّما كان يستفرغ ينابيع كيانه، فما اكتمل البناء واستقامت الرواية ريّانة بهيّة يسحر منظرها الألباب حتّى وجد الخلاء يحيط به والفراغ يتربّص بوجوده. وحينها أدرك تلك الحقيقة الرهيبة التي تحكم علاقة المؤلّف الكائن الحيّ الحقيقيّ بشخصياته، تلك الكائنات اللغويّة التخييليّة: يقتلها في الرواية لتبقى بعده في الحياة. فقال بلهجة تونسيّة يتداخل فيها التهكّم بالتحسّر :"المهمّ هوما ماتوا في كتاب باش يعيشوا بعدي".
وما من ريب في أنّ موت الكاتب الحقيقيّ، المبدع الحقيقيّ سواء أكان موتا أدبيّا رمزيّا أو موتا جسديّا فيزيقيّا إن هو إلاّ أمر نسبيّ ومجرّد اصطلاح. بل إنّ الأمور لتلتبس أحيانا فإذا بقاء الكاتب حيّا يعاصر كتبه يمكن أن يؤدّي إلى موته الأدبي وتكون حياته حجابا يعمي الأبصار عن بدائعه، وإذا موته في غالب الأحيان يكون حافزا لاكتشاف نصوصه وإنصافها. ولا شكّ في أنّ من ترك بين الناس روايات تزداد حياة وجدّة كلّما قدم بها العهد وانتشرت في الأرض، ومن استطاع أن ينشئ عوالم ويبعث الروح في الشخصيّات القصصيّة والروائيّة... هو كائن لا يموت...
والبشير خريّف مثله مثل كبار الروائيّين في العالم من نجيب محفوظ إلى دوستويفسكي، ومن الطيّب صالح إلى بلزاك، ومن إدوار الخرّاط إلى جويس، حيّ بيننا لم يمت، بل هو أكثر حياة منّا فله في كلّ قراءة جديدة لأحد آثاره حياة، وفي كل دراسة تنجز في أحد كتبه حياة..
ولعلّنا لا نفعل اليوم ونحن نحتفل بمائويّته إلاّ تأكيد حقيقة أنّه موجود بيننا يتخفّى في أجفان الاستعارة رائيا إلينا، ماكرا بنا، ساخرا منّا... وما هذا المقال إلاّ إطلالة تبحث عنه لتهنّئه بعيد ميلاده المائة الذي يحلّ بيننا هذه الأيّام في العاشر من أفريل 2017، ولتقول له : عيدا سعيدا... ميلادا جديدا...

نقلا عن مجلة الجسرة الثقافية

تعليقات