حبيب الزرقي يكتب عن قانون المصالحة في المجال الاداري

قانون المصالحة في المجال الإداري ... اعتناء بالماضي على حساب المستقبل .
الثابت أنّ قانون المصالحة الاداريّة الذي أمضى عليه الرئيس مؤخّرا يعدّ من أكثر المسائل التي شغلت الساحة السياسيّة في تونس وواحد من اكثر القوانين التي أسالت الحبر حولها بين مساند ومعارض ، وليس في وارد الحديث هنا تناوله من وجهة نظر قانونيّة والبحث في مدى مطابقته للدستور من عدمه ، فقد سبق وأن تناول  هذا الامر  العديد من الأساتذة في القانون والقانون الدستوري كما العديد من المحامين والقضاة ولكن ما يهمّنا هنا تناوله بالتحليل والمقاربة هو ما يمكن اعتباره فلسفة القانون أو فكره المحرّك ، إذ طبيعي أن تكون له غايات ومرام ، وأن يكون مع وضد وأن يكون له المع والضد ، وأن يكون له موقع وتموقع داخل لا الخريطة السياسيّة فقط بل وأيضا داخل الخريطة الاجتماعيّة بتشعّباتها وتناقضاتها ، وطبيعي كذلك أن تكون له آثاره على المنظومة القانونيّة والاداريّة، وأن تكون له خلفيات تحرّكه وتصوّرات تجاه هذه المنظومة بالذات والدور المنوط بعهدتها ... فهل اللّجوء الى مثل هكذا قانون فيه إقرار بفشل المنظومة القانونيّة القائمة على الاقل في ما يتعلّق بهذا الجانب ؟ وهل الجرم الذي اقترفه الموظف أو شبهه في إطار عمله خلل يتحمّل فيه الموظّف المسؤوليّة عن فعله أم هي ثغرة حاصلة في طريقة عمل الإدارة ككل ؟ ما الاجدر حينها والأكثر جدوى : هل هو اصلاح الإدارة ككل أم إنقاذ بعض الموظفين ؟ وهل هذا القانون سيضمن عدم تكرار نفس الممارسات السابقة والحال أنّ الإدارة هي هي والقوانين والترتيبات هي نفسها ؟ فإذا أنقذنا بعض الموظفين ، فمن ينقذ الإدارة بأسرها ؟ وهل أنّ الفصلين 42 و96 من المجلة الجزائيّة والفصل 544 من مجلة الالتزامات والعقود لا تفي بالغرض ، أم أنّ القانون جاء بالضبط للإطاحة بهذه الفصول لأنّها على وجه التحديد تفي بالغرض ؟؟ هل كان من الضروري اقتراح قانون جديد والحال أنّ القوانين القديمة متى ما عُدّلت وحُيّنت يمكن أن تفي بالغرض ؟ هل يمكن للحاكم سنّ ما يراه من قوانين أم عليه العمل في اتّجاه ووفق افق انتظار يحدّده الواقع المتحرّك والمتغيّر ؟
(1)
يشير الفصل الاولّ من هذا القانون الى الأهداف في ما يشبه عملا انشائيا يقوم على الاحتمال والتأويل وليس على التفسير والتدقيق المطلوب من جهة القانون ، إذ يقول " يهدف هذا القانون الى تهيئة مناخ ملائم يشجّع على تحرير روح المبادرة في الإدارة وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزّز الثقة في مؤسّسات الدولة ... " ورغم هذا الكم الهائل من " الطموحات والاهداف " والتي لا ندري كيف يمكن لقانون يتيم وخاص جدّا أن يحقّقها أو حتى يُساهم في تحقيقها ، يهمنا أن نشير الى ما فيه من تعويم وتعميم وتعميّة على الأهداف الحقيقيّة :
- " تحرير روح المبادرة " جملة عامّة مبهمة ، إذ المطلوب هو تنظيم المبادرة وفق القانون والترتيبات وهو ما كان من المفروض توفّره بعد 14 جانفي . إلاّ إذا كان هنالك معنى آخر للجملة ؟
- " ينهض بالاقتصاد " ... الا يستدعي ذلك اصلاح الإدارة والحدّ من الإجراءات البيروقراطيّة التي تعرقل الاقتصاد والعمل على تقريب الخدمات الاداريّة من المواطن وإعادة توزيع الإدارة التونسيّة بما يستجيب لروح الدستور ومبدأ اللاّمركزيّة والتمييز الإيجابي ... فهل غفل رئيس الدولة عن كلّ ذلك للنهوض بالاقتصاد الوطني ولم يره سوى في هذا القانون ؟ وهل النهوض بالاقتصاد يتطلب تحرير المبادرة أم تنظيمها ؟
- " يعزّز الثقة في مؤسّسات الدولة " ؟ كلام غامض جدّا ، فهذا القانون يؤسّس لسياسة الإفلات من العقاب ، ويجعل من كانوا مشمولين بالمحاسبة والمساءلة في حلّ منها ، فمن المعني هنا بتعزيز الثقة في مؤسسات الدولة ؟ هل هو الموظّف وشبه الموظّف الذي سيستجيب للتعليمات أيّ كانت وهو على ثقة في أنّ هذه المؤسّسات ستحميه ؟ أم المواطن الذي يرى في المجرمين في حقّ مؤسسات الدولة وفي حق القانون يفلتون من العقاب ؟
(2)
   إنّ الامر لازال متواصلا ما بعد 14 جانفي والى يومنا هذا الذي فيه الرئيس الممضي على القانون رئيسا والوزراء وكتاب الدولة والموظفين السامين و... واقعين تحت ضغط اللوبيات والأحزاب أو هم يأتمرون بأوامرها ويستجيبون للتعليمات المنافية للقانون والمصلحة العامّة ـ سواء كان ذلك بإرادتهم أو من دونها ـ فماذا سنفعل يوما ما حين يهبّ الشعب ( عفويا ) من جديد ؟ هل بعد مسار محاسبة ومحاكمة سيأتي رئيسا ما ( مثل هذا ربّما ) ويستصدر قانونا جديدا يبرّئهم ؟ هل هم مسؤولون عمّا يقترفون من جرم ويحاسبون على معنى الفصل 96 و42 من المجلة الجزائيّة أم لا ؟ اليس من الاجدر الانتباه الى من يخترقون القانون اليوم ويستجيبون لتعليمات وأوامر حتى من خارج دائرة رؤسائهم الإداريين عوض تبرير هذا التجاوز في السابق عنوانا لتبريره راهنا ؟
(3)
إنّ المشكل ـ كلّ المشكل ـ ليس في القانون في حدّ ذاته ، ولا في ما يمكن اعتباره ثغرات قانونيّة " تنبّه " لها صاحب قانون المصالحة في المجال الإداري ، بل المشكل يكمن أساسا في العقليّة التي سادت وترسّخت في الإدارة التونسيّة والتي باتت تعمل وفقا للتعليمات والاوامر من دون الرجوع الى القانون في غالب الأحيان ولا الاطلاع على الرائد الرسمي أو النص الدستوري ، وإزاء هذا الوضع فإنّه لا معنى لأيّ قانون جديد ما لم يكن سائرا في اتّجاه اصلاح الإدارة التونسيّة بما من شأنه أن يضمن عدم تكرّر مثل هذه الممارسات والتجاوزات ، فهل يضمن هذا القانون ذلك ؟ قطعا لا ، فهو يتناول نتاج الوضع الإداري السائد ويهمل الأسباب الكامنة وراء ذلك وهو ينصبّ على الفرع ويترك الأصل . فحدوث مثل هذه التجاوزات دليل على انّ هنالك خلل جوهري في الإدارة التونسيّة وجب الانتباه اليه والعمل على إصلاحه .
(4)
    ما الذي جعل رئيس الدولة يستعجل النظر في هذا القانون بالذات في الوقت الذي فيه الإدارة التونسيّة في حاجة لإصلاح شامل وآلاف الملفات المفتوحة في مختلف المجالات تنظر الحسم ومثلها من القضايا المنشورة منذ سنوات ؟ يمكننا فهم ذلك على ضوء الرجوع الى الفصل الثاني من القانون ومعرفة من هم المعنيون بها ، يشير هذا الفصل الى أنّه " لا يخضع للمؤاخذة الجزائيّة الموظفون العموميون واشباههم على معنى الفصلين 82 و96 من المجلة الجزائيّة بالنسبة للأفعال التي تمّ القيام بها والمتصلة بمخالفة التراتيب ( القانون ) أو الإضرار بالإدارة ( المصلحة العامة ) لتحقيق فائدة لا وجه لها للغير ... " بمعنى آخر أنّ من استعمل سلطته وصلاحياته الاداريّة من الموظفين واشباههم لتحقيق مصلحة للغير غير مشروعة ومخالفة للتراتيب والقوانين المعمول بها ... لا يخضع للمؤاخذة ؟؟ بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك باعتماد تعليمات وأوامر أي تحت الاكراه من عدمه ؟؟ وإذا عرفنا من ناحيّة ثانيّة أنّ هؤلاء الموظفين وأشباههم ـ والذين يبلغ عددهم قرابة 1500 ـ هم الوزراء السابقون وكتّاب الدولة والسفراء والقناصل والرؤساء المديرون العامون والمديرون وكبار المتصرّفين في الماليّة العموميّة ... سنعرف حينها أنّنا بصدد الحديث عن شريحة محدّدة من البيروقراطيّة التي تمثّل واجهة من واجهات النظام وأحد مكوّناته الاساسيّة ، وانّنا بالتالي إزاء لا فقط عمليّة إحياء مستعجلة للنّظام القديم ـ في شقّه البيروقراطي الإداري خاصّة ـ بل واساسا إزاء عمليّة استقطاب سياسي حزبي تتاجر بالقانون وتوظّفه لصالحها ، مبرّأة عناصر الإدارة الفاسدين في عمليّة دوس على القانون بنفس الأسلوب والطريقة التي يُداس بها عليه في السابق وتأكيدا لمبدأ الإفلات من العقاب ... إنّ الدولة البيروقراطيّة التي بناها جيل بورقيبة تحوّلت الى دولة منتجة ومشجّعة على الفساد ، ونيّة الإصلاح يجب ان تنكبّ على درس أسباب هذا الفساد والوقوف على الثغرات القانونيّة الحاصلة والمؤديّة له كما انصاف من اكرهوا على الانخراط في ذلك ، وهو ما كان من المفروض أن يؤمّنه مسار العدالة الانتقاليّة والعمل على اصلاح المنظومة القانونيّة وتحيينها وتعديلها بما يتلاءم والواقع المتحرّك والمتغيّر ، وهو بالضبط ما يمكن أن يحرمنا منه هكذا قانون ويغلق الطريق أمامه بحيث لا نعرف كيف تمّ الفساد وما هي وجوهه وكيف يمكن محاصرته والحدّ منه ... لقد كان من الاجدى والواجب لا العمل على حماية ماضي الفساد بل السعي لتأمين مستقبل خال منه ...
(5)
يرد في نصّ قانون المصالحة كما في الفصل 96 من المجلّة الجزائيّة عبارة قانونيّة فضفاضة جدّا : " شريطة عدم الحصول على منفعة لا وجه لها لأنفسهم " ، إنّ القانون هنا يتحدّث عن فائدة ماديّة كحصول العون على رشوة أو عمولة أو ما شابه ، ولكن هنالك منافع وفوائد ادبيّة ومعنويّة عديدة يمكن أن تنجرّ عن تلك " الخدمة " لعلّ اوّلها محافظته على وظيفته والارتقاء فيها على حساب الاخلال بواجباته من دون أن يحاول "درأ " القوّة القاهرة ، بل القانون الجديد يعفيه حتى من ظروف الرضوخ لهذه القوّة ؟؟ وقد تكون المنفعة متحقّقة لغيره كأبنائه أو أبناء عمومته ، أوقد تكون منفعة سياسيّة أو مجرّد وجاهة اجتماعيّة أو سلطة معنويّة ... الا تعتبر هذه مصالح يصعب رصدها أو حصرها ؟ ألم يكن من الأجدر اعتبار المصلحة حاصلة آليا لمجرّد تقديم الخدمة ؟؟ 
(6)
  هنالك مسألة مهمّة جدّا يمكن تسميتها بأفق الانتظار أو الانتظارات القائمة ، إنتظارات لا ترتبط ضرورة بدرجة تشكّل الوعي الجماهيري راهنا بقدر ما تستجيب لمصالحها الحقيقيّة من ناحيّة ولمطالبها التي عبّرت عنها في شعاراتها المرفوعة إبّان انتفاضتها في 17 ديسمبر / 14 جانفي من ناحيّة ثانيّة ، فمن المفروض أن يكون القائم على الشأن العام ومن له القدرة على سنّ القوانين أو اقتراحها ومن بيده السلطة أن يعمل ـ وفي مطلق الأحوال ـ على مقاومة الفساد وسوء التصرّف في المال العام والاضرار بالمرفق العام والمصلحة العامّة ، الى جانب تكريس مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب على معنى الفصول القانونيّة الكثيرة المتوفّرة في المجلّة الجزائيّة أو مجلّة العقود والالتزامات ، ومن المفروض ـ وهو يحكم البلاد على اثر تغيير سياسي أدّى الى تغيير الدستور وأسلوب الحكم وأطاح بسلطة سياسيّة اتّسمت بالفساد والمحسوبيّة أن يحكم ويسنّ القوانين على قاعدة مقاومة هذا الفساد واسترجاع حقّ الدولة والمجموعة الوطنيّة بما هو حقّ الشعب فالقانون لا يمكن أن يلغي الأساس الذي يقوم عليه وهو الدستور ، كما أنّه لا يمكن لمن يحكم ويسنّ القوانين أن يذهب في الاتّجاه المعاكس تماما لما أتى به للحكم وان يسير عكس رغبات الجماهير ومصالحها وانتظاراتها مستهينا بما هي عليه من وهن راهنا وبما لحق بوعيها من تخريب وتزييف ، ففي اللحظة التي ستستفيق فيها من جديد ستجد أنّ سنوات ووقتا ثمينا قد أُهدر في الجدف في التّجاه المعاكس لمصلحتها وستكون ردّة فعلها أعنف ممّا يمكن تصوّره ... إنّ العمل ضدّ مصالح الجماهير عن نيّة مبيّتة والانقلاب على تعهّدات ومواثيق وعهود أمر بالغ الخطورة لا على الحاكمين فقط بل على البلاد برمّتها ...    
               
                                                                     الأستاذ : حبيب الزرقي     
       

تعليقات