السيرة الشعبية

                      


49 - السيرة الشعبية                     " حمدا لمن جعل من سير الأولين عبرة للآخرين "
                                                                           ( السيرة الهلالية )

لم يكن اقتراحي موضوع السيرة الشعبية للدورة الحادية عشرة من ملتقى المرزوقي
صدفة أو ارتجالا , فأنا أعيش مع السير الشعبية منذ الطفولة حين حضرت في أوائل
الخمسينات حلقة في بعض أسواق تونس , ينتصب في وسطها راوٍ ( فداوي ) يضرب
البندير , ويتغنى ب"سيف اليزل " كما كان يقول .
وعلى قدر التصاقي عن طريق والدي بالسيرة الهلالية , فإنني بحثت على مدى سنين عن
نصوص السير الأخرى حتى كونت مكتبة " متواضعة " من الطبعات الشعبية لسيرة
عنترة , وسيف بن ذي يزن , ورأس الغول , والمهلهل الخ ...
قرأت ألف ليلة وليلة في طبعة بولاق ولم أتجاوز العاشرة , فانبهرت بسيرة " دليلة
المحتالة وابنتها زينب النصّابة " .
وقرأت " سيرة عنترة " في طبعة دار الهلال " المهذّبة" ( ؟ ) , فإذا بي أعيش
مع أحداثها كما عشت بقلب طفل صغير حين شاهدت شريط عنترة الذي كتب حواره
وأغانيه بيرم التونسي بلهجة مقاربة للهجة الجازية .
والحقّ أن ثقافة السير هذه ثقافة عتيقة قد تكون صالحة قبل خمسينات القرن العشرين
لكنها اليوم لا تعني شيئا كبيرا مع مسلسلات التلفزيون , وفنون الفرجة الحديثة .
ويصف نجيب محفوظ في بداية روايته - واعتبرها أفضل رواياته على الإطلاق - ( زقاق
المدق ) عملية طرد " الفداوي " العجوز الضرير من المقهى بعد أن اقتنى صاحبه مذياعا
يغني عن كلّ هراء الحكواتي , ويمتع الزبائن ليلا ونهارا بلا كلل .
لكنّ نصفي المتعلق بالعتيق , الرافض للآلة وما ينعت ب" التكنولوجيا " , متشبّث
بالسيرة الشعبية , يجد فيها الكثير من هويته , وآفاقه , وأحلامه العاشقة .
يمكن أن نبحث في السيرة بالمناهج الحديثة , وهو ما فعله ويفعله عدد من الدارسين
في بلدان عربية أخرى , ويمكن أن نستوحي منها نصوصا , وأغاني , ورقصات ,
وفنونا , ومشاهد فرجة , وهو ما تمّ , ويتمّ .
لكن الثابت أننا ضيّعنا الكثير من تراثنا حين احتقر " مثقفونا " هذه النصوص الشعبية
فتلقفها الأوروبيون بلهفة , واشتغلوا عليها , وأخرجوا منها ما أخرجوا .
أليس من المخجل مثلا أن يكون رمسكي كورساكوف الروسي الموسيقي الوحيد الذي
وضع قطعتين سمفونيتين هما ( شهرزاد ) وهي معروفة , و( عنترة ) وهي أقلّ شهرة ؟
إن السير الشعبية محاولة من الطبقات الشعبية , والقبائل العربية , لوضع تاريخ -
مضادّ يعوّض التاريخ " الرسمي " , تاريخ الملوك والأمراء , وذوي الجاه .
إنها صرخة ضد الظلم , والمهانة , والتمييز .
وهذا ما يفسّر اهتمام المؤرخ ( ابن خلدون ) بها , بعد أن بيّن بجلاء عدم رضاه عن
التاريخ المفروض في مقدمته .
لقد حان الوقت - في رأيي المتواضع - لاستعادة هذا التراث , أو ما بقي منه , لأنه
باختصار جزء من هويتنا .
لهذا , كان ملتقى المرزوقي , خطوة في هذا الاتّجاه , أرجو أن تتواصل , في دورات
قادمة .




تعليقات