دوز

                       علامات      17        بقلم رياض المرزوقي               
( العلامات روح الطريق )
************************************

48 - دوز                  "   في نخلها السامق العوالي   يرقى معي للسما خيالي  " ر.م    

أعود إلى ( دوز ) مرّة أخرى وكأنني أعود إلى أمّي ..
وحكايتي مع ( دوز ) أكبر من أن تحصر في جمل وكلمات ..
إنها عشقي المتأخر , ولكنه أصدق عشق ..
دخلتها بعد وفاة ( محمد المرزوقي ) سنة 1981 , وعمري بضع وثلاثين من السنين ,
كنت في مهمة وواجب حرم منه المرحوم , وهو إلقاء محاضرة عن ( الصليعي ) أتمّها
( المرزوقي ) قبيل وفاته , وكان ينوي إلقاءها في مهرجان الصحراء كعادته في عديد
الدورات .
ألقيتها وقلبي ينتفض لرهبة الموقف .. كنت أقرأ أبيات الشعر الشعبي قراءة المبتديء
الحريص على سلامة النطق , الخائف من التعثّر . كنت أجهل كل شيء تقريبا عن
الشعر الشعبي , فأنا لا أعرف ولا أنظم إلا الفصيح ...
واليوم أسخر من موقفي ذاك , بعد أن تشربت موروث الشعر الشعبي حتى ارتويت ,
واشتغلت عليه عقودا من الزمان , بل وأصبحت أنظم فيه نظما خاصّا بلا شك , ولكنه
راسخ القدم , متين .
لم تعد اللهجة المرزوقية ترهبني , ولا نطق القاف الثقيلة يقلقني , وكأني اكتسبت
حياة جديدة , وأصبحت إنسانا جديدا .
حتى الصحراء كنت أتأملها في الثمانينات بعين الغريب , الذاهل من مداها , الغارق
في كثبانها , المتكلف للحديث مع ناسها . وأنا اليوم جزء منها , أسكن رمالها ,
وتسكن في وجداني , وأرتاح للحوار مع أهلها ... وهم أهلي .
أشعر كلما قصدت ( دوز ) أني كسبت سنين إضافية في عمري , وأكاد عند العودة
إلى المدينة أحسّ بأن جزءا مني بقي فيها .
ولدت ونشأت في المدينة , وأحببت كل زقاق فيها , وعشقت التجوال في شوارعها
ونواحيها , ولكني اليوم أشعر أنني كالسجين بين جدران الاسمنت , المرهق ضجيجا
ودخانا , وحريتي تنطلق عندما تطأ قدمي رمال ( دوز ) .
وبعبارة , أنا منفي هنا , تماما كما كان والدي طيلة حياته .
لست رومانسيا , ولاشيء يزعجني أكثر من التعبير المبالغ عن العواطف . لكنني
في ( دوز ) أتجاوز الرومانسية المعروفة , وأعيش هدير الأحاسيس , لا كالنسمة
أو الغيمة العابرة , ولكن كالإعصار , أو البركان ..
أخشى أن لا يبقى لي نبض إذا تعددت رحلاتي إلى ( دوز ) , فأنا أترك فيها كلّ مرّة
شيئا من قلبي !











تعليقات