الأستاذ البشير بن سلامة وزير الثقافة الاستثناء

الأستاذ البشيـــر بن سلامـــــة
                      وزير الثقافة الاستثنـــــــــــاء
بقلم : الناصر التومي

          كان استثناء، نادرة هي الشخصيات التي إذا أسندت لها المسؤولية، تحملتها وأخلصت لها، ففتحت الآفاق، وكسرت الرتابة، وخلقت حركية في مجال تخصصها ومسؤولياتها، و شهد لها الجميع بالتوفيق، بعد أن أرضى الأغلبية، وإذا ذهبت، تركت فراغا هائلا يصعب ملؤه، إنهم قلة قليلة، أحدهم الأستاذ، والأديب البشير بن سلامة وزير الشؤون الثقافية في آخر عهد بورقيبة، ما بين 1981و  1986.
           شهدت سنوات توليه وزارة الشؤون الثقافية حركية لا مثيل لها، لم يجلس يأمر وينهي وينتظر من مساعديه مبادرات قد يرضى عنها أو لا يرضى، بل ليكون هو المبادر، والباعث للأفكار، والمحفز للهمم على الخلق والإبداع، وبلغت لمساته كل القطاعات الثقافية دون استثناء، الكتاب، والمسرح، والسينما، والموسيقى، والرسم والنحت، والتراث، وكل ما يمس الحقل الثقافي، إشعاع، وخلق وإبداع، لم يشهد له مثيل من قبل، ولم تتكرر بعده.
من إنجازاته بعث: بيت الحكمة ـ المسرح الوطني التونسي ـ  أيام قرطاج المسرحيةـ الفرقة الوطنية للموسيقى ـ مهرجان الأغنية التونسية ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ الذي حل فيما بعدـ  الصندوق الوطني للثقافة ـ المعهد العالي للمسرح، المعهد العالي للموسيقى، المعهد العالي للتنشيط الثقافي،ـ صندوق الانتاج السينمائي ـ مركز الدراسات والتوثيق الخاص بالتنمية الثقافيةـ المعرض الدولي للكتاب ـ إحداث 12 جائزة في الميدان الثقافي.
           لقد وجد أرضية خصبة للعمل، يسنده الوزير الأول محمد مزالي، أحد رموز الثقافة بالبلاد، لكن هذا المعطى لم يكن المرتكز الأساسي ليحقق مشروعه، لو لم يكن مؤمنا بدور الثقافة ككل في أي نهضة، ولو لم يكن متشبعا بسحرها في إزالة بقايا غشاوة التكلس الفكري.
ولم يكن يكتفي ببعث الأطر الثقافية، ومتابعة أنشطتها، وتشجيعها ماديا ومعنويا، والحيلولة دون زوغانها عن مسارها الصحيح، وتعديل أوتارها إذا لزم الأمر، حتى تقوم بدورها المؤمل منها، بل كان يقوم بمبادرات لم نلمسها من غيره، وذلك بدعوة كاتب ناشئ، رأى فيه بوادر  قد تؤهله لأخذ مكانه بين المبدعين، لو واصل بثبات وعزم مسيرته التي ابتدأها.
  حدث ذلك معي، نشرت عديد القصص بمجلة الفكر بداية من أواخر السبعينات، حيث كان الأستاذ البشير بن سلامة رئيس تحريرها. وخلال سنة 1982 اتصل بي سكرتير تحرير مجلة الفكر وأشعرني أن السيد وزير الشؤون الثقافية يرغب في لقائي بمقر الوزارة، ولما لامس من وجومي عدم التصديق، أكد لي أن المسألة جد، ويمكن أن أختار التوقيت المناسب. كان الخبر أقرب إلى الحلم، ولمّا استفسرته عن السبب، أضاف بأن الأستاذ البشير بن سلامة  يتابع قصصي المنشورة بالفكر منذ أربع سنوات، و معجب بتجربتي، وهي دعوة منه للتحية والتعارف.
           حزمت أمري وأخذت معي مجموعتي القصصية البكر ـ كل شيء يشهق ـ وقصدت الوزارة وأنا غير مصدق ما أنا مقبل عليه، فمن أكون حتى يطلب مني وزير الشؤون الثقافية مقابلتي، وهل يفعل ذلك مع كل الكتاب، وهل له الوقت الكافي لمثل هذه اللقاءات التي يمكن الاستغناء عنها، كيف أحضى بمقابلة وزير الشؤون الثقافية، وقد يحال أحد المديرين العامين للأمن الوطني على التقاعد، ولا أرى طلعته العبوسة حتى في ردهات الوزارة، أما وزير الداخلية فحدّث ولا حرج، وتكفيك صوره في وسائل الإعلام.
         الغريب أنني لم أنتظر طويلا، فسرعان ما قادوني إلى مكتبه، ما إن دخلت حتى قام من مجلسه وصافحني بترحاب، وكأنه ينتظر صديقا عزيزا، أو أحد الشخصيات الهامة بالدولة. لاحظ ارتباكي فأنقذني بكلمات إطراء لبعض القصص التي نشرت بمجلة الفكر، وشجعني على القراءات الجادة لأهم الفنون، وإتقان اللغة الفرنسية على الأقل حتى أتمكن من خلالها الاطلاع على الآداب الغربية. العجيب أيضا أنه يعلم عني تقريبا كل شيء، وخاصة انتمائي لسلك الأمن، التي لا يستسيغها أغلب المثقفين. كانت دقائق لا غير أعطتني شحنة كبيرة من الإصرار على مواصلة الطريق بأكثر ثقة و ثباتا.
         أقيل من منصبه سنة 1986 في عملية مبرمجة هادفة لقص أجنحة الوزير الأول محمد مزالي في انتظار إقالته هو أيضا، ولعلي أعجبت كثيرا وهو يواجه الرئيس بورقيبة يوم إعفائه، قائلا في أخر تصريحاته:
  ـ أشكركم يا سيادة الرئيس لأنكم أعطيتموني فرصة لأنفذ مشروعا ثقافيا رائدا، وعدّدت له الانجازات انطلاقا من بيت الحكمة مرورا بالمجلس الأعلى للثقافة، ووصولا بأيام قرطاج المسرحية، والمسرح الوطني، والفرقة الوطنية للموسيقى، ليتدخل المنصور السخيري لينهي المحادثة ـ.
        وكانت بداية النكسة لوزارة الثقافة، حيث تولتها شخصيات، بعضها ظل للقصر، والبعض الآخر مصرّف أعمال لاغير، وبعضهم لايمكن أن يكونوا إلا على رأس وزارتي الدفاع أو الداخلية، يفتقدون للمبادرات، ولا يمتلكون نظرة استراتيجية للثقافة كما يجب أن تكون، من خلال تاريخها، وعقيدتها، وتقاليدها، ومكانتها الجغرافية، وقد نصدّق بعض من  يدّعي أنهم مثل بقية وزراء بن علي الآخرين، لا حول لهم ولا قوة، هم ديكورات، واجهات بلورية، بينما المستشارون بالقصر، وعائلتي بن علي، والطرابلسية، هم الذين يمثلون الحكومة الأصلية. أحدهم استقبل الهيئة المديرة للنادي الثقافي أبو القاسم الشابي، وكنت من بينهم، واستمع إلى نواقص النادي وضعف المنحة السنوية للتصرف التي كانت  خمسة آلاف دينار، ووعدنا  بمضاعفتها، في انتظار دراسة كامل الطلبات الأخرى، وما راعنا في السنة التالية أن المنحة عوض أن تتضاعف نزلت إلى النصف، فحتى المصداقية افتقدوها.
  ولكي لا نظلم الجميع فقد كان الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي آخر وزير ثقافة في حكومة بن علي البلسم الذي داوى بعض الجراح، ولامس منه الجميع حسن النية، ومحاولة معالجة بعض الأوضاع، لكن يظهر أنه كان مكبلا بضعف الميزانية، والتدخلات من مستشاري القصر وعائلتي بن علي  والطرابلسية.
           وما أريد أن أركز عليه أن وزارة الثقافة لم تشهد  نشاطا ثقافيا ممتازا إلا بواسطة وزراء ولدوا من رحم الثقافة، كالبشير بن سلامة وعبد الرؤوف الباسطي.
           لقد كانت سياسة بن علي بعد إقالة البشير بن سلامة في آخر عهد بورقيبة هو ضرب وزارة الثقافة، التي عرفت انتعاشة شهد بها القاصي والداني، وذلك بحل المجلس الأعلى للثقافة، الذي من مهامه تحديد السياسة الثقافية بالبلاد، وكانت الضربة القاضية القاصمة للظهر إيقاف ضخ عائدات الصندوق الوطني للثقافة في الشأن الثقافي، حتى يقطع عنها عائدات مادية هامة، لتحال على ميزانية الدولة، وبذلك يعجز أي وزير عن النهوض بكل ما تتطلبه الأنشطة الثقافية المختلفة والمتعددة. و تبقى هذه الوزارة صاحبة الرقم القياسي من ناحية ضعف الميزانية بمقارنتها ببقية الوزارات.
      ولقائل أن يقول لماذا حدث هذا؟، الجواب بسيط، فبن علي غير مثقف، و يكره الثقافة، وخاصة لما لم يجد تجاوبا لدى الطبقة المثقفة بصفة عامة، والمبدعين بصفة خاصة فجر اعتلائه سدة الحكم، وطال انتظاره دون جدوى، لذلك حاول تقزيمها، وإيقاف كل عوامل النهضة الثقافية، وتهميش المثقفين بكل ما أوتي من خبث، فمثلا يسند وسام الاستحقاق الثقافي لحافظ مكتبة نائية بالجنوب التونسي، بينما هناك عديد الكتاب من بلغت تصنيفاتهم  ما يفوق الخمسة عشرة كتابا، تحصل عدد منها على جوائز، يدعون لمشاهدة المهزلة، ويلبون حتى لا يصنفون من المعادين، والغاية في الحقيقة من الدعوة لحضور الاحتفال باليوم الوطني للثقافة، هو للتشفي من الثقافة والمثقفين، وهم يتصببون عرقا في الطريق، وعطشا داخل القاعة، وحسرة على غمط حقهم في الأوسمة، ويزدادون غضبا وهم يشاهدون الدروع تنهال عليه من الشرق والغرب، دون سبب وجيه ومقنع، فقط مقابل ما قدمه من رشوة إلى المنظمات والجامعات المانحة.
عن ذكرياته مع عهد بن علي، يقول الأستاذ البشير بن سلامة:
ـ هو أبشع حكم عرفته البلاد التونسية، ولكنه وجد من الوسائل العصرية من أجهزة تقنية وتكنولوجية، وإعلامية، ما جعله يتمكن من خداع الناس في الداخل والخارج، ومن التضييق علينا في كل مكان، سواء في مجتمعنا أو مع أصدقائنا خارج البلاد، بحيث أنه كان يتعقب بنفسه أحيانا لا بأعوانه، كل من لا يخضع له، ويقيدهم بأسلوبه.
ولقد باح لي مرة في أحد اللقاءات القليلة التي جمعتني به، أن النظام يحاول أن يحد من نشاطه الثقافي، ووجد في رموز الساحة الثقافية بالبلاد تجاوبا مع النظام، متجاهلين ما قدمه لوزارة الثقافة من مكاسب، بينما عندما يدعى إلى بعض المحافل الثقافية العربية ككاتب، كانوا يستقبلونه بحفاوة كبيرة وغير عادية، و يسخّرون له إمكانيات إقامة وتنقل، وكأنه حل بين ظهرانيهم كشخصية رسمية.
ولعلي لامست ذلك بنفسي وأنا أشرف على منتدى القصاصين باتحاد الكتاب التونسيين سنتي 1994ـ 1995 أثناء برمجة لقاء مع الأديب البشير بن سلامة،حول روايته عادل، وتمثل في أن معلقات إشهار اللقاء التي كنت ألصقها بنفسي بفضاءات اتحاد الكتاب، وداري الثقافة ابن خلدون وابن رشيق كانت سرعان ما تتمزق أو تختفي، وكنت أعوّضها، لكن يتجدد التخريب من جديد، والغريب أنه لم يحدث مع أي كاتب آخر، فعلمت أن هناك جهة لا ترغب في إشهار الإعلان الخاص بالأديب البشير بن سلامة، وحتى بعد إجراء اللقاء تلكأت جريدة الصباح في نشر التغطية الصحفية التي وضعتها، والمتعهدة سلفا بنشر كل تغطيات المنتدى، ولم يتم النشر إلا بعد استفسارات عديدة مني ومن سي البشير نفسه، و الغريب أنه لم يحصل ذلك مع غيره، وازددت يقينا بأنه ثمة من لا يرغب في ظهور البشير بن سلامة في أي منتدى ثقافي. ولقد أوردت هذه التغطية ضمن كتابي ـ مطارحات أدبية ـ الصادر سنة 1999.
وحسب مطالعاتي المتواضعة للصحف، وحتى عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة  لم يتسن لي الوقوف على أي صوت ينصف فيه الأديب البشير بن سلامة وزير الشؤون الثقافية السابق، باستثناء مقال للأخ صالح الحاجة بجريدة الصريح، نوه بما قام به طيلة رئاسته لوزارة الشؤون الثقافية من انجازات شملت كامل الأطر الثقافية بالبلاد، وعدد فيه مناقبه التي هو بها جدير، وأكبرت فيها الأخ صالح الذي قال كلمة الحق في توقيت تصعب فيه مثل هذه المواقف، التي قد تجر عليه ما هو في غنى عنه.
  لامست من خلال كتابات الأستاذ البشير بن سلامة، أنها المعطى الأساسي لنجاحه على رأس وزارة الشؤون الثقافية، فالرجل من عشاق تونس ومعتز بتاريخها، من خلال ترجمته بالاشتراك ـ تاريخ إفريقيا الشمالية ـ لشارل أندري جوليان، وكذلك كتاب ـ المعمرون الفرنسيون وحركة الشباب التونسي ـ ومؤلفه ـ النظرية التاريخية في الكفاح التحريري التونسي، وبحوثه في الشخصية التونسية، في كتابه ـ الشخصية التونسية مقوماتها وخصائصها ـ وترجمته لكتاب ـ الشخصية التونسية ـ ل ج.س كوبكن. وبحوثه في اللغة، في كتابه اللغة العربية ومشاكل الكتابةـ  و كتابه ـ نظرية التطعيم الإيقاعي ـ وكل هذه الكتابات والترجمات تظهر إخلاصه لخصوصية القطر التونسي، تاريخا وشخصية ولغة، مما يعزز أن الرجل خير من خدم الثقافة التونسية، سواء من خلال الدراسات، أو حتى من خلال روايته الرباعية ـ العابرون ـ عائشة ـ عادل ـ  علي ـ الناصر، وهي ترجمة لتاريخ تونس. وهو يعبر عن ذلك بقوله إثر تقديم رواية عادل كجزء من الرباعية ـ العابرون ـ بمنتدى القصاصين:
ـ الرباعية ترسم ملامح المجتمع التونسي عبر عقود، بريفه وحضره، بثرائه وفقره، بغطرسة المستعمر واسبداده وآلام المطحونين  ونضال الوطنيين ـ.
وقد كانت أحد أجوبته لما سئل: لماذا العودة إلى الماضي وتحديدا إلى ذلك التراث ببعديه الثقافي والسياسي فكانت إجابته:
ـ الحضارة هي تراكم لحقب عديدة في تاريخ الأمة التي ينتمي إليها الإنسان. وفي اعتقادي أنّه لا يمكن لأيّ كائن واع بإنسانيته أن يزيغ عن ماضيه بقدر ما هو مقبل على حاضره ومستقبله. ورأيي أن أي سياسي بل أي مثقف لا يمكن له أن يتحرك في ساحته المفضلة من دون أن يعي تاريخه، لا ليتشبّه به ويستمدّ من أحداثه مواقفه وقراراته، بل ليتجنّب مواطن الضعف وأسباب التدهور والانحلال، وليعي وعيا كاملا بالثوابت ومقومات هويته وأسس حضارته، لأنه من دون ذلك لم يظفر باحترام الآخر، ولن يمكن له أن يساهم بالقدر الأوفى في حضارة العالم. إن أسوأ ما يصيب الإنسان العربي اليوم هو أن يبقى تائها، في مهبّ الرياح العاتية، مسحوقا، ذائبا في غيره أو متشبّثا بالماضي، لا تشدّه بناصية الحضارة العالمية أية آصرة.
في نظري لقد آن الأوان إثر الثورة المباركة أن نعطي لكل حق حقه، وأن نكفر عن أخطائنا التي ربما كنا مضطرين على اقترافها في عهد استبدادي قمعي، وأن نرفع من شأن بعض الرموز الثقافية التي تعرضت للغبن والتهميش، رغم شهادة الجميع بما قدمته من خدمات  جليلة للثقافة التونسية دون حسابات، بل من منطلق إيمانها العميق بأحقية هذا الشعب أن تكون له ثقافة وطنية على كل المستويات، تتماشى  وتاريخه، ومعتقداته، وتقاليده التي اكتسبها على مر العصور، وفي نظري فإن البشير بن سلامة من أهم الشخصيات التي لا بد من الاستفادة من تجربتها الطويلة كباحث في الشأن التونسي تاريخا وشخصية، وفي الأدب قضايا ولغة، وفي الأدب كروائي، وكأحد أهم من تقلد حقيبة وزارة الثقافة، وترك بصمته، وإن حاولوا طمسها، لكن الحقيقة شمس لا تأفل، البشير بن سلامة طاقة متجددة، وغيور على الثقافة التونسية فيمكن تمكينه من فرصة جديدة، لكي يكمل مشروعه الثقافي الذي هو مشروعنا.

تعليقات