العشق...انت العشق يا افريقية ...ياوطني

العشقُ ... أنتِ العشقُ يا افريقيّةُ .. يا وطني
قراءة في المجموعة القصصية "عَاشقة من افريقيّة" للكاتبة التونسية مها جويني
فتحي بن معمّر
arnaw1967@yahoo.fr
عن دار صفصافة للنّشر والتوزيع والدّراسات صدرت سنة 2017 للكاتبة التونسية مها الجويني هذه المجموعة القصصية التي تجتاحك فيها تراتيل عشق لافريقية، تراتيل يتضمّخ فيها العشق بالحبّ بالجمال بالرّغبة وبالأولياء الصالحين الذين حموْها ويحمونها على رأي أحد السّاسة بعد الثّورة. غير أنّها تراتيل عشق تخلع لبوسَ المقدّس إلاّ من قداسة الرّغبة التي تظلّ تثغو وتثغو ولا يخمد أُوارُها إلاّ بالسِفاد سواء كان جسديّا محضا أو نفسيّا خياليا موغلا في التّجنيح والتخييل وما الأدب إلاّ ذاك الأُوار وتلك النّار التي تلتهب فتخلّف إبداعا تتأجّج نارُه كلّما قُرئ النّصّ من جديد.
ينفتح لك بابُ الأثر مُشَرّعا، من خلال عنوانه المثير، فأنت بين لفظينِ أحلاهما هوسٌ ورغبة وحبّ وغرائزُ تَسْتَعِر في النّفسِ فتُرديها عشقا لا ساحلَ له لبلاد عجيبة الأثر والعيانِ والمَخْبَرِ عَتَتْ حتّى أعارت اسمها للقارّة. يبعث فيك اسمُها هاجسَ الفضولِ فيعتو حتّى يفرض عليك ركوب قارب الاكتشاف خِلسة ومخاتلةً لتُعاقرَ نصًّا لا يَقِرُّ له قرارٌ ولا تصل فيه ولا منه إلى مرفأ واحدٍ للاستقرار. وتلك ميزةُ بعض النّصوص التي تحيا كلّما قرأتها فتُحييك بحياتِها بعد ركونك دهرا إلى عالم الأموات، عالم اليوميّ والعادي والمتآكل الأثير إلى قلوب من وصفهم عجُز البيت "وأخُو الجهالة في الشّقاوة ينعمُ"
الأثرُ مُثير ومخضرمٌ كصاحبته كاتبةً، وعجيب ومفاجئ في أحايين كثيرة كحبيستِه ساردةً، يأخذُك فلا تستطيع إن كنت تتطفّل على النّقد مثلي أن تُحدّد جنسه الأدبي بسهولة واطمئنان. فهو يعبر المعايير ويذهب أبعد منها ويُشكّل لنفسه بعضها على نحو جديد. غير أنّك تستطيع وبِيُسر إن كُنتَ تدّعي مثلي أيضا أنّك قارئ أنْ تجعلَه في خانة الإبداعِ الممتعِ وتلك مكانة لا يُلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم.
منذ الإهداء تبدأ اللّعبة حيث يكون الإهداء إلى مريم مذيّلا بـ "ابنتك مها" تعبيرا عن الحبّ الذي تُقسم عليه بربّ "اليدين الأطهرين" طلبا لدوام الشّموخ كشموخ البلاد التي تظل خضراء رغم ظلم الظالمين. ولمريم وللحبّ أكثر من معنى وأكثر من إحالة فهي الأمّ وهي أيضا العذراء وهي أمّ المسيح عليه السلام رسول الحبّ وأمّنا مريم أيضا. وكأنّنا بالعاشقة من افريقية "مرسول الحبّ" على رأي عبد الوهاب الدوكالي لتنشر الحبّ والحياة والكرامة في هذه الأرض.
ثمّ تتعمّق تقنية لعب الأدوار في النّص الأوّل "لا أريد أن أكون نزوة" حيث ينقلب السّحر على السّاحر فتغدو المرأة المشتهاة في عرف الشّرق الرّجولي على مدى الشّهوة التي لا تبلغ منتهاها حتّى تنبعث من جديد أقوى وأعتى، أنثى متحفّزة طالبة للغزل المحقِّق للرّغبة ولما يتلوه عادة من سفر لا ينتهي على سرير الشّهوة وصريره. وإذا بالسّاردة وهي تتمسّك بضمير الأنا والكاتبة بخلفيتها التونسية المتحرّرة تضرب الرّجل في عقر ميدان حرب يعتقد دوما أنّه المنتصر فيها ولو بالخيال حين يتعذّر إدراك المبتغى الذئبوي الشّهواني الذي ينحدر ليصير غرائزيا حيوانيّا أحيانا. وهي بهذا حين تتمنّى المرور بسريره إنّما تصنع صنيعه كرجل لا يرى المرأة إلا في سريره تدعوه فتبذُّه، يعتذر بصلف مكرّرا كلاما عادة ما يُقال من طرف بعض النّسوة تمنّعا. أيتمنّع الرّجلُ الشّرقيٌّ؟؟ أيرفض عرضا مغريا لشّابةّ تتّقد شهوة وترتفع قامتها أدبا وهامتها عشقا للحياة.
أمّا في نصّ "الصبيّة الضائعة" تنحت الموسومة بالضياع في العنوان من العدم كيانا حاكت تفاصيل ثوبه المزدهي بالتحدّي والنّجاح فوق سطح المنزل وهي ترقب سماء خلاء لا نجم فيها ولا بريق. إذ بين سخرية الزّميلة في القسم وصمت المعلّمة على الإهانة وصلف الأم واستهانتها واستخفافها بالأمر واستطراد الأخت وهي تحكي لصديقتها حكاية الشّعر "الأحرش" الذي لا تعرف من أين تسرّب إلى العائلة قُدّت تفاصيل وتقاسيم هذه الشّخصيّة القاب قوسين أو أدنى من الواقع. فإذا هي أنثى مفردة بحجم جمع المؤنّث السالم رغم ما في القلب والنّفس من رضوض وجروح وهي تلك الصبيّة الحالمة رغم مسارب التيه والضّياع والحرمان.
"كم أنا غبيّة، منذ متى كانت الرّجال أوطانا لنا؟" بهذه العبارة أنهت السّاردة قصّة عاشقة من افريقة أو كادت دون أن تغلقها بل فتحتها على طرق سيّارة من المعاني والاحتمالات التي لا تنتهي حين حملت أوراقها لتلحق بالطائرة، أهو سفر الهروب من خيبة الحبّ أو هو سفر نحو رجل آخر أو هو "سفرٌ... سفر" على رأي معين بسيسو. في النّص تنبعث توناروز من غياهب التّاريخ حرّة من أقحاح الأمازيغ، شجاعتها تضرب في العمق فلا تخشى العشق ولا تُخفيه ولا تعتبر "الحبّ عيبا" كما جاء في إحدى أقاصيص يوسف إدريس كما لا تعتبر اللّقاء بين الشبّان والشّابّات جريمة حتى أنّ بعض القرى الأمازيغية تعتبر اللقاء بينهم ضروريا وتمنحم تلك الفرصة بطريقة علنية. ولعلّ هذا التحدّي وهذا الصّلف الأنثوي الأمازيغي تترجمه الساردة بالتصرّف في قواعد التّصريف حين تجعل الناسخ كان مسندا إلى المؤّنث (كانت) بينما اسم النّاسخ المفترض ذكر (الرّجال)، فالرّجل متى لم يكن في مستوى تطلّعات المرأة انقلب أنثى مثلها أو أدنى منها بكثير وبالمثل متى بذّت المرأة الرّجل صارت مثله أو ارتفعت فوقه بأقدار. وذلك ما نجد له صدى في القصّة اللاحقة حين تصدح الساردة في قفلتها "وبعيدا عن سيناريوهات رجال الشّرق الذين يكتبون تاريخهم على أنغام الأنانية والوقاحة، وتلك الذّكورة المقيتة، من المسؤول عن آلام النّساء؟ من المسؤول عن أوجاعنا؟
ففي "الله معنا فمن علينا" قصّة عشق محظور، تقع بين ثنايا المشترك الإنساني العامّ فتجد جذورها في قول مرقس الذي يُردّده الصديق القبطي وفي تساؤل الشيخ الشيعي المعمّم وهو يتوجّه لساحات اللّطم المقدّس، تنقل لنا معاناة الساردة ليلى التي ينقلب حبيبُها إلى عكس ما يحمله اسمه من دلالات فيغدو ظلما مقيتا وقاعا صفصفا خاليا من الأحلام بعد أن كان منبعا للآمال وهو يُردّد على مسامعها هوس شاعر بليلى العامرية  التي تتضامن معها وتفهمها نساء من عصور ومشارب مختلفة بدءا بمريم المجدلية مرورا بالخنساء وقديسة قرطاج والسيّدة المنوبيّة وكاهنة الأوراس، وهنّ متى أخذتَ عصارتهن حصّلت كينونة هلامية هي السّاردة وهي المرأة التونسية التي قُدّت من كلّ ذلك. ولذلك فباستحضارهن غاب الصّداع "فأغمضت عينيها لراحة قادمة من اللامكان" والعبارة لها لأنّها ببساطة التحمت بالنموذج الأمثل للمرأة تلك المرأة الأمازيغية الأصيلة التي نجد صداها في جلّ قصص المجموعة.
بهذا التحدّي الأنثوي الصارخ والفاعل والفعّال ربّما تلج الساردة في أقصوصة "لن يمرّوا" بابا تدلف منه إلى مسرح الحياة الواقعية بعيدا عن أوهام الإديولوجيا والمثقّفين "البرجعاجيين" لتفضح الكلّ وترفع النّقاب عن كلّ العورات السّلوكية المقيتة التي تتوارى خلف أقنعة تتزيّى بالثّقافة التي تُصرف في ميادين الصّراع الفكري والسّياسي في أشكال وتعبيرات تقدّميّة خادعة واهيّة وفي مظاهر سلفيّة مخادعة بالية. وهما في كلّ الأحوال وجهان لعملة واحدة في الموقف من المرأة فهي سلعة للمتعة أو للبيع أو للترويج لسلعة أرخص منها وتلك المعضلة. ممّا يجعل المبالغة في جرعة الإديولوجيا شبيها بتلوّث الأسنان ببقايا الطّعام بينها مشوبا بلحم الضأن والاستعارات موغلة في القتامة والسّخرية في هذا النّص أو القصّة أو الواقعة القصّة التي تكشف بعض ما يدور في الكواليس المحيطة بالقيادات السّياسيّة والنّقابية وتنزع القناع الرّسمي عنهم، ذاك القناع المتمثّل في الدنقري وصورة القيادي المتبحّر في أدبيات اليسار والقائد الفذّ الذي لا يُشقّ له غبار في ساحات النقاشات العّامة والخاصة والأكثر خصوصية في شقّته في شارع باريس أو قربه، ولباريس رمزيتها ولا أحسب صاحبة النّص غافلة عن ذلك. وهي بذلك تحاول أن تزيح الستار عن جانب من القداسة التي قد نخلعها على بعض قياديينا ونتناسى أو نكاد أنّهم بشر ككل الناس. خاصة عندما يُصبح النّقاش عن الجسد عامّا بدوافع خاصة وذاتية وحينذاك تصيح المصيبة عاتية فلا فرق إذن بين اليمين واليسار في اعتبار المرأة مضربا للشّهوة والمتعة. والنّص في تقديري يضرب في الصّميم يمبنا ويسارا فساد الرؤية والأطاريح وعفونة المنهج والسلوكات. وبذلك تلج الكاتبة باب النقد بشجاعة منقطعة النّظير، لتغدو في أقصوصة "اللقاء الوطني" إغراء مطلوبا ومتحفّزا عبر السكايب يستثير الآخر لكنّه في إطار لقاء وطني وفق مبدأ (رابح- رابح)  كما في عالم السّياسة والأعمال وفي كليهما ما في مطلب الشّهوة من عنفوان يُستحَث مباشرة في الغرف المغلقة وعبر وسائل الاتّصال الحديثة ومواقع التّواصل الاجتماعي حين تضمّخ بالشّوق الى الوطن إلى "ريحة لبلاد" وقد ذكّره جسدها ببيت جدّته على قمم الجبال العالية، إنّها ببساطة تلك المرأة اللّعوب الغانية والمثيرة تونس التي لأجلها يتأسّس اللّقاء الوطني. هذا اللّقاء الوطني الذي أشك أن يكون الأمر عفويا في أن يتلوه "حديث المصطبة" إذا بنا أمام لوحات تقفز إلى أذهاننا من فيلم " عصفور السّطح" لفريد بوغدير. غير أنّ المصطبة لدى مها جويني تروي حكايتين وتنقلنا إلى عالمين، حكاية منال ابنة فوزية وعالمها وحكاية المرأة التونسية وعالمها المليئ بالأسرار والخصوصيات. فمن خلال "حديث المصطبة" تلج بنا الساردة ومن ورائها الوسواس الخنّاس مها جوينا المبدعة عالم المرأة من ثقب بالباب وقد غُلّقت الأبواب في المقصورة المقبّبة في الحمّام المحجوز من أجل منال التي لن يرضى النّذل الذي قضى منها وطرا "الزواج بها، وفي حال ما رضخ لرغبتي ستعيش منال الذل لأنه سيرى زواجه بها معروفا. وليس التزاما" وتلك حال ومآل يتكرّران كلّ يوم في تونس وفي غيرها من البلدان التي تبدو ظاهريا أكثر محافظة وربّما تديّنا وأخلاقا. فصورة منال وملامحها ليست ملامح فتاة لعوب ترهق اللّيل سهرا وتسبي الرّجال سحرا وتشعل أتون الرّغبة فيهم فتبتلّ ملابسهم رشحا وعرقا. بل هي فتاة متديّنة ترتدي الحجاب بل هي ورعة حذرة. ولكنّها امرأة شرقيّة تقع في مرمى رجل شرقيّ فيقع عليها ويمضي ليُمضِي بقلمه على جسد آخر ويراكِمُ عدد الضحايا بصلف شرقي في دفتره الذكوري المضمّخ بالأنانيّة المطبقة ولا عزاء للضحيّة سوى رتق بالليزر أو بغيره لمن استطاعت إليه سبيلا أمّا البقيّة فلا عزاء لهنّ ولا خلاص ..
وفي حضرة سيرة الأولياء العطرة نركب صهوة من صهوات الارتحال عبر التخييل لنتوقّف عند مزار سيدي بومخلوف بالكاف مع عبد الستّار شخصية دعوية تبليغية نمطيّة تمحّضها الكاتبة للسّلفيّة والجهاد في فقرة تكتنز بما لا يُكتب من إحالات ومراجع ومرجعيات أكثر بكثير ممّا سُطّر فيها خاصّة وقد كان الإطار الزمني محيلا على تاريخ مفصلي وهو "أحداث سليمان" فيما يرشح الإطار المكاني الذي تنطلق فيه الأحداث "الزهروني" بأكثر من دلالة كحيّ من أكثر الأحياء الشّعبية ميلا إلى الى التديّن والتوغّل فيه بشدّة وقوّة عكس منطوق الحديث الشّريف "إنّ هذا الدين متين فتوغّلوا فيه برفق" ولعلّ جوهر القضيّة يقع تناوله في ذاك الحوار المعمّق حول الوشم يبن الجدّة "بركانة" والشيخ علي الذي يُصرّ على أنّ الوشم حرام مصداقا للحديث الشّريف بينما تعتبره الجدّة الرّمز هُويتها وعرشها "وشمي أمارة عرشي" أمّا عرضُه الزائل فهو تلك المفارقة بين الكاف ومزار سيدي بومخلوف ممثّلا في الجدّة كذاكرة جمعية حافظة ومصوّبة للبوصلة نحو الأصالة والهُويّة الحقيقيّة لهذا الشّعب، وبين الزّهروني ذاك الحيّ الشّعبي الحديث الذي تتفتّت فيه القيم الأصيلة وتذوب أمام قيم وافدة عبر ما رشحت وترشح به القنوات الفضائية من مواد تزيد في فداحة وضعية المرأة التونسية ولذلك فالنّص ينطق مصادفة ببعض فصول مشروع قانون مناهضة العنف ضدّ المرأة حين تتساءل أحلام في ردّ على الشّيخ المُتلفز: "ألا يوجد في شرعك ذنب اغتصاب الزوجات؟" فحدس الجدة قبل الزّواج والرؤيا الصالحة التي رأت فيها أحلام عارية أمام سيدي بومخلوف وفي جسمها كدمات وإصرارها على الاحتفاظ بحفيدتها وطرد ابنها بطريقة لبقة دعوة صريحة للتشبّث بأصالة هذه البلاد وخصوصياتها لتحرير المرأة التونسية بل إعادتها إلى حرّيتها، إلى بيئتها الأصيلة. تلك المرأة المسكينة التي تتعذّب اليوم في متاهات أضواء شوارعها مع وائل وفي دهاليز غرف النّوم والبرامج الدينية مع عبد الستّار وهي بين هذا وذاك تعاني من عدم احترام حريّتها في اللباس والتّفكير والاختيار والمتعة، فتمنع من الحجاب في المعهد وترغم على أفعال شنيعة ووضعيات عنيفة مع زوجها كما تهان روعة لرفضها تقبيل وائل الذي لا تستسيغ رائحة لحم الضأن بفمه فكلاهما في الهمّ امرأة مقهورة. فأين المفر؟
أين المفر وحال أحلام كحال مريم التونسية المزيونة التي تتعذّب في مدن الملح الخليجية التي تعي جيّدا أنّها أتتها "لتقتل البطالة لا لتدافع عن الوطن". الوطن الذي تركها بسياساته التفقيرية وبخياراته وأخلافه السّياحية مضغة في الألسن ومرادفا قويّا لـ"لعهر" فهي وعلى خلاف رأي نجيب محفوظ متحدّثا عن إحدى بطلاته "عاهرة بالفطرة" فهي عاهرة بالجغرافيا في عرف بعض النّاس في بعض البلدان النفطيّة والعقول المحشوّة جنسا وشهوة وتوقا دائما إلى الرّكوب. وإذا بالعاشقة التي تنحدر من افريقيّة عاشقة لابنة افريقية تريد لها ما لغيرها من الكرامة والحرّية والسؤدد فهل يتحقّق؟ والحال أنّ القصّة تنغلق بسؤال ورجاء تصفع به مريم صديقها الجزائري في مقهى لبناني "بربّك قل لي" وللبنان كما لتونس تلك السّمعة الرائقة لدى بعض رجال الخليج.
ولكن أين المفر أيضا و"العربيّ الأخير" الوسيم الذي يفيض رجولة ويصلاها نارا يخرج متأبطا ذراع حمودة "النّقنوق" المخنّث بعد أن أثخنت نفسها تعبا لتصل إليه وتدعوه إلى العشاء تمهيدا لدعوته إلى السّرير فورا لأنّها لا تعرف غرف الانتظار. غير أنّ انسحابها الذي تعلنه لصاحبتها في شكل انتصار تُترجمه دموعها هزيمة أمام رجل ممزّق بين زوجة شرعية وحبيبة تسكن القلب لكنّها تأبى أن تكون إضافة للمشهد وعرضا زائلا.
هكذا إذن تبدو لك المجموعة القصصيّة "عاشقة من افريقيّة" لمها الجويني بقصصها الاثنتي عشرة مترابطة من حيث المضامين، مرتّبة بطريقة لا نشكّ في أنّها مقصودة لغاية في نفس صاحبة المجموعة وإن عجزنا عن إدراك تلك الغايّة. بيد أنّنا في مجموعة قصصيّة بين قصصها قواسم مشتركة عديدة، بل عناصر متداخلة إلى حدّ التّماهي أحيانا رغم الاختلاف الواضح في الأطر الزمانية والمكانية. فنحن نتجوّل مع أبطالها من أحياء تونس الشّعبية وشوارعها الفخمة وكلّياتها وجبالها إلى إديس أبابا إلى الخليج العربي ونتحرّك مع أبطالها في فضاء زمنيّ قريب إلينا بل معاصر لنا في أغلب الأحياء لأنّ المؤشّرات والأحداث تكاد تنطق بما نعيش أو نعايش أو نشهد أو نشاهد من الوقائع في الحيّ والشّارع والوطن والعالم. فبالإضافة إلى زمن الأحداث الخاصّ بكلّ قصّة من القصص فإنّ جميعها أو أغلبها يقع في سياق ما بعد الثّورات والروابيع العربية إن صحّت العبارة.
لكنّ المشترك الأكبر بين هذه القصص هو الانتصار لقضايا المرأة وصورتها النّاصعة الحرّة المتحرّرة التي تصنع غدا مشرقا والتي تكون قادرة على صنع القرار بل قادرة على التحكّم في المصائر والأقدار، ففي كلّ فقرة من فقرات المجموعة ترقد عبارة ليلى بلعلبكي "أنا أحيا" حياة تصرخ فيها مع فدوى طوقان "بملء فمّ الغضب: حرّيتي، حرّيتي ..." فذاك هو المطلب الأسنى الذي ترشح به قصص المجموعة. فنحن مع "روعة" ومع الجدّة "بركانة" بوشمها الأمازيغي وحتّى مع "أحلام" التي عانت الأمرّين من زوجها المُتَسلفن ومن المجتمع نعاشر نساء يرفضن الواقع ويفرضنّ واقعا جديدا بقواعد لعب جديدة يكون فيه للمرأة ما للرّجل من الحظوظ والخيارات والقدرات والمهارات بل وما له من تجاوزات ورغبات وجرأة في المغازلة والاشتهاء والاحتيال لجلب الآخر إلى مربّع السّرير وصريره دون ابتذال في اللّغة أو الوصف أو التّصوير فالنّص يقف بنا على تخوم المشاهد الحميمية وأبوابها ولا يجعلنا نشاهدها وتلك قوّة في النّص تُحسب لصاحبته.
وكما أنّ للمجموعة قواسم مشتركة ومشترك أكبر لا يخطئهما القارئ الحصيف، فإنّ بينها خيط ناظم أخر تبرز مؤشّراته في اللغة وملامح الشخصيات رجالا ونساء. وفي لغتها ورموزها وإشاراتها الخفية أو الظاهرة. وهذا الخيط النّاظم هو ذلك النموذج الذي تُبشّر به المجموعة أو تذكّر به وهو ذلك الإنسان الأمازيغي رجلا كان أو امرأة. فكأنّما الكاتبة تثور على هُجنة الهُويّة التي بات  يعرفها المجتمع التونسي، فلا هو بالأمازيغي الحرّ ولا هو بالعربيّ القحّ وقد بدا "العربي الأخير" في مجموعتها باهتا ضعيفا تعيسا فاقدا لمعاني الرّجولة ولا هو الأوروبي ولا هو باليساريّ الحقّ ولا هو بالمسلم الحقّ بل هو ذلك الكائن التونسي الذي يأخذ من كلّ شيء بطرف فيكون بلا معنى ودون طابع خاصّ كباقي شعوب الأرض أو هو يتّخذ لبوس هُويّة غريبة عنه وعن أصله تتزيّى بالإديولوجيا أو الدّين أو الانبهار بنموذج غربي أو شرقيّ فتكون صورته متنافرة مع هذه الأرض الأصيلة افريقية التي هي لأهلها الأمازيغ الأحرار الذين لهم على مرّ التّاريخ شخصيتهم المتميّزة التي تجيد التّعامل مع هذه الأرض.
أمّا فنّيا فإنّ المجموعة القصصيّة تتميّز عموما بلغة مُقتصدة كثيفة المعاني والدّلالات متأصلة، متجذّرة في واقعها التونسي باستعمال العاميّة التونسية أو بعض الأشياء الخاصة في تونس ممّا اضطرها إلى تقديم شروح لبعض الألفاظ أو الأسماء. كما يبرز هذا التجذّر من خلال الكمّ غير القليل من الأغاني والأشعار التي ترد على ألسنة الشّخصيات من حين إلى آخر ومن خلال العادات والممارسات والطّقوس التي برزت في ثنايا المجموعة في الأعراس أو الحمّام أو الشّارع التونسي أو الحرم الجامعي. فالمعجم مضمّخ بكل ما هو تونسي والشّخصيّات غالبا بملامح تونسية متحرّرة رافضة للظلم والسّكون سواء كانت في تونس أو خارجها، موسومة بمياسم الطّرافة التي تجعل القارئ منشدّا إليها يعيش معها ما تعيش رغم طول بعض الأقاصيص.
وعموما فمجموعة "عاشقة من افريقية" دعوة لعشق الحياة ولمعانقة الحريّة، دعوة لعشق هذه الأرض الطيّبة برجالها ونسائها، دعوة لمعانقة شوق الحياة وهي تردّد مع أبي القاسم الشّابي بيته الشّهير: "ومن لم يعانقه شوق الحياة   تبخّر في جوّها واندثر" بل هي دعوة لفرحة الحياة في افريقية التي كانت على مدى حقب "مطمورة روما" حتىّ تكون مطمورة لأهلها الأحرار. إنّها ببساطة دعوة لعشق افريقيّة، دعوة لعشق الحياة. وما الحياة دون أرض، دون هُويّة، دون مصالحة مع الذّات والأصل إلا تيه وضياع. وفي المجموعة القصصيّة تأصيل لهذه الهويّة وتنزيل لهذه المصالحة مع الجذور، مع الذّات وفيها الكثير ممّا يدعونا إلى القراءة والاكتشاف. فتعالَ نلج أرض افريقيّة ونعشق لنحيا حياة تليق بمن يهتفون صباحا مساء "هلمّوا، هلمّوا لمجد الزّمن" في أرض نساؤها نساء ونصف.

تعليقات