الاغتراب الثقافي

عندما نعتز بانتسابنا إلى حضارات
               استعمارية مستبدة في تظاهراتنا الثقافية
                                                                      الناصر التومي
   تعلمنا ضمن مفهومنا للتاريخ أن الشعوب المغلوبة قد تضطر إلى الخضوع إلى حضارة الشعوب الغالبة وثقافتها بحكم الهيمنة وقد تتطبع بسياستها وثقافتها وعقيدتها، وهذه سنة الحياة، لكن أن تعتز بانتمائها إلى تلك الحضارة المستبدة فذلك لم أمر لم نسمع به إلا في الاحتفالات الأخيرة في مدينة سبيطلة، حيث أشار أحد المثقفين إلى الاعتزاز بالانتساب إلى الحضارة الرومانية، والدليل إقامة احتفالات بمدينة سبيطلة الأثرية، وإظهار الجنود الرومان وهم يضطهدون العبيد، ومن هم هؤلاء العبيد فلا شك أنهم البرابرة والقرطاجيين، و السود من وراء الصحراء وكل من لم يرضخ للأمبراطورية الرومانية بأي شكل من الأشكال، هؤلاء العبيد هم الذين بنوا تحت السياط تلك الآثار المنتشرة في كامل بلادنا، كمسرحي لجم و قرطاج وقد شيدا للهو وتسلية الجاليات الرومانية، بصراع العبيد أعداء روما ضد بعضهم، ومع الوحوش، وخاصة أثناء المد المسيحي حيث كان الرومان يلقون بالمتنصرين إلى الوحوش الضارية.
   ولسائل أن يسأل هل وصلنا إلى درجة من الميوعة والذل والخنوع أن أصبحنا نحنّ إلى  الاستبداد، والهيمنة الخارجية والذوبان في حضارتها وثقافتها ودينها؟ إذا كنا كذلك، فلماذا إذا أخرجنا المستعمر الفرنسي من بلادنا؟ ولماذا إذا تحررت كل الشعوب من نير الاستعمار؟، وهل استشهد المليون ونصف من أبناء الجزائر عبثا ؟، وهم إلى الآن يطالبون فرنسا بالاعتذار عما فعلوه في الجزائر، ولماذا منذ سبعين سنة والفلسطينيون وشعوب العالم العربي والإسلامي لا يزالون يحلمون بعودة الأرض الفلسطينية إلى حضن العروبة والإسلام ولا يزالون يعتبرون الكيان الصهيوني كيانا سرطانيا لا بد من اقتلاعه ولو طالت النكبة، ويشتكون إلى الأمم المتحدة لقيام الكيان الصهيوني بتهويد القدس وإزالة هويتها العربي والإسلامية.
  بلاد فارس( إيران اليوم ) لا تزال تحقد إلى هذا التاريخ على الإسلام الذي أزال أمبراطوريتهم من الوجود، وأئمتهم يذكرون ذلك صباحا مساء في قنواتهم التلفزيونية ويكفرون الصحابة وخاصة عمر ابن لخطاب الذي كان الخليفة تاريخ سقوط أمبراطوريتهم، وبنفسي سمعت أحدهم يقول: فهل ننسى ما فعله عمر الخطاب بنا أبدا لن ننسى ) رغم أن الإسلام ما جاءهم إلا فاتحا بالهدى ودين الحق ليدخلهم الجنة عوضا عوض دين زراداشت والنار الذي لن يدخلهم إلا إلى جهنم.
  ما من شعب واع بتاريخه معتز بثقافته وعرقه ودينه يعتز باستعمار حتى لو كان حصل قبل آلاف السنين، إننا نلقح أجيالنا السم في الدسم، بإقامة تظاهرات ثقافية تمجد حضارة أسهمت في خضوع شعوب بأكملها لسيطرتها قهرا وظلما أحرقت قرطاج بعد ثلاث سنوات من الحصار، وزرعت أراضيها ملحا، وسبت أكثر من خمسمائة مواطن ليصبح أغلبهم من العبيد، وبالاحتفال بهذه الحضارة، تكون صرخة زوجة صدربعل لا معنى لها وهي تقول ( النار ولا العار ) النار ولا الأسر ولا السبي ولا حكم العدو الأجنبي المغتصب، وإذا بنا بعد أكثر من ألفي سنة بينما كنا طوال تلك المدة نفتخر بتلك الصرخة وتلك المقولة الذهبية، نحنّ إلى ذلك المستعمر، ولعلنا نحنّ إلى الاستعمار الفرنسي القريب منا والذي لا تزال سياسته، وثقافته وفكره حاضرة بيننا في كل شيء، في تعليمنا، وثقافتنا، ولباسنا ومأكلنا.
  ألا سحقا لهذه الثقافة وهذه الميوعة، والإمعية التي تجرنا حتما للذوبان في أي استعمار جديد بأي شكل من الأشكال، وأي حضارة مهيمنة حتى لا نكون مسخا بين الأمم، تحول بيننا وبين صنع حضارتنا بأنفسنا مقوماتها، أرضنا، أصولنا، ثقافتنا، نصنعها بأنفسنا لتكون متأصلة مختلفة يشار إليها بالبنان.
اليهود يعلمون أبناءهم من سن قبل سن التعليم كره العرب والمسلمين لأنهم أخرجوهم من الجزيرة العربية إثر الإسلام رغم أنهم البادون بالخيانة لرسول الله والمسلمين.
الهنود الحمر لا يزالون يفتخرون بحضاراتهم القديمة ك ـ الماية ـ  وـ الأنكا ـ وغيرها، ولا يزالون يتشبثون بدياناتهم وتقاليدهم وآلهتهم وأساطيرهم رغم التقدم والحضارة التي وصلت إليها بلادهم، ويطالبون بحكم ذاتي، ويطالبون الحكومة بالاعتذار لما قام به البيض في حقهم من مذابح بداية من اكتشاف أمريكا إلى القرن التاسع عشر.
ضمن كتاباتي تعرضت إلى حادثتين الأولى تاريخية ضمن قصة صوفنيبة الجميلة الصادرة ضمن مجموعتي القصصية ( حكايات من زمن الأسطورة ) لما حاصر ماسينيسا غريمه سيفاكس وقتله وسبى زوجته صوفنيبة التي كان يحبها وهو صغير ورفضته قرطاج لأنه عدوها وحليف روما فكانت من نصيب سيفاكس حليفها، وقرر الزواج منها يوم انتصاره على غريمه، لكن القائد الروماني شيبيون أرسل إليه يطلبها مع بقية السبي، فكان له ذلك، وقد رفضت هذه الخاتمة التي ليست من شيم البربري بل هي من خلق المؤرخين الرومان، وجعلت صوفنيبة تقتل نفسها قبل أن يلمسها ماسينيسا نفسه وتواجهه بما يكره قائلة:
ـ ما الذي أخرسك، إن رومة  تتدخل حتى في نزواتك، ليتك كنت راعيا حرا على أن تكون ملكا مستعبدا..
  والحادثة الثانية ضمن روايتي ـ رجل الأعاصير ـ هي استنكار بطل الرواية المخرج من السيناريو الذي قدمه له المخرج الإيطالي لمساعدته على إخراج فلم صراع ماسينيسا وسيفاكس، وأنكر على المخرج الإيطالي أن يقدم ماسينيسا القائد البربري زوجته إلى القائد الروماني شيبيون لأن ذلك ليس من شيم البربري العادي فما بالك  بقائد عظيم مثل ماسينيسا ولم يواصل العمل معه وقدم اعتراضا لوزارة الثقافة عما يصوره المخرج الإيطالي على أرضنا من انتهاك لنبل وشهامة أسلافنا، لكن الوزارة رفضت اعتراضة بتعلة وجوب التغاضي عن مثل هذه المسائل التي تحول مستقبلا لتصوير الأفلام في بلادنا وتحرم البلاد من إشهار مجاني و من العملة الصعبة.
  يمكن  استغلال هذه الفضاءات الأثرية في القيام بتظاهرات ثقافية ترفع من شأننا ، وتبعث في النفوس الاعتزاز بأرضنا وأصولنا لكن في نفس الوقت نستنكر هيمنة القوى الاستعمارية الاستبدادية قديما وحديثا، لتربية نشئنا على عزة الوطن والدفاع عنه بالنفس والنفيس، ولا نسمح في الذوبان في الحضارات التي لا تبتغي لنا إلا الزوال لنكون لها تابعين أذلاء.

تعليقات