عبد الله مالك القاسمي الانسان

               عبد الله مالك القاسمي الانسان

بقلم : محمد المي

تعود معرفتي بصديقي الشاعر الراحل عبد الله مالك القاسمي الى بداية تسعينات القرن العشرين وتحديدا عندما كنت طالبا في كلية الاداب بمنوبة واحد اعضاء المكتب الفدرالي فاطمة البحري للاتحاد العام لطلبة تونس
لقد قام الصديق كارم الشريف ببعث ناد في المبيت الجامعي بمنوبة اطلق عليه اسم المنشط الاذاعي الراحل صالح جغام
اعتبرنا اطلاق اسم صالح جغام على ناد في المبيت ضربا من ضروب الميوعة ومحاولة لتهميش قضايا الطلبة وبعد ان نددنا بهذا النادي في اجتماع عام بالكلية مستفسرين عن الخلفيات الكامنة وراء بعثه قررنا افشال نشاطه
كان عبد الله مالك القاسمي هو اول ضيوف ذلك النادي واخرهم فقد سرى الخبر ان الشاعر " بوليس " الشيء الذي زاد الطين بلة  وتاكد لدينا ان توجساتنا ومخاوفنا في مكانها فقر العزم على افشال اللقاء كلفنا ذلك ماكلفنا ...
ساعة انعقاد اللقاء لم يحضر من الطلبة سوانا نحن اعضاء المكتب الفدرالي ! فغيرنا المخطط بدل من منع الراغبين في الحضور قررنا نحن انفسنا الحضور والتشويش على الشاعر

قدم كارم الشريف ضيفه الذي انطلق في قراءة قصائد وطنية ليعرج بعدها على القصائد العاطفية فالذاتية ...الخ وبعد انهاء القصيدة الاولى فالثانية فالثالثة ...وكان كلما اكمل قصيدة ينتظر التصفيق فيرفع رأسه باسما كالباحث عن جمهور ..غير أنه كان يرى وجوها ساخرة هازئة غير مبالية ..فادرك ان شيئا غير طبيعي يحدث في القاعة ..تململ كارم الشريف وقاطع عبد الله الذي كان ينوي مزيد القراءة  ليقول له :
- عفوا عبد الله -كارم ينطق الدال تاء- انت امام جمهور كلية الاداب وطلبة قسم العربية لا يمكن ان تنطلي عليهم ..هم قرروا ان شعرك ضعيف ..عفوا عبد الله انتهى اللقاء ..
ارتبك عبد الله ..نظر في تساؤل وحيرة ! حدق في الجمهور وكأنه يكتشف وجوده امامه لاول مرة مستنجدا بمن يقول عمس الذي ادعاه كارم .. وفجأة اجهش بالبكاء ..وغرقنا نحن في ضحك من يشعر بالانتصار!
لم أكن أعرف أن عبدالله سيصبح صديقي ذات يوم ..ولم اكن اعرف انني ساندم على ذلك الموقف ذات يوم ..
بصوته الاجش واسمه الثلاثي وبدنه المكور ووجهه المستدير يرسم عبدالله في ذاكرتك رغما عنك صورا ثلاثا:
وجه ضاحك كأن الضحك لا يفارقه

ووجه مندهش كأن الدهشة سمته الأزلية

ووجه غاضب كأن الغضب حقيقته
من يعرف عبد الله لا يملك الا ان يحبه اذ يقحمك في تفاصيل حياته كأن لافصل بين حياته الخاصة والأدب الذي يكتب او كأنه اختار الشعر ليعبر به عن فيض مشاعره وأحاسيسه بكل ماتعنيه الكلمة لذلك جاء شعره سهلا واضحا جليا بينا لا ايهام فيه ولا ابهام
فمن لا يعرف نجاة زوجته ؟ ومن لا يعرف السرس قريته؟ ومن لا يعرف هاجر ابنته؟ سلحفاتها ..عصفورها ..قطها ..كل تفاصيل حياته تكاد تكون مكشوفة

سحنة من الحزن على وجهه يختلط فيها البكاء بالضحك  أحيانا اذ يحدثك عن يتمه وكيف أرضعه والده من ثديه تعويضا عن ثدي الأم المفقود

يحدثك عبد الله عن عمله في ديوان الحبوب قبل التحاقه بسلك الأمن الوطني ويحدثك عن التحاقه للعمل في اتحاد الكتاب التونسيين ومعاناته مع رهط من الكناب ابتلى الله بهم الأدب حيث قل أدبهم وبالغوا في أدعائهم وسلطوا أذاهم عليه دون موجب

احتفى عبد الله بالادباء الشبان وشجعهم واعلى من شأن نصوصهم واعطاهم ثقة في النفس ورحب بصداقتهم في الكتابة والحياة معا لانه يؤمن بالصلة بين الكتابة والحياة او لنقل ان الكتابة عنده فعل وجود:
القط " ياسمين "
السلحفاة
الكناري الاعمي
ليست اختيارات اعتباطية بل مقصودة لذاتها ووجودها في الواقع وجود حقيقة لا خيال استدعاها الشاعر من وجوده المادي وجعلها مواضيع لاشعاره

"قط ثلجي
يهوى صيد النجمات اذا
حطت على الاشجار
لا يستانس بالصالونات
وزخرفة البيت العالي
وباغطية دافئة في ديسمبر
او بشموس تتدلى من فوق الشرفات "

وماهذا القط الا من بين كائنات هاجر الضوئية  وهاهنا تكمن قدرة الشاعر الحقيقي في تحويل الموجودات من مجرد اشياء الى مواضيع شعرية والى صور واستعارات ومجازات يقد منها قصائد تغيض زملاءه الكتاب الذين كادوا له امثر من مرة وكلما بزهم بقصيدة اغاضتهم قالوا انه:" بوليس "
انهى الميداني بن صالح علاقة عبد الله مالك القاسمي باتحاد الكتاب لانه اختلف معه في الرأي وعبر عن عدم إعجابه بأدائه فارجعه الى وظيفته الاولى ...واذكر ان عبد الله  كثيرا ماكان يتعاطف معنا نحن الرافضين للميداني بن صالح بل انضم الى جوقتنا وامضى معنا عريضة ال 102 وكتب المقالات المنددة بسياسة الميداني بن صالح وكان ينبهنا ويحذرنا من الاحابيل والاحافير ومكر المتقدمين في السن والراسخة اقدامهم في المؤامرات والدسائس وأحيانا كان يضحك مني ويقول لي سيأتي اليوم الذي ستفهم فيه سبب ضحكتي
عندما اهداني  مجموعته الشعرية " قصائد للمطر الاخير " قال لي اقرأ  قصيدتي في الصفحة ال 100 وستفهم:

يكفي ..

يكفي الذي قد ضاع من أيامي
                 يكفي الذي خطت يد الاوهام
يكفي صباحاتي التي تاهت بها
                سبلي سدى في يقظة ومنام
عمري الذي اهرقته فيما مضى
                 هدرا على بوابة الاعوام
كثيرا ماكان ينتصر  للضعفاء والمهمشين والمدمرين والميؤوس منهم لانه لم يكن يلمس من الانسان الا إنسانيته ولم يكن يرغب من الذين يجتمع معهم او بهم الا الضحك وقتل الحزن بالضحك والقهقهات والانتصار على الانكسار باللهو والعبث

اهدى قصائده الى مهدي بن نصيب ورضا الجلالي وخالد النجار وصالح الدمس ونورالدين بالطيب ...باعتبارهم مختلفين عن بقية خلق الله،  غير منضبطين ، غير منصاغين ، منفلتين من قيود المركز ...يشدهم الهامش ويستهويهم نور الضوء حتى لوكان حارقا

كان يتتصر على الامه وعذاباته الداخلية بالضحك واللهو واصطفاء اللامبالين والعدميين ليجلس اليهم ويهديهم قصائده
اختار الاصطفاف الى جانب الخاسرين في المعارك غير مبال الا بالتاريخ وماسيكتب عنه وعن خصومه
فرحه فرح طفولي اذ يكفي ان تقول له لقد أعجبتني قصيدتك او اني اقتنيت مجموعتك الاخيرة فيرفعك الى مقام علي ويهش ويبش فرحا واستبشارا وسرعان ما يغضب ويزمجر ويرغي ويزبد اذا اردت فرض راي عليه ...
حدثني اكثر من مرة عن رغبته في جمع نصوصه التي ينشرها باستمرار في جريدة الاخبار بل إنه تهيأ لنشرها وشجعه على ذلك كتابي : " بين سطرين : مقالات في النقد الثقافي" الصادر سنة 2004 حيث جمعت فيه بعض مقالاتي التي نشرتها في جريدة الصريح فقد سارع الى الاحتفاء بذلك الكتاب وقال لي لوفعلت مثلك لاصدرت عشرة كتب ...يومها قلت له : وماذا تنتظر ؟ انظر المشارقة كيف ينشرون مقالاتهم دون تهيب
منذ ذلك الحين وعبد الله تراوده فكرة جمع مقالاته لنشرها وهي فرصة نتوجه فيها الى ورثته بأن يحققوا امنية صديقنا الراحل ففي تلك المقالات تأريخ لأحداث وتعريف بكتابات وتبشير بكتاب ومعارك قلمية تقدم صورة عن المشهد الثقافي وايقاعه ذات سنوات من زماننا هذا
لم يكن عبد الله مالك القاسمي مجرد شاعر يكتب الشعر هائما او هاربا او لائذا بل كان فاعلا في الحياة الادبية والفكرية ويشهد على ذلك انتماؤه للجمعيات الثقافية وكتاباته الصحفية التي تدل على اهتمامات الرجل ومواقفه مما كان يحدث
ولد عبد الله مالك القاسمي سنة 1950 وتوفي سنة 2014 وبحساب السنوات فإنه لم يعش حياته بالطول ولكنه عاشها بالعرض حيث الف الكتب ونشرها وسافر واختلف وانسجم واحب وكره وقال كلمته وعبر عن رأيه وتزوج وتسكع وأنجب الابناء واحب الشبان من الكتاب وقال كلمته وترك خلفه مئات المقالات وعشرات الكتب منها نذكر :

لغة الاغصان المختلفة :الصادر عن دار الاخلاء سنة 1982 ( شعر بالاشتراك )

كتابات على حائط الليل : دار الاخلاء سنة 1983 (شعر)

مهرجان : (مسرحية شعرية للاطفال )
من اخراج وانتاج الفنانة حبيبة الجندوبي عرضت بمسارح تونس بداسة من سنة 1989

هذه الجثة لي : الدار التونسية للنشر ، تونس 1982 ( شعر)

حالات الرجل الغائم : المكتبة المتوسطية جمعية الكتاب بتازركة 1999 ( شعر)

قصائد للمطر الاخير : دار سحر للنشر تونس 2006 ( شعر ) 


نزهة في حدائق الكلام ( شعر)

تداعيات في الشعر والنقد ( مقالات)

كان عضوا عاملا في اتحاد الكتاب التونسيين فعضوا في الهيئة المديرة وله مئات المقالات في جرائد ومجلات تونسية على غرار : الاخبار والصباح والشروق والصريح والرأي العام والملاحظ والصحافة والمسار والحياة الثقافية اختم بما قال عنه منصف الوهايبي:

عبد الله مالك القاسمي واحد من قلة من الشعراء التونسيين قد لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة اقرأ لهم واستمتع بقراءتهم ولا مسوغ لذلك سوى قصيدته التي تحتفل بالأشياء وتسميها بخاصة في "كائنات هاجر الضوئية  " حيث لا مبادرة الا للكلمات حيث تضطر في كل كلمة اخرى ...حيث بإمكان الظل ان يمسك بالريشة ويكتب وللون ان ينتصب رفيقا غامضا لاشياء من المحسوسات والمجردات ...قصيدة عبد الله تعدو مجرد تسمية الأشياء بماهي عليه الى طمس وجه التقابل فيها بين الصورة والعمق في سياق يجعل الشعرية تكمن داهل التعبير وليس داخل المعبر عنه انها صورة الدال الذي ينهل من مدلول لا ينضب

تعليقات