الضيق

علامات    24                   بقلم رياض المرزوقي
*****************************


64  قصور في اسبانيا          " ناري على واسع القلب
                                                           ديما يحسّ الضيق " ر .م

القلب الكبير مهلكة للإنسان , كالخيال الواسع تماما .
منذ صغري , كنت مغرما ب"لا فونتان " لا لأنه نظم أمثالا تحفظ في المدارس الابتدائية
وتتوارثها الأجيال , وتتعلم منها الدروس الأخلاقية , بل لأنه تمكّن من التعبير عن خبايا
النفس البشرية في حكايات بسيطة المعنى والنسيج .
إن من يعتبر " لا فونتان " كاتب أطفال , أو معلّما للأخلاق يجهل حتما معنى الأدب ,
وعمقه . وهذا شأن أمثال شوقي التي ما زال بعض الناس يعتبرونها - جهلا - مجرّد
تعريب عن الفرنسية , وهي في معظمها من إبداع شوقي , يعبر من خلالها عن موقفه
من السياسة , والبلاط الخديوي . ولكن تلك قضية أخرى كما يقول أستاذنا الشملي
رحمه الله !
لقد حالفني الحظ فشاركت في ندوة موضوعها " لا فونتان والشرق " سنة 1995 ,
وأبحرت آنذاك في أعمال هذا الشاعر , وفي أعمال محمد عثمان جلال , وأحمد شوقي
وغيرهما ممن تأثروا به قليلا أو كثيرا .
وقرأت بعين جديدة أمثال الرجل , فإذا هي أعمق بكثير مما يظن بعض الناس .
ووجدت نفسي في بعض هذه الأمثال , كحكاية بائعة الحليب التي تحلم بالثراء ,
وتبني قصورا في اسبانيا , والتعبير فرنسي يعني سعة الحلم والخيال .
وتعود هذه البائعة إلى واقعها المرير عندما تتحطم جرّة الحليب , فلا يبقى لها من
تحقيق حلمها ذرّة .
صدّقوني , إن هذه الحالمة أثرى الناس , وأكثرهم حريّة !
كم بنيت قصورا , وشرفات , ورواشن , وأعمدة من المرمر , وكم تلاشت هذه
المباني بمجرّد فتح العينين !
قد أندم على أي فعل , ولكنني لن أندم قط ّعلى أحلامي التي لم تتحقّق .
لقد عشت - وما زلت أعيش - في هذه الأحلام أجمل أوقاتي , فهي - وحدها - ملكي ,
بخلاف الواقع الذي هو ملك يتنازعه الجميع , بالناب والظفر .
إن الحلم هو الحرية المطلقة , والواقع هو القيود , والموانع .
لذا أفضّل أن أكون حالما من أن أكون واقعيا !





تعليقات