اعداء الذاكرة

علامات    24                   بقلم رياض المرزوقي
*****************************
( العلامات روح الطريق )

******
63 - أعداء الذاكرة                            "دنياي غابة أحزان
                                                       جلّلها غيم النسيان "

ينقسم الناس إلى فئتين لا خير في أيّ منهما .
من يغرق في الماضي , ويراه المثال , والأنموذج , كما يفعل الشيخ العائد إلى صباه .
من يرفض الماضي , وينسلخ عنه , ويؤمن يقينا أنه من أبناء اليوم , كما يفعل من يخفي
عمره بالعقار .
وقد عانيت طيلة حياتي من الفئتين .
سعيت عند ما كنت أدير الإذاعة الوطنية إلى إيجاد برامج تعتني بالتراث الشعبي . ومن
هذه البرامج " شبرشت بين الدواوير " للمسرحي صالح الصويعي .
ولا أحكي عما لاقيته من عنت في إقناع الإدارة العامّة آنذاك بضرورة هذا النوع من
البرامج وأهميته , فهذا أشبه بالمواقف السريالية العبثية .
كان الصويعي يسجّل أغاني النساء في مختلف أوجه النشاط والعمل المنزلي أو الفلاحي
والأفراح وما شابه , وهذه التسجيلات كنوز نادرة مستخرجة من أعماق الريف ,
والبادية .
وبعد حلقات قليلة عانيت فيها ما شيّب رأسي , وأذهل حسّي , قرر السيد المدير العام
إيقاف البرنامج بدعوى تلقيه لشكاوى لم أر منها حرفا . فجمعت تسجيلات الصويعي في
مكتبي , وقد كانت العادة أن تمحى البرامج الدورية لتسجّل عليها حصص جديدة ( اقتصادا
في الأشرطة ) .
وعلمت بنبإ تعييني على رأس الدار التونسية للنشر , فكانت هذه التسجيلات معضلة إذ أنه
لا يمكنني حملها معي فهي ملك للإذاعة ( والدولة ) , ولا يمكنني إبقاؤها في الإذاعة لأن
أول عمل سيتمّ بعد مغادرتي سيكون مسحها .
وكاتبت وزارة الثقافة طمعا في إهدائها التسجيلات لتحتفظ بها في بعض مراكز البحث ,
أو معاهد الموسيقى , وكان الجواب بأن الوزارة لا تقبل التسجيلات لأنها لا تعلم ما تفعل
بها , أو قريبا من هذا المعنى .
وكان أن غادرت , وضاعت التسجيلات الثمينة إلى الأبد ...
أحكي هذا , وفي خاطري أمور كثيرة مشابهة , تؤكّد لي أننا أعداء الذاكرة بامتياز ,
ولا حول ...














تعليقات