بحثا عن السعادة : رحلة في عالم الكتب وثورة على نمطية الرواية

''بحثا عن السعادة'' رحلة في عالم الكتب و ثورة على نمطية الرواية

بقلم : محمد نبيه المصباحي

إن كان للكتب دور أساسي في صناعة كاتب روايات ,كمدرسة منها يكتسب فن الكتابة و أدواتها , وأساليبها فإننا لا نجد في المكتبة العربية كتبا عن الكتب إلا دراسات نقدية  و أكاديمية قلما يجد القارئ نفسا لإكمالها. أما في المدونة الغربية افإننا نجد فيها كتبا أنجزت بحميمية عن كتب أخرى مثل ''أيام القراءة'' لبروست و ''حياتي مع الكتب'' لهنري ميللر و ''الوصايا المغدورة'' لميلان كونديرا و ''مكتبة الليل "لألبرتو مانغويل ....

و إن كانت كل رواياته و كتبه قد إنفتحت على فقرات و حتى صفحات يحدثنا فيها المصباحي عن كتب أثرت فيه إلا أنه في كتابه الأخير ,و هو سيرة روائية بعنوان البحث عن السعادة ,فتح جل صفحاته ليحدثنا عن كتب و كتاب إكتشفهم ليعيش معهم عزلة داخلية في ''ركن صغير'' يلجأ إليه بحثا عن متعة القر اءة،إذ أن هذه المتعة تجاوزت كونها حدثا يعيشه الإنسان لساعات لتصبح حياة ثانية جد موصولة بحياتنا و تفاصيلها . و في هذا يشير الكاتب إلى التواصل الحميمي لفعل القراءة بالواقع بذكره منهج القراءة عند صاحب '' أيام القراءة'' يقول :'' القراءة عند بروست لا تعني الهروب من الزمان و المكان , و الإنفلات منهما مثلما يتصور ذلك القراء السطحيون, غير المحنكين , بل هي تعني الإرتباط بهما إرتباطا وثيقا ’و الإلتصاق بهما والإنغراس فيهما لكي يكونا جزءا لا يتجزء من الكتاب الذي هو بصدد قراءته '' .

لو لا تمرد الكاتب طفلا على بيئته التي لم يكن فيها غير كتاب واحد هو القرآن لربما لم يصل إلى ما هو عليه . لكن هدية صديقه حلقت بخياله بعيدا ليهرب إلى ظل '' زيتونة الجمل '' و يشرع في قراءة أول كتاب و هو ''ماجدولين'' للمنفلوطي فينبهر به و يعتاد التوحد تحت هذه الزيتونة ملتهما ما يقع في يده من كتب , حالما بعوالمها و مدنها و أبطالها. و يبدو أن الكاتب قد أنس لتمرده فأتت هذه السيرة كسرا لنمطية الرواية فاتحا له بابا لرواية يكون فيها حرا من كل قيد فني . ألم يقل ميلان كونديرا في الوصايا المغدورة أن '' تاريخ الرواية ( الرسم و الموسيقى(ولد من حرية الإنسان '' .

في هذه الرواية تتداخل الكتب بالواقع من خلال مقاربات بين شخصيات روايات بشخصيات نشأت وسط المجتمع العربي , فنجد مقاربة بين الليدي شاترليه و عائشة بنت طلحة , ومقاربة بين  الحاج مراد و الدغباجي . ويشبه الخلد عند كافكا بن لادن في الهلوسة المتواصلة بأن خطر الموت قد بات وشيكا .

  رحلة القراءة عند الكاتب سمحت له بأن يقحم في روايته يومياته و رحلاته و شخوصا عرفهم في شتى بقاع الأرض و قاسمهم متعة المعرفة و رسائل إحتفت بروايات أثرت في جل قرائها. و هنا ثمة لعبة سردية أخرى,  فالسرد ينتقل من شخص إلى أخر ليقاسم الكاتب أصدقاءه بحثهم عن السعادة .

في '' بحثا عن السعادة '' نكتشف عمق القراءة عند المصباحي و معرفته بطقوس الكتب التي ذكرها و أجوائها و ظرفياتها مما مكنه من الحديث عن  رحلته  مع الكتب و كتابها و كأنما قد عاش زمانهم و تكبد مع الكاتب و شخوصه عذابات الحب و التجربة و التمرد بحثا عن الذات . ففي فقرة يروي فيها كيف كان يبحث عن سرّ يمكنه من أن يصبح فنانا حقيقيا وجد أنه يجب أن يسلك طريق '' ديدالوس '' بطل ''صورة الفنان شابا '' لجويس , يقول: '' كم هي بديعة و معبرة هذه الفقرة من مذكرات ستيفن ديدالوس : حر. روح حرة, خيال حر. لندع الأموات يدفنون الأموات. أجل و ليتزوج الأموات الأموات ... '' نعم لا بد من دفن الأموات الذين يتحكمون في حياتي , و يسممونها بفتاويهم الصفراء , و بتعاليمهم الكئيبة التي لا تحتفي بالحياة بل بالأموات و الفناء '' أليست تجربة إنسانية فريدة أن نعود إلى البحث عن ذاتنا في أثار العظماء ؟ . نجد في هذه السيرة حديثا عن الأدب الروسي فيتطرق السرد إلى تجربة دوستيوفسكي و باسترناك و غوغول و تولستوي فيخصص الكاتب فصلا كاملا يروي فيه حياة هؤلاء الكتاب متطرقا بذلك إلى قضايا إنسانية مثل الحب و محنة القمار لدى دوستيوفكي و الديكتاتوريات التي أقامت محاكم تشوه أعمالا أدبية بدعوى أنها تسيئ للشيوعية ... لكن هذا الفصل لم ينغلق على أدباء روسيا فحسب بل ضم أدباء من بلدان أخرى فنجد ماكيافيلي و بورخيس و أبولينير و ألبيرتو مورافيا و سوزان سونتاغ و ماركيز ... نفس الشأن بالفصل الذي خصصه للفتنة اليابانية و الذي لم ينغلق هو كذلك على أدباء اليابان فنجد والت ويتمن و إسحاق بابل و سارتر و كامو ... بل يترك رحلته مع الكتب ليتطرق إلى فصول من حياته بميونيخ  .

لم تخلو هذه الرواية من نقده عديد المرات لوضع الأدب في العالم العربي مبرزا نفوره من بعض الأعمال التي تصدر راهنا . يقول : من أسباب ضعف الرواية عندنا نحن العرب هو غياب الحرية '' . بذلك هو يمرر ضمنيا ما يدفعه لكسر النمطية و الركائز المدرسية لتسمية الرواية رواية .

ينتهي هذا العمل الفريد في شكله و فنياته بفصل يذكر فيه النكسات التي عاشها الكاتب بسبب بعده في مرحلة من حياته و كيف تمكن من تجاوزها لما توحد بنفسه في قريته مطلع الثمانينات من القرن الماضي و هو مستغرق في قراءة أعمال فلوبير و جويس و همنغواي و فوكنر ... هذه العودة التي حرضته على العودة مجددا إلى الكتابة و مكنته من أن ينظر إلى الحياة بوعي و حكمة .

تعليقات