تأملات في خواطر الطاهر الحداد


بقلم   محمد المي



توطئة عامة 


                              كتب الطاهر الحداد " خواطر " سنة 1933 اي قبيل وفاته بسنتين وبعد ثلاث سنوات من صدور كتابه " امراتنا في الشريعة والمجتمع " وتحديدا عندما جرد من جميع حقوقه المدنية والسياسية ومنع من الزواج  والعمل وقد اضطر الى العمل في دكان مختص في بيع الشاشية التونسية كمحاسب وقد عثر على " خواطر " مدونة في كنش فواتير الدكان الذي كان يعمل فيه 
                            عدد هذه الخواطر 63 خاطرة تختلف طولا وقصرا وتتباين مواضيعها اذ يكتب احيانا في موضوع كالحرية فيقلبه من اوجه مختلفة واحيانا يمر بالموضوع ليشير اليه دون التوقف  عنده طويلا حتى لا تكاد تقف له على اهتمام واضح ؛ بل ان الخواطر دلت على فكر مشوش اكتظت فيه الافكار او مرت مرور الخاطر ...فدون صاحبها ماارتسم في الذهن  وعلق بالبال ...دون ان يمعن فيه ..حتى لكان الكتاب الذي جمعت فيه هو مشروع كتاب او بداية فكرة لمعت في ذهن صاحبها فبدأ يهيء لها وفجأة توقف عنها وربما كان ينوي العودة اليها ؟! 
                            لقد جاءت الخواطر كما يدل عليها اسمها مجرد خواطر خطرت ببال صاحبها فقيدها لكي لا تفلت ...فدلت عن الهواجس التي كانت تجول بخلد صاحبها 
لذلك فان طابع العفوية يطغى عليها رغم انها نتيجة استنباط فكري وجهد في التأمل  ومحاولة للتنظير والتقعيد والتفلسف 
عفويتها في عدم انتظامها حيث تفرقت الخواطر التي يمكن ان تكون موضوعا واحدا وربما لواتيحت الفرصة للحداد ليشرف على نشرها في كتاب لما وصلتنا بالصيغة التي قدمها بها المحقق * 
                             الميزة الثانية لهذه الخواطر انها ليست غارقة في الذاتية بل تحمل هما جماعيا فهي بمثابة التأملات  في الواقع ومحاولة لوصفه انطلاقا من تصورات ذهنية مع سعي لاخضاع الواقع الى رؤية فلسفية هادئة بعيدة عن الانفعال ، نائية عن الانطباع انطلاقا من نظرة تاليفية كمن ينشد النظر من علو الى مشهدية بنظرة بانورامية 
                            هذا يعني ان الحداد بعد الضوضاء التي عرفها وجملة الاعتداءات المادية والرمزية التي سلطت عليه خلد الى نفسه معيدا ترتيب الاوراق قاصدا النظر الى الواقع بأكثر مايمكن من الحيادية

مفهوم الحداد للحرية
لعل اكثر الخواطر المتشابهة في موضوع واحد هي التي تتصل بالحرية وهي :

الخاطرة عدد 7    والحرية                       (ماي 1933)


الخاطرة عدد 9   تاريخ الحرية                  ( ماي 1933)


الخاطرة عدد 10  اروبا والحرية                ( ماي 1933)


الخاطرة عدد 11  حقيقة الحرية                 ( ماي 1933) 


الخاطرة عدد  13  الحرية والنظام              (ماي 1933)


الخاطرة عدد  16 الشعب والحرية              ( ماي 1933)

الخاطرة عدد 8    الانسان الحرية والحياة      ( ماي 1933)


الخاطرة عدد  24  الحرية والتقاليد             ( ماي 1933)


الخاطرة عدد 61  النظام والحرية              (جويلية 1933)
اذا تاملنا عناوين هذه الخواطر يمكن ان نخلص الى استنتاج اول : مفاده ان الحداد تكلم عن الحرية في حد ذاتها ( تاريخ الحرية ، حقيقة الحرية ) اي بحثا في الماهية كما يقول الفلاسفة ومحاولة لتأصيل المفهوم 
وتكلم الحداد كذلك عن الحرية في علاقة بمحددات خارجية تتشكل وفقها مفاهيمها المتعددة ( الحرية والشعب ، الحرية والانسان ، الحرية والتقاليد ، الحرية والحياة ، الحرية واروبا) 
هناك  خاطرة بين هذه الخواطر التي كتبت كلها في ماي 1933 عاد اليها في جويلية 1933 ليعيد صياغتها وفقا لتصور اخر او لنقل لمقاربتها من زاوية اخرى وهي : 
الحرية والنظام (ماي 1933)

لتصبح

النظام والحرية ( جويلية 1933)

في الاولى يقول :

"الحرية هي التي تبني النظام وهي التي تهدمه اذا شاخ دفاعا عن حياتها "
معنى هذا :

ان الحرية هدامة وبناءة وهي تستثمر كل مايحافظ على وجودها وازدهارها وتلتهم كل مايمس من جوهر وجودها ففي علاقتها بالنظام هي علاقة براغماتية فالنظام ترعاه بل تساهم في بنائه  اذا حقق وجودها وتسارع في هدمه وتلاشيه اذا هدد وجودها

هذا التامل العقلاني نابع من تصور لمفهوم الدولة والعلاقات الاجتماعية التي تحدد العلاقات الجماعية وصلة الحاكم بالمحكوم اذ نحن نصفق لقيام الدول وبناء الانظمة مادامت ستحقق الاستقرار والرفاه والازدهار اما اذا تحول النظام الى سلطة قامعة محددا لخيارات الافراد فإن الافراد يثورون على النظام ويسعون الى تهديمه واستبداله بنظام اخر يحقق لهم الحرية 
فالحرية في تصور الحداد بهذا المعنى تسعى دائما لتحقيق الخير والمنفعة للانسان لذلك عاد الى هذه الخاطرة في جويلية 1933 ليعيد تفسيرها حيث قال: 

" النظام يولد شابا قويا ولكنه يشيخ ويهرم اما الحرية فهي الزهرة التي لا ينتهي شبابها " 
فالخاطرة الاولى قدم فيها الحداظ الحرية في علاقة اتصال عضوي اولنقل جدلي اذ لا يمكن الحديث عن النظام بمعزل عن الحرية لان الحرية هي اصل النظام وفي الخاطرة الثانية فصل النظام عن الحرية باعتبار قصر مدى النظام مقارنة بامتداد عمر الحرية ولتحقيق هذه الغاية استعمل حرف " اما " التي هي عند النحاة اداة تنصيل وتفصيل وعند المناطقة اداة عناد 
فكان ان نصل الحداد الظرفي من الازلي والمتناهي/ النظام من اللامتناهي 

يتبع...






تعليقات