معجم بورديو (2)


نواصل نشر الحلقة الثانية من كتاب معجم بورديو الذي خصتنا باعادة نشره الدكتورة الزهرة إبراهيم وهي أول نشرة إلكترونية له:



Dictionnaire
Bourdieu

Stéphane Chevallier
Doctorant à l’université de Paris 1- Panthéon-Sorbonne

Christiane Chauviré
Professeur à l’UFR de philosophie
De l’université de Paris 1- Panthéon-Sorbonne




معجم بورديو

تأليف: ستيفان شوفالييه
كريستيان شوفيري
ترجمة: الزهرة إبراهيم

دار النايا دمشق- سوريا
دار الجزائر
الشركة السورية الجزائرية للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى 2013




مقدمة معجم بورديو
ينبغي أخذ التصورات مأخذ الجد...1
     
«بسبب عدد من البواعث، لا سيما لأن أولئك الذين قد استطاعوا أن يكونوا حذرين نحوها، كالفلاسفة، لم يريدوا النظر إليها، ولكن أيضا، وعلى وجه الخصوص، لأنها كانت محجوبة بما كان قد تم إدراكه كالبعد السياسي، والنقدي، وحتى الجدل الذي أثاره اشتغـالي (التورط النظري، والأسس الأنثروبولوجية). إن نظرية التجربة، وفلسفة الفعل، إلخ... - المتعلقة بأبحاثي كليا لم يفطن إليها أحد تقريبا في فرنسا»2. ومما لا شك فيه، فإنه ينبغي لنا أن  نعتبر، نسبيا، صحة حكم بورديو هذا، الذي يوضح الحقيقة تجاه التلقي الفرنسي لعمله النظري، غير هامة، مع التذكير بأنه موجود منذ شتاء 1987 ضمن أعمال منتدى شيكاغو. فطيلة العقد الأخير من حياته، والذي كان نفسه آخر عقد في القرن الذي عاش فيه، فإن كاتب "الحس المشترك" قد عمل فعلا بنشاط  من أجل نهضة المنفعة، من أجل المعرفة الأنثروبولوجية، لفكرة الإنسان وفعل الإنسانية الذي ينبعث من عمله السوسيولوجي. إن الصدى الذي لقيه بواسطة نصوص، هي صراحة، ذات بعد نظري مثل: "إجابات" و" من أجل أنثروبولوجيا انعكاسية" و"علل عملية في نظرية الفعل"، أو تأملات باسكالية"، قد رخصت بأن لا تكون مناقشة فلسفة بورديو وقفا على بعض العقول الكبيرة الأجنبية فحسب (هابرماس، وتايلور، وسيرل، إلخ.). ويبقى أنه ليس من غير المشروع أن نعتبر أن تقديره غير حاصل، وأن تلقي فكر بورديو، ما زال، لتقديرات ما، منذورا للمستقبل. 

       إن إثباتا كهذا قد يبدو مفارِقا بالنسبة إلى من يحوز بورديو  في عقله مكانة معتبَرة في الحياة العلمية والفكرية منذ نصف قرن. إن مؤلف "الحس المشترك" لم يطبع فقط العلوم الاجتماعية بعمق، محوِّلا بذلك ممارسات البحث (يكفي أن نذكِّر، من خلال تناول مثالين مهمين بوجه خاص، بالإقرار الواسع جدا لمبادئ "بناء الموضوع" أو لـ "إسقاط الذات الْمُسْقِطة") ومُحْدثا عددا مدهشا من الأبحاث التجريبية في المجالات الأكثر تنوعا، لكن النموذج الذي اقترحَه، انطلاقا من تصورات الهابيتوس، والحقل، والرأسمال أو الاستراتيجية أيضا، قد لاقى دويا هائلا في مجموع مجالات الإنتاج الثقافي، مع أنها هيمنت زمنا، بالرغم من، ولكن أيضا، بناء على الحروب الكلامية التي أدت دائما إلى حجب الاهتمام الحقيقي والنوايا العميقة. إن تفكير عالِم الاجتماع قد انتهى، خطأ، إلى أن يصير معتبَرا كمعرفة. وعلى توالي الأيام، فإن تَمثُّله بكيفية صحيحة أو بأخرى تراه عبارة عن جدل، من أجل تحليل موجز للكتاب المقدس، فذلك يهدد بجعله يختفي نهائيا خلف التأويل التبسيطي أو الخاطئ لبعض التصورات وعناوين بعض الكتب.

     وحسب طريقتها، فإن أعمال السوسيولوجيا التي تنتسب إلى بورديو ليست بمعزل عن هذا الخطر الذي يقتضي، في حالتها، تحويل مدونة تصورات المؤسِّس إلى عُدَّة نظرية دوغمائية، ومحض تقليدية، ومطبَّقة بكيفية رتيبة في جميع مجالات البحث وإنتاج المعرفة حول العالَم الاجتماعي. وإذا لم يتوقف النموذج اليوم أيضا عن تنشيط أبحاث عديدة، فإن نوعية هذه الأخيرة تقتضي بأن لا تكتفي بالاستعمال الميكانيكي للعمل المنجَز بأسلوب روحي، ولكن أن تكِدَّ من أجل أن تأخذ منها ثانية طريقة للاستعمال. لهذا، يكون من المناسب عدم الاكتفاء بإدراك سطحي وتقديسي أعمى للتصورات الأساس التي ورَّثَنا إياها بورديو، ينبغي أن نجِدَّ لإعادة إحياء نشاطه التصوري، أو لنقُلْ ذلك بصيغة أخرى، لممارسته الفلسفية. إن مؤلِّف "الحس العملي" لا يحتجُّ، في الواقع على أن يكون قد قُرِئ بصفته فقط، عالِم الاجتماع المعتبَر الذي كان، ولكن كفيلسوف كبير، لا أحد منهما في الواقع يمضي دون الآخر، لأنه إذا حافظ على علاقة معقدة مع الفلسفة، وإذا كان يتمنى أن هذه، باعتبارها تقصيا تصوريا، يـمَّحي في مؤلَّفه، فلم يكن في الحقيقة من أجل أن ينذرها للاختفاء، ولكن لأنه لا يمكنها أن تكون حاضرة إلا في الحالة الإجرائية، عبر بناء صيغ التفكير الفاعل في العمل السوسيولوجي.

        إن الحركات النظرية المحدَّدة،  والمجترحة في سياق نظري محدَّد، لكي تجيب عن قضايا نظرية وتجريبية محدَّدة، والتصورات النظرية التطبيقية، ينبغي، لكي تكون مفهومة ومتحكَّما فيها حقيقة لأنْ تُمَوْضَعَ ثانية في علاقة مع حركات الفكر التي كانت قد شُيِّدتْ وفقها. إن "معجم بورديو" لا يمكنه أن يكون بالتأكيد إلا نُصُبا متواضعا لهذا المشروع الواسع لتوضيح التصورات. فقد لا أدعيه كطموح، بالنسبة إلى مقاسي، ولكن خصوصا لاتساع عمل بورديو، بأن يهيئ الأرضية، ويشير إلى اتجاهات أساس لمن يريد أن يذرعها، يعني أن يتعرف البنية ويقيس سعتها. ويميز تفسير مقاصد النظريات التي قادت إلى اختراع التصورات (هابيتوس، حقل، وهم، إلخ)، أو إلى تجديد المفاهيم الكلاسيكية سليلة التقليد الفلسفي (جسد، هيمنة، حرية، إلخ..)، إنه يريد أن يكون، فعلا، طريق ولوج متميزة نحو قراءة مستنيرة لسوسيولوجيا بورديو وإلى اكتشاف البعد الأسمى للفلسفة التي ترتبط بها.

      من أول وهلة، فإن مشروعا كهذا يبدو أنه سيصطدم في مجابهة كل احترازات عالِم الاجتماع ضدا عن مخاطر مقارَبة سكولائية- هذا يعني، أنه في هذه الحالة، التي هي في نفس الوقت استبطانية وتعليمية- للتصورات، الأكثر شهرة لهذه الاحترازات، والتي هي من دون شك، تلك التي ترافق تحقُّق الهابيتوس في الحس العملي، ذلك أنه: «ينبغي أن نكون قادريين على تجنب الحديث كليا عن التصورات لذاتها، وأن نخاطر هكذا بأن نكون في الوقت ذاته تخطيطين وشكليين»3. وإذا انحزنا في اعتبار تصورات بورديو في ذاتها ولذاتها، فإنه من الأكيد أننا نعرِّض أنفسنا، من جهة، لخيانة غنى فكر يريد أن يكون في الوقت ذاته نظاميا ذلك أن- مفاهيمه الأساس لا تتحدد إلا داخل النسق التي تكوِّنه- وطيِّعا- فمفاهيمه نفسها تدَّعي كونَها تطورية بما فيه الكفاية لكي تتكيف مع البحث التجريبي- ومن جهة أخرى، لتحويل أدوات تفكير مبنية، بواسطة، ومن أجل البحث في مواضيع رسمية جاهزة للتفسير، من أجل التعليق الأكاديمي أو حتى الاجتماعي.

       لم يتوقف بورديو عن التذكير بأن وضع القراءة، كما هي قراءة مُؤوِّلي الكتاب المقدس، تؤسس صلة مجردة ولا سياقية مع التصور الذي تشجِّع  على تشييئه وتَحَجُّره. ناهيك عن غيره من التفكير، فإن فكره ليس مُدرَكا لكي يصير مُشَرَّحا في مختبر أو معروضا في متحف. وضدا عن منظورِ مثْلِ هذه الاحتواءات، فإن عالِم الاجتماع يسلط الضوء على الخاصية الأداتية، القابلة للكمال والمنفتحة على التصورات التي يبنيها. إنه يود، لكي يُشْهِر هذا التصور، أن يستعيد استعارة فتنجنشتينWittgenstein  ويؤكد أنه يجهد نفسه لتكوين "علبة أدوات نظرية". وبنفس الطريقة، ففي الاستعمال، وفي التطبيق، نكتشف نوعية الأداة، وفي الاستعمال، وفي التطبيق، نكتشف نوعية التصور: «ينبغي أخذ التصورات مأخذ الجد، ومراقبتها، وخصوصا تشغيلها تحت المراقبة، في البحث. وهكذا تتحسن تدريجيا، ليس بالمراقبة المنطقية التي تُحجِّرها»4. وبالنسبة إلى بورديو، فالتصورات لا تؤخذ بجد إلا بوصفها مشارِكة في نظرية تطبيقية، وأنها ملازمة للنشاط العلمي التجريبي وللملاحظة التي تمكِّن من تقويم نتائج المعقولية فعلا.

         إن قارئ معجم بورديو ينبغي إذن أن يكون منتبها إلى الحدود الملازمة للعرض النظري للتصورات العالمِة المبتكَرة، وذلك لكي يتم استعمالها في التطبيق العلمي. ولم يبق أقل مما يمكن اعتباره نقصا في الحديث عن معنى التصورات في حد ذاتها، كما فعل ذلك بورديو نفسه، من جهة أخرى، في العديد من النصوص التي يرتكز عليها، بانحياز، من خلال كثرة ما تستشهد به كتابة هذا المعجم. في المقام الأول، لأن واقع البحث العلمي يقتضيها، في الحدود الممكنة التي مهما كانت مراقبةُ البعد العملي والوظيفي للتصور الحادث، في قطعيَّة، مع العمل التجريبي للباحث، فإن هذا الأخير لا يستطيع الاعتماد على هذه الممارسة في حد ذاتها ليُفسِّر ذاته ويُتداول، أو لنقل ذلك بصيغة أخرى، لأنه ينبغي أن نُثَبِّت المعرفة بالأدوات جيدا، وأن نلقن طريقة استعمالها قبل أن نتمكن من تقويم استعمالها. وثانية، لأن علم الإنسان الذي مارسه بورديو قد انطلق نحو اختيارات فلسفية أهم ما فيها أنها منحت رؤية «الإشراكات النظرية والأسس الأنثروبولوجية». واقتداء بمفهوم الهابيتوس، فإن أغلب المفاهيم الأساس في فكر بورديو المقدَّمة في هذا المعجم تُشتقُّ من التقليد الفلسفي، أو هي في حوار معه. وفي بحثه لبناء سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا قادرة، في نفس الوقت، على تجاوز البنيوية والظاهراتية، فلقد عالج بورديو وحلل، بفرادة ليست غريبة على جهده، حتى يفصل أغلب الأسئلة الفلسفية الكلاسيكية العامة عن «انحراف السكولائية». والحاصل، فإن تأثيرات المعقولية الناجمة عن الشبكة الكثيفة للتصورات التي أعدَّتها تدريجيا لم تمثِّل فقط آثار القطيعة وتجاوز الإشكالات السابقة، بل قد أسهمت في اشتقاق الفلسفة التي، وإن كانت مقَدَّمة من طرف مؤلِّفها كفلسفة سلبية، لا تخلو من كونها تملك هويتها التصورية الخاصة. وبالرغم من احتراسه بخصوص التجريدية، فإن بورديو كان يعرف أن اشتغال التصور يستدعي من تلقاء ذاته اشتغالا على التصور، وأن هذا الأخير يستوجب أثره المعقولي الخاص. ومن زاوية النظر هاته أيضا، يكون مُهِما أخذ التصورات مأخذ الجد.

هوامش المقدمة:
1- Questions de sociologie, coll, « Le sens commun », Éd. De Minuit, Paris, 1980, p. 121.
2- Réponses, pour une anthropologie réflexive, (avec L.J.D. Wacquant), coll « Libre examen », Éd. Du Seuil, Paris, 1992, p. 134.
3- Le sens pratique, coll. « Le sens commun », Éd. De Minuit, Paris, 1980, p. 89, note 2.
4- Questions de sociologie- Ibid, p. 121.


تعليقات