سهل ممتنع

من روائع المسرح التونسي :
"عَرَبْ "  لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
                                  تأليف وترجمة محمد مومن

ملاحظة :
         نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ " [Le Temps]"، يوم الأحد ١٤ من شهر جوان٧ ١٩٨، وقد عنونته أنذاك بعنوان كبير : " صور أرفية ديونييسية". وها أني أعود بعد واحد وثلاثين عاما لأترجمه لكم مقطعا مقطعا، وذلك بمعدل مقطع كل يوم، معنون بعنوانه الفرعي. واليوم  أترجم لكم هنا في "وقائع" مقطعا من المقال الذي يحمل عنوانا كبيرا، هو " صور أرفية وديونيسية". وإن نفعل هذا فللتاريخ والذكرى. أليس علينا أن نذكر؟ أليست الذكرى تنفع المؤمنين؟


                           سهل ممتنع



      هذه السهولة، وهي في حقيقتها بساطة، تبدو جلية في عَرَب"" على جميع المستويات : من الدرامي (الخرافة أو الحكاية) والخطابي، والسمعي والبصري، واللساني والمشهدي، إلى المرئي والإنجازي. وأول ما نلاقي بساطة الحكاية التي تُحْكَى لنا. والتي يمكن تلخيصها في بضعة أحداث جسام، في مجموعة قليلة من الأفعال الرئيسة : اختطاف (عربية)، هروب، لجوء، حصار، تقاتل بين المُحَاصَرِين ومحاولات رفع الحصار، فشل واستسلام. هذا  ما كان من جهة الخرافة. أما ما كان من جهة تركيبة الشخصيات فنلحظ فيها أيضا نفس النزعة الواضحة للبساطة وإذا بها تقنع بأن تكون بعض السمات الجسدية والخاصيات المادية وتكتفي بأجزاء متفرقة من سيراتها الذاتية التي لم تعد إلا ذكريات باهتة مشتتة.
 
ورغم هذا الفقر الكبير في التحديدات الجسمانية والتوصيفات المادية – لنقل في "التشخيص"— نحن إزاء أرواح نبيلة. النبل، والغياب التام لمظاهر البذاءة، هي السمات التي تتميز به هذه الأرواح القوية. وقوتها في أنها لا تتساهل أبد لا مع نفسها ولا مع الآخرين. وإن تنتهي وتعرف الموت فلأنها شخصيات قلقة، مقطعة، حائرة، لا ترضى بشيء. أما على مستوى البنية الزمانية التي تنبني حسبها حكاية "عَرَب" فما يغلب عليها هو منطق التسلسل والتتابع الزمني للأحداث. حركة الزمن في مراحله وفتراته، في كبريات "فصوله" هنا في "خط" متتابع.
     

       إنها حركة لا تعرف القطع والانقطاع: قص بلا قص. هناك "خطية" زمنية طاغية في حكاية "عَرَب"  فالأحداث هنا لها ماضي ولها مستقبل ﻷنها تتطور في اتجاه تصاعدي من السابق نحو اللاحق باستمرار. يحدث هنا أن الرواية تنقطع فتستطرد وتعود إلى الماضي ولكنها تفعل ذلك في صيغة قفزات نحو الأزمنة السابقة. غير أن القفزات هذه تظل سريعة وقصيرة تحدث كي توضح بعض الأحداث أو الحوادث، خاصة أنه عادة ما تقع الإشارة إليها بصفة صريحة وواضحة. هي إذن انقطاعات وقتية في زمن الحكاية لا تؤثر في سيره ومساره : فبنية الخرافة تبقى زمنيا من صنف فن الحكي التقليدي. من هذه الناحية لا تجديد يذكر، نحن بعيدين عن طرق السرد كما رأيناه وعرفناه في مسرحيات   ""المَسْرَحِ الجَدِيدِ السابقة "ك "العِرْسِ"، "الوَرْثَةِ"، "التَّحْقِيقِ" خاصة، "غَسَّالَةِ النْوَادِرْ"،  أو "لاَمْ".

لقد تعودنا في تلك الحكايات على رؤية نوع من التلاعب المتعدد الوجوه والملامح على الزمن وعلى تعاقب أقسامه وفصوله، ما يولد أشكال جديدة غير متوقعة من السرد في مسرح أصحاب "  العَوَّادَة ". وعلاوة على كل هذه المظاهر التي نأنس فيها البساطة، وجب علينا أن لا نهمل كذلك الصورة الركحية من جوانبها ونواحيها التشكيلية حيث نلحظ اجتهادها الكبير من أجل أن تكون جميلة لأنها تؤمن إيمانا مطلقا أن الجمال في البساطة : هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تفتن وتسحر المشاهد. وأولى تجليات هذه البساطة نراها في المساحات والأماكن التي رسمت وحددت بوضوح ودقة، مما يزيد في وضوح  المَشَاهِدِويقوي من فهمنا للوضعيات والمواقف.
  
لا عجب إذن إن كانت الخطوط مستقيمة في غالب الأحيان، حتى وإن تناست أحيانا أن تكون مستقيمة. وهي لا تتردد في عديد المواطن أن تكون ملتوية أو مهشمة. مثل هذا الاختيار التشكيلي  يُحَوِّلالصورة إلى مغامرة تحاول إعادة "هَرْمَنَة" عالم استعصت "هَرْمَنَتَهُ"  بما أنه صار " فَوْضَى". لهذا نرى ما ثقل من الأشكال هو الغالب والطاغي في الصورة، ولكن هذا الثقل لا يمنعها من النظر بعضها إلى بعض والتغامز بينها في حوار عجيب بين العيون، خصوصا ونحن في كنيسة مهجورة خربة متهاوية أسلوبها الهندسي هجين- " الرُّكُوكُو" - بما أنه مزيج من "الكلاسيكية" وتناسقها و"الباروكية" وحركيتها؛ وهذا الخليط وقع إعداده في البلدان المستعمرة مع ما ظُنَّ أنه أوج" الامْبرَاطُورِيَّة "وهو في الحقيقة من شارات نهاياتها  .

   ويحسن بنا أن نتذكر هنا أن " الرُّكُوكُو" يصنف عادة من   أساليب نهايات العصور وغروب القرون. ولو اختصرنا اختصارا شديدا لقلنا إننا حيال أشكال ترسم عالما متناسقا في عدم تناسقه متزن في فوضاه. أجل ، إن ما يميز هذا العالم الاَّمُحَدَّدِ بِتَحْدِيدَاتِه اللاَّمَحَدِّدَة ألوانه التي محاها الزمن فتفسخت أو تكاد بفعل الزمن.
 
وهذه الألوان التي صارت بفعل الزمن باهتة تروي لنا ما تروي من الصفحات الذهبية لهذه الأماكن ولهذه العوالم التي ذبلت وفنيت، صفحات البطولات والفتوحات التي كتبت عليها خوالد الأفعال ومكارم الأعمال، ولكن، يا حسرتاه، أصبح كل هذا وذاك من الذكرى:  لقد ذهب بريق الأشياء وانطفأ نورها. لم يبق من تلك الأيام الملونة الزاهية غير ألوان رمادية ترابية- وما "رمادية "  إلا من "الرماد"؟
 
    ما يتضح في الأخير أن الهيكلة المعمارية العامة لصورة عَرَب"" تجنح إلى البساطة وهو ما يتجلى بدون شك في خواء الفضاء الركحي. في خوائه وخلائه وعرائه.

تعليقات