المسرحية القصيرة في الإرث الإغريقي


المسرحية القصيرة في الإرث الإغريقي
أسخيلوس ويوربيديس وصوفوكليس: نماذج أصلية ومعايير جمالية
د. الزهرة إبراهيم- باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا- المملكة المغربية

سؤالان للبدء
سؤال أول: هل يعلم كل دارسي المسرح أن المأساة الإغريقية قصيرة؟
سؤال ثان: كيف صاغ شعراؤها معاييرها الفكرية والجمالية؟
قد تقف المسافة الزمنية بيننا وبين مبدعي الدراما الإغريقية فاصلا يغطي مجموعة حقائق، أو يشوش عليها، على الأقل. كما أن قربنا التاريخي من الكلاسيكيات المسرحية الأوربية يموِّه إلى حد كبير صورة المسرح الإغريقي الذي يعتبر من بين أقدم وأغنى مصادر هذا الفن، ومرجعا شادت شعريات مسرحية لاحقة تصوراتها ومفاهيمها، بناء عليه، إما اتفاقا وإما اعتراضا، إذا استحضرنا، ضمن مسألة المرجعية هاته، الرأي القائل بأنه قد «تم العثور على إحدى الوثائق الأثرية المصرية القديمة التي يرجع تاريخها إلى عهد الملك مِينَا في القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد، وتَبَيَّن أنها تتضمن أول عمل "درامي تمثيلي" في تاريخ الإنسان»1. إلا أن هذه المعلومة لا تقدم أثرا ماديا لهذا المخطوط حتى يحصل تناوله ومقارنته بالمنجَز الإغريقي الذي جاء بعده - حسب هذا الرأي-  بما ينيف عن خمسة وعشرين قرنا، وظل خلفية نظرية وتطبيقية لكل جهد يتصل بالفن المسرحي.
يبدو تحديد قِصَر المسرحية أمرا سهلا إذا حصل اختزاله في مستوى المسافة الكتابية لنص من هذا الجنس الأدبي، حيث غالبا ما يقترن، خطأً، بزمن العرض، وذلك في إطار مقارنات نسبية بين نص وآخر، أو عرض وآخر. إلا أن التدقيق في صفة "القِصَرِ" هذه، تستدعي منا تتبُّعا يقظا لهذا النعت الذي قد نطلقه جزافا على نوع من المسرحيات، كما ورد، وقد يرد، في عديد من الدراسات التي ربطت ميلاد المسرحية القصيرة بلحظات تاريخية حديثة ومعاصرة، استدعاها زمن السرعة، وقَرَفُ الإنسان الحديث من إطالة وتمطيط طَبَعَا المسرح الغربي الكلاسيكي الذي بلغ أوجه عند وليم شكسبير، على سبيل العد لا الحصر، كما بلغ يأسَه من التواصل اللغوي في مجتمع أضحى عاجزا على التفاهم والتواؤم بأدوات التواصل التقليدية، فعاف الكلام وترصيع الأساليب، فاستبدل الإطناب بالإيجاز، والنطق بالخرس، والقواعد باللاقواعد كما تبلور ذلك في بعض تجارب الطليعيين أمثال بكيت، ويونسكو، وأداموڤ، وجاري، والوجوديين، أمثال، سارتر.
أولا، المسرحيةُ القصيرةُ كتابةً
في هذا المستوى تستحوذ مسافة النص على المفهوم، وقد يبدو عدد الصفحات معيارا للتحديد، لكننا بتفحُّص كَمٍّ هائل من النصوص المسرحية من لغات وتواريخ مختلفة، تَبَيَّن لنا أن عدد الصفحات قد يخون قاعدة التحديد، وذلك بسبب حجم الخط ونوعه، والفراغ بين الأسطر، ثم مقياس الصفحة (طول/عرض)، وحتى كيفية إخراج الكتاب، ونعني بذلك امتلاء الصفحات وفراغها، بل وحتى وجود رسوم أو صور أو زخرفات في كثير من الصفحات، فيُحْسَبُ كل ذلك باطلا على حجم النص المسرحي. 2
إن الدراما حين تخرج من متخيل الكاتب وتدخل في مادية الورق، هي نص تحول من حال الكمون إلى حال التحقق، وبالتالي، فللكتابة وللملفوظ دورهما في تحديد حجم المسرحية، ذلك أن «اللغة الدرامية تقدم نفسها كتعاقد بين اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة، ويكون من المناسب، بعد تعيين حدَّي التعاقد، أن ننظر في أي نطاق يتدخل الواحد والآخر لتهييئ أسلوب جيد للمسرح»3، بمعنى إلى أي حد يكون تلفظ المُؤَدِّي لكلام النص المكتوب مطابقا لمحتوى نص الكاتب، إما زيادة أو نقصانا؟ وكيف يؤثر هذا التصرف في المكتوب - بما في ذلك الارتجال- على العرض الذي يتلقاه المتفرج في حلة مثيرة أو مبتذلة؟
ثانيا، المسرحية القصيرة عرضا
حين نُيَمِّمُ وجوهنا شطر العرض، ونحكم، من خلال ما شاهدناه على مسرحية مّا بأنها طويلة أو قصيرة، فإن حكمنا أيضا يظل في عداد الريبة، نظرا لاحتمالات شتى تؤثر على النص الأصلي، فتُمطِّطُه إضافة وارتجالا، أو تختزله اجتزاء واختصارا، وحتى نسيانا في بعض الحالات التي يرتبك فيها أداء الممثلين، يَطَّرِدُ حدوث هذا في المونودراما، لا سيما عند المؤدين حديثي العهد بالممارسة المسرحية، أو حين تطرأ حتى للمتمرسين منهم حالات نفسية تفقدهم التركيز والتمثل التام لسيرورات الأداء كما تم الاتفاق بشأنها مع المخرج، ليس كملفوظ كلامي وحسب، بل كحركات، أو ميم، أو كوريغرافيا، أو صمت، أو غناء، أو أكروبات أو غيرها من أشكال الأداء الجسدي والنفسي الذي يأخذ حيزا زمنيا أطول من كلمة أو جملة. فدخول الكلام في الحركة واقتضاءات الأداء في مساحة اللعب يؤثر بشكل واضح في مسألة الحجم هذه.
من جهة أخرى، فإن المطالب الأدائية لملفوظ النص، غالبا ما تقتضي إيقاعا ونبرا خاصا يتمثل في الانقطاعات، والتوقفات، والصمت أو الاستراحات التي ترتبط، على مستوى أول، بمتخيل الكلمات، وعلى مستوى ثان بانتظام المجموعات الإيقاعية4، فمثلا لا يمكن للمؤدي تَلَفُّظَ المقطع التالي من مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" بسرعة واسترسال، لأن طبيعة اشتغال الاستعارات في اللغة الشعرية يقتضي منه منح فسحة من الوقت لنفسه، أولا، وللمتفرج، ثانيا، حتى يحصل تلقي الفكرة وجمالية صورتها بما يساعد على تفريع إمكانات تأويلها، والتقاط مؤشر ذبذباتها باتجاه المعاني والدلالات والأبعاد لكل مفردات العرض المسرحي.
«... عريب-: كيف تهْواني؟
ابن الرومي-: شفَّافةٌ كالنُّورِ.. كالضِّياءْ.. كغَمامَةٍ وردية،
صافيةٌ كالنَّبعِ بلا لونٍ.. بلا ظِلٍّ،
أَهْوَاكِ يا جاريَّة،
رأيتُكِ يوماً في حدائقِ هِسْبْرِسْ،
كتاباً مفتوحاً والريَّاحُ تَقْرأ،
رأيتُكِ أنتِ لا الظِّل،
وَرَقٌ التُّوتِ لمْ يكنْ بَعْدُ حاضراً..
أَهْوَاكِ يَا عَرِيبُ... أهْواكِ عَاِريَّة...»5.
يحدث هذا في اللغة العربية التي تتميز، إضافة إلى ما سبق، بمُدُودِها المتمثلة في الصوائت الطويلة (واي)، أما في لغات أجنبية كاللغة الفرنسية مثلا، حيث تحضر العلامات التي تستعمل في الحرف للدلالة على نبرتهles accents ( '- ^ - `) ، أو المُصَوِّتاتles voyelles  الخفيفة مثل (a-i-é-è-o-u-y)، والثقيلة مثل(i-o-ou-y) ، بل إن بعضها يكون في كلمة ما قصيرا وفي أخرى ثقيلا مثل: (i). ويقدم بيير لارطوما النموذج التالي لإبراز هذه الثنائية الصوتية: (i d’ami est bref, et le i de grise est long) – 6 فإن هذه المعطيات الصوتيةphonétiques  تستأثر هي أيضا بأحياز زمنية تُمَدِّدُ المسرحية لا سيما إذا كانت مُطَّرِدة. لقد انتبه أرسطو منذ فجر التنظير البلاغي إلى هذه الظاهرة حين تناول في حديثه عن اللغة "ضروب النطق" المتعلق بأفعال الكلام التي تبني الحوار، كما فصَّل أجزاء اللغة المؤلَّفة صِواتيا من الحرف الهجائي الصامت والصائت ونصف الصائت، وأبرز تمايزها عن بعضها من حيث الطول والقصر، وأوجه إضافتها والربط بينها، وحالات الأسماء، وتصريف الأفعال، إلخ...7   
من هنا، تتأكد صعوبة التصنيف، ويصبح التفكير في ضبط معاييره وأجرأتها أمرا بالغ الأهمية، وذلك لرفع اللبس الذي يشوش على ترتيب النوع المسرحي باعتبار الكمِّ، أو الحجم، أو المسافة، أو المساحة، أو الكتلة.
عودة إلى الأصل: اكتشاف وفصل
المسرحية القصيرة؟ عنوان يحيل في وقتنا هذا إلى كل ما يكتنف وجودنا من مظاهر السرعة، وإكراهات الضغوط التي صارت دمغة إنسان الحداثة وما بعدها: كل شيء صار منذورا للتقليص والتكثيف الشديد إلى درجة الإجحاف: الأكلة السريعة، والأغنية القصيرة جدا، والقصة القصيرة جدا، والقطار الفائق السرعة، وأجهزة الالتقاط والبث الخارقة السرعة التي تملأ المدار الجوي، والكابل، والألياف الضوئية... والمثير في هذا السياق هو التقليص المثير للجدل الذي حصل حتى على مستوى تصميم مايوهات السباحة النسائية، خصوصا، فلم تعد تُبَّاناً يغطي الخصر، أو يصل إلى منتصف الفخذ، بل صار لا يغطي سوى جزءا من تضاريس النهدين والعانة، إنها ثورة العري، كاختزال، ضدا عن اللباس، كاسترسال. وليس غريبا أن يتزامن "البيكيني" مع قَصَّةِ الشعر القصيرة عند نساء نجوم أمثال مارلين مونرو، إذ لم يعد في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ذلك، في عالم ما بعد الألفية الثانية وقت للوقت، أي مجال لاستغراق الزمن البشري بإيقاعات متوسطة أو بطيئة أو وافرة. في ظل هذا الإحساس بوطأة السرعة في الزمن، تبلور إحساس مفارِق بين الإنسان المعاصر وإنسان العصور السابقة والسحيقة من حيث تصوُّر الزمن، وإدراكه، وتقديره، ثم تدبيره. ونتيجة لذلك، تم ربط كل ما هو طويل وبطيء ومتراخي بالعهود السالفة، وتخصيص كل ما هو حديث ومعاصر بالإيجاز والمبادرة والتقليص.
إلا أن اطلاعنا على نماذج من مخزون المسرحيات القروسطية المتمثلة في "مسرح الأسرار" و"الدراما الطقسية" و"الهزليات" إلخ...، والمسرحيات الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة، على اختلاف تياراتها وفلسفاتها وشعرياتها، كإرث مكتوب يراوح مسافته بين الطول، والتوسط، والقصر لم يكن ليصرفنا عن العودة إلى الأصول الإغريقية (على الأقل، ما دمنا لا نملك بين أيدينا نصوصا من الدراما الفرعونية المشار إليها سابقا) لكي نتعقب معيار القِصر في العمل الفني نصا كان أم عرضا منذ نشأة هذا الفن، وحتى نصحح، ما أمكن، بعضا من الأفكار الجاهزة التي تناقض حقيقة الأشياء، ذلك أن المأساة الإغريقية «لا تقبل المتماثل والمترادف، بل تكون هي ذاتها أو لا تكون. المأساتية الفعلية المُسْتَتَمَّة والناهجة نهجها والساعية إلى نموها وكينونتها، متطهِّرة من الحثالات ومن النفايات ومن الثرثرة ومن المشاهد المجانية ومن الشخصيات الدخيلة.»8 
يتأسس الإرث الإغريقي على نوعين دراميين أساسين: المأساة La tragédie في أعمال أسخيلوسEschyle  (525- 456 ق. م)، ويوربيديس Euripide  (480- 406 ق.م)، وصوفوكليسSophocle  (496- 405 ق.م)، والمهزلة La farce  أو الأهجيةla satire  المهزلة الهجائية La farce satirique في ما أبدعه أريستوفانAristophane  (445- 385 ق.م)، وبلاوتوس Plaute (254-184 ق.م). ولقد اخترنا، في هذه الدراسة، الاقتصار على الأعمال التراجيدية للشعراء الثلاثة اقتفاء للأصول الدرامية حيث سننطلق منها للتفكير في مساءلة المعايير التي تحكم ما يمكن تصنيفه "مسرحية قصيرة"، ثم لنكشف، في الآن ذاته، إذا كان هناك ثمة مفارقات بينها وبين تراجيديات وكوميديات شكسبير W. Shakespeare وكالدرون P. Calderon، وموليير Molière (من أواخر القرن السادس عشر حتى السابع عشر) مثلا، وأوجين لابيشEugène Labiche  في  القرن التاسع عشر، وداريو فو Dario Fo في القرن العشرين، على سبيل الإشارة لا الحصر.9
للصيرورة التاريخية أثرها على الفن المسرحي. لقد تحولت المأساة من القَدَر الأسطوري أو الديني الغامض الذي تمسك خيوطه الآلهة والقوى الخارقة خيِّرة كانت أم شريرة، إلى قدر وجودي تصوغه إرادة الإنسان، ومنجزاته العلمية والتقنية التي صارت تتحكم في سعادة البشر أو تعاستهم داخل مجتمع التصنيع وهيمنة الرأسمال المادي بنزوعاته الاحتكارية وتشجيع مجتمع الاستهلاك، حيث يبدو العالم مشيدا ماديا، لكنه مخرَّب قيميا وإنسانيا. وتبعا لاستمرار المأساة في وجود الإنسان بالرغم من تحوُّل أطرها، فإن «الآثار المسرحية الأولى، كما بدت عند الإغريق، ثم إلى الآثار الشكسبيرية، فالمعاصرة، نجد نموا مّا طرأ على مفهوم المأساة، إلا أن قاع التجربة هو واحد وإن عبَّر عن ذاته بأشكال مختلفة.»10
لقد اعتمدنا في تتبع معايير المسرحية القصيرة عند الثلاثي التراجيدي الإغريقي، ما يلي:
 معيار الكم: كما استخلصه أرسطو من التراجيديات الإغريقية، ويتمثل في عدد ونوع الأجزاء وترتيبها وفق حبكة المسرحية، وهي كالآتي:
1-المقدمة «البرولوج»، 2-المشهد التمثيلي «الإبيسود»، 3-المخرَج «الإكسودوس»، غناء الجوقة الذي ينقسم بدوره إلى المدخل «البارودوس»، والمُنشَد «الأستاسيمون». وقد ينضاف في بعض التراجيديات جزءان كميان آخران هما: أ- أناشيد الممثلين، ب- منائح الكوموس.11                 
 معيار الكتلة، لا المسافة ولا الحجم، لأن أصحَّ قياس هو عدد كلمات النص، ولا بأس من التنويه هنا إلى أنه من المفيد أن تفكر الجهات المكلفة بنشر كتاب مّا في تعيين عدد كلماته ضمن مجموع المعلومات الخاصة بتوثيقه الموجودة غالبا في صفحته الثانية أو الثالثة. وبما أن المراجع التي اعتمدناها تعود إلى ستينات القرن الماضي، فإن ثمة قياسات أخرى سنشتغل بها في هذا الصدد.
فالنصوص التي استثمرناها، لهذا المطلب، مطبوعة على كتُب من القطع المتوسط (17.5/10.5 سنتمتر)، أما حجم الخط Police  فهو 12 بالنموذج الكرافي Times New Roman.
تناولنا ،أولا، نماذج من مسرحيات أسخيلوس12، فوجدناها موسومة بالقِصَر كما تكشف مسافتها الكرافية "المتضرعات"LES SUPPLIANTES : 24 صفحة، و"الفرس" LES PERSES: 23 صفحة، و"السبعة ضد ثبيس" LES SEPT CONTRE THÉBES: 23 صفحة، و"بروميثيوس في الأغلال"PROMÉTHÉE ENCHAINÉ: 24 صفحة، و"أغاممنون"L’AGAMEMNON : 36 صفحة، و"حاملات القرابين"LES CHOÉPHORES : 35 صفحة، و"الخيِّرات" :LES EUMÉNIDES  23 صفحة.
وثانيا، تبدو نماذج من تراجيديات يوربسديس13 أطول نسبيا من نظيرتها عند أسخيلوس، فنص مسرحية "إفيجينا في أوليس"Iphigénie à Aulis  يمتد على 54 صفحة، و"إلكترا"lectre É على 45، و"أورست"Oreste  على 64 صفحة، و"إفيجينيا في طروادة"Iphigénie en Tauride  على 52 صفحة.
أما أشهر مسرحيات صوفوكليس14 فتجد لها موقعا وسطا بين سابقيه تاريخيا وإبداعيا. فـ "أجاكس"Ajax  استوفت 33 صفحة، و"أنتيجون"Antigone  32 صفحة، و"أوديب ملكا"Œudipe roi 38 صفحة، و"إلكترا"lectre É 37 صفحة، و"الطّْرَاشِينِيَّات"Les Trachiniennes  30 صفحة، و"فيلوكليت"Philoclète  36 صفحة، و"أوديب في كولون"udipe à Colone Œ 47 صفحة، و"الكلاب الضاريّة"Les Limiers  09 صفحات فقط لأنها نص مبتور ضاع جزؤه الأخير.
  معيار اللغة: في الوقت الذي أسست التراجيديات الإغريقية لغتها على الكثافة والاختزال، سواء في نشيد الجوقة، أو في بعض من حوارات الشخوص، جنحت المسرحيات القروسطية والكلاسيكية والمعاصرة إلى البسط والنشر والإسهاب في الكلام، وهكذا يفرد أرسطو في شعريته مقاما للتأكيد على أهمية الاقتصاد في كم الحبكة الدرامية، ذلك «أن الشيء الجميل- سواء كان كائنا حيا، أو أي مؤلَّف من أجزاء مختلفة- يجب أن لا تترتب أجزاؤه في انتظام فحسب، بل يجب أن يكون أيضا ذا عِظَمٍ ملائم، لأن الجمال يتوقف على محدودية الحجم، وعلى التنظيم»15. إن مفهوم الملاءمة عند أرسطو ينحو باتجاه الاعتدال، فلا طول مقرف، ولا اختزال مجحف.
 معيار شعرية اللغة: انسجاما مع البلاغة القديمة القائمة على الإيجاز، كجوهر في صياغة تمثلات الإنسان عن نفسه وعن الوجود الفيزيقي والميتافيزيقي من حوله، بحكم ترعرعها في أحضان أسطورية، ودينية، وفلسفية تطبعت بمنطق الإيحاءات والإشارات والتمثيل الأيقوني للوجود المادي والمجرد، فإن لغة التراجيديات الإغريقية قد برزت على مستوى عال من السُّمْك والكثافة، كما تكشف عن ذلك الحوارات التالية:
«... الجوقة: أصرخ من خوفي ومن آلامي المُتَّقِدَة، سقط المسلحون، طوفان هائل من الفرسان أخلى المعسكر وها هو يجري إلى الأمام، هذا ما يشهد به الغبار الذي أراه يتصاعد في الأجواء، رسول دون صوت، لكنه صادق وحقيقي...»16
«... أبولون-: اذهب إذاً، وبَجِّلْ أجملَ الآلهة، إنه السِّلْم. أنا، سأقود هيلينHélène  إلى عتبة قصر زوسZeus ، فعبْر القبة السماوية حيث تتوهج النجوم والكواكب، هنا تستقر بالقرب من هيراHéra ، بالقرب من هيبيHébé ، رفيقة هيراكليسHéraclès ، ستصير إلى الأبد إلَهَةً،  ومُبَجَّلَةُ الموتى  بإراقة الخمور، وملكة البِحَار، ومع التِّينْدَارِيدْLes Tyndarides ، أبناء زوس ،ستحمي البَحَّارle marin ...»17
«... أوديب-: أبولون، يا مليكي، هل يمكنه أن يحمل إلينا الخلاص! فالفرح يُشِعُّ في نظرته.»18
إن الدال اللغوي لا يحمل دلالة المطابقة فقط، بل يحمل دلالة الإيحاء، فمن جهة، تتأسس العلاقة القائمة بينهما على التنافي بكيفية قد تدفع الاستعارات إلى أبعد مداها l’Oxymore، ومن جهة أخرى، تهيمن دلالة الإيحاء لاتصال الفكرة أو الإحساس بعوالم الآلهة وحكايات الأبطال الأسطوريين،  وأبطال البشر الآثمين والمعذَّبين تحت وطأة أفعال ساقها القدر المشؤوم إلى وجودهم. وبهذا يأخذ الانزياح منحى يصل إلى حدود ما سماه بول ڤاليريPaul VALÉRY  بالافتتان، حين يكون «الشاعر ملزَما بخرق اللغة إذا أراد أن يبرز وجه العالم المؤثر الذي يخلق فينا ظهوره ذلك الشكل البالغ من الأريحية الإستطيقية»19    
فالفن الشعري - الذي استوى عُودُه عند شعراء الإغريق، واشتغل كلغة وأخيلة وصور قدَّمت مآسي البشر ببساطة القدر حين يقع، وبتراكب الصور المفجعة لمصائر الشخصيات حين تهيم عاجزة تبحث عن الخلاص- لم يكن له من اختيار، حينذاك، سوى الاستناد إلى البلاغة القديمة وروحها القائم على التكثيف والإضمار والإشارة، واسترفاد اللغة وفق جرعات معينة، وبتدبير بالغ الاقتصاد لا يزيد عن جسد الفكرة فتبدو داخل نسيج اللغة متمطِّطة مترنِّحة لا قوام لها ولا رشاقة. وقتها لم تكن، كما يشير إلى ذلك جان بولانJean PAULHAN ، قد فقدت بعد «تقنيتها التي تشتتت وتفككت، وضيعت وسائلها الخاصة، فرأيناها تُغْزى بخُطّة تقنيات مجاورة»20 جردت المسرحي Le théâtral من خصيصته الشعرية، وتَطَبَّعَ بخصيصات الرواية والروائيle romanesque . وهذا ما تؤكده التراجيديات الكلاسيكية بالرغم من أنها حاولت الإبقاء على الشعر وعلى العلاقة بعوالم الآلهة والأرواح الشريرة والخرافات، والأسرار كما في عدد من مسرحيات وليم شكسبير.
 معيار الشخوص: لو عقدنا مقارنة بين نصوص الثالوث الإغريقي وبين نماذج درامية عديدة كتبت في العصور القروسطية أو الحديثة أو المعاصرة، فإن أول ما يثير انتباهنا هو اعتدال عدد الشخوص المتراوح غالبا بين ستة وتسعة، بينما يصل عدد من شخصيات المسرح الحديث، مثلا، إلى ثلاث وعشرين شخصية عند جان أنويل، وأكثر من خمسين شخصية عند جان جيرودو21. نستحضر في هذه المقارنة شهادة صوفوكليس في حق أستاذه الكبير أسخيلوس: «لقد كان يفعل ما ينبغي أن يُفعَل من دون أن يعرف ماذا كان يفعل»... هذا الحكم جعل المريد يستلهم تجربة شيخه، فيتأكد من كتاباته الكثيرة أنه «يفوز في اقتصاده الدقيق، وفي التوازن، وفي التناغم. لقد قرن العفو بالقدرة، والعظمة عنده لا تنفصل عن البساطة، فلا يعرف فنه التشنج، والقلق، وتظل إبداعاته مضيئة بالفرح الذي ينبغي له أن يخلقه»22، إن صوفوكل، على خطى سابقيْه وبمعيَّتِهما، أسخيلوس ويوربيديس، هم الذين قال عنهم إ. ج. كريجCraig  «لقد كان المؤلفون المسرحيون القدامى أبناء المسرح الذين رضعوا لبانه، أما المؤلفون المحدثون فليسوا كذلك»23  حرصا من أولئك القدامى على أن  يظل المسرح فنا شعريا وشاعريا، ليس في لغته فحسب، ولكن في جميع عناصره، بما فيها حسن اختيار الشخصيات عددا ونوعا، ليصل العرض إلى المتفرج في حلة رشيقة وفاتنة لا أثر للتكلف والترهل المفضي إلى الملل منها والعزوف عنها.
 معيار الإرشادات المسرحية: يندر استعمالها كنص مواز para-texte لنص الحوار، فضلا عن ذلك، فهي مصوغة بإيجاز كبير مثل (يخرج- يدخل- يبتعد- يصل- لامرأة ترافقها- إلخ...). فشعراء التراجيديات الإغريقية يكونون أول من أجاد استعمال هذه التعيينات السياقية التي يجدر بمبدع النص الدرامي أن لا يستعملها بشكل مبتذل أو ثقيل أو بليد كما لاحظ ذلك وتذمر منه إ.ج. كريج في المسرح المعاصر. فلا جدوى - في رأيه- من حشو النص بها إذا كان ما ستفيده متضمَّن في حوارات الشخصيات «فأية "تعليمات مسرحية" يضعها المؤلف بعد هذا لا تكون إلا تفاهات.»24
 معيار أسلبة الزمن: ويتعلق بالطريقة التي تبنى بها الحبكة، ففي الوقت الذي اعتمد شعراء الإغريق بساطة خطية الزمن الدرامي والتدرج المنطقي نحو نهاية الحدث، جنح كتاب المسرح المحدثون إلى تركيب الزمن وتقطيعه استباقا واسترجاعا ودمجا…25، كما أن تدخل المخرج قد يؤثر على الزمن الفعلي للفصول، تقليصا أو تمديدا، كما يرتئيه كاتب النص، ونجد لدى بومارشيه  BEAUMARCHAIS والمخرج جان مايير Jean MEYER نموذجا حيا، حيث عمل هذا الأخير على تقليص فصول مسرحية "زواج فيغارو" بمعدل 7 دقائق لفصولها الأربعة.26  في الوقت الذي كان يعلن فيه بومارشيه، على يافطة في صالة العرض، المدة الزمنية لكل فصل من فصول مسرحيته بالدقائق.
سؤال للتفكير..؟
أيكون اعتبار حيثيات عمل كل من مؤلف النص الدرامي ومخرجه كافيا لتحديد قصر المسرحية أو طولها؟ ألا يتدخل المتلقي (قارئا ومتفرجا)، مسنَدا بأدواته، وخلفيته المعرفية، وشرطه التاريخي والحضاري، ليقرر معطيات جادة، لا سبيل للقفز عليها، من أجل تصنيف موضوعي وديموقراطي لمفهوم فعل إبداعي متعدِّد الشركاء اسمه: المسرحية القصيرة؟
انتهى
الهوامش:
1- جردون كريج- في الفن المسرحي- ترجمة: دريني خشبة- مراجعة: علي فهمي- الدار المصرية اللبنانية - الطبعة الأولى يناير 2000. أنظر كلمة الناشر- ص 7.
2-أنظر: الطيب الصديقي- أبو حيان التوحيدي- الطبعة الثانية 2006- البوكيلي للطباعة والنشر- القنيطرة- المملكة المغربية.
3- Pierre LARTHOMAS- LE LANGAGE DRAMATIQUE. PUF, 5ème Édition, Février 1995, P. 20.
4- Ibid, P. 65.
5- عبد الكريم برشيد- ابن الرومي في مدن الصفيح- احتفال مسرحي في سبع عشرة لوحة- إديسوفت- مطبعة النجاح الجديدة- طبعة 2012- ص 68.
6- Pierre LARTHOMAS- LE LANGAGE DRAMATIQUE. Ibid, P. 64.
7- أرسطو- فن الشعر- ترجمة وتقديم وتعليق: د. إبراهيم حمادة- مكتبة الأنجلومصرية- القاهرة- مصر- 1989- ص 176- 181.
8- إيليا الحاوي- إيليا الحاوي- يوربيديس والتراجيديا الإغريقية – سلسلة أعلام المسرح الغربي 3- المسرح العالمي- دار الكتاب اللبناني- بيروت- الطبعة الأولى- 1980، ص 7.
9-  د. ماري إلياس- د. حنان قصاب حسن - المعجم المسرحي- مكتبة لبنان ناشرون- الطبعة الأولى- 1997- ص ص 334- 335- 336.
10- إيليا الحاوي- إيليا الحاوي- يوربيديس والتراجيديا الإغريقية- مرجع مذكور- ص 8.
11- أرسطو- فن الشعر- مرجع مذكور- ص 127.
12- ESCHYLE – THÉÂTRE COMPLET - Traduction, notices et notes par Émile CHAMBRY. GARNIER-FLAMMARION, Paris, 1964.
13- EURIPIDE – THÉÂTRE COMPLET 1- Traduction, introduction et notes par Henri BERGUIN et Georges DUCLOS- GARNIER-FLAMMARION, Paris, 1965.
14- SOPHOCLE- THÉÂTRE COMPLET- Traduction, préface et Notes, par, Robert PIGNARRE, Paris, 1964.
15- أرسطو- فن الشعر- مرجع مذكور ص 108-109.
16- ESCHYLE - THÉÂTRE COMPLET, Ibid, P. 75.
17- EURIPIDE - THÉÂTRE COMPLET 1, Ibid, P. 224.
18- SOPHOCLE - THÉÂTRE COMPLET, Ibid, P. 107.
19- جان كوهن – اللغة الشعرية- ترجمة محمد الولي ومحمد العمري- سلسلة المعرفة الأدبية- دار توبقال للنشر- الطبعة الأولى 1986، ص 215.
20- Pierre LARTHOMAS- LE LANGAGE DRAMATIQUE. Ibid, P. 20.

21- Voir : A- Jean ANOUILH- Beckett ou l’honneur de Dieu- Éditions La Table Ronde- Livre de Poche- Paris, 1959.
B- Jean GIRAUDOUX- La folle de Chaillot- Éditions Bernard GRASSET- Livre de poche- Paris, 1946.
22- SOPHOCLE - THÉÂTRE COMPLET, Ibid, P. 20.
23- إ. ك. كريج- في الفن المسرحي- مرجع مذكور- ص 170.
24- نفسه، ص 179.
25- Pierre LARTHOMAS- LE LANGAGE DRAMATIQUE. Ibid, P. 167.
26- Ibid, P. 150.

تعليقات