من المسك إلى الدفن

من روائع المسرح التونسي :
"عَرَبْ "  لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
                                  تأليف وترجمة محمد مومن

ملاحظة :
         نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ " [Le Temps]"، يوم الأحد ١٤ من شهر جوان٧ ١٩٨، وقد عنونته أنذاك بعنوان كبير : " صور أرفية ديونييسية". وها أني أعود بعد واحد وثلاثين عاما لأترجمه لكم مقطعا مقطعا، وذلك بمعدل مقطع كل يوم، معنون بعنوانه الفرعي. واليوم  أترجم لكم هنا في "وقائع" مقطعا من المقال الذي يحمل عنوانا كبيرا، هو " صور أرفية وديونيسية". وإن نفعل هذا فللتاريخ والذكرى. أليس علينا أن نذكر؟ أليست الذكرى تنفع المؤمنين؟
    
 

                    من المسك إلى الدفن           
   

   تُشَّيِّدُ " عَرَبْ" مكانها الركحي، تَبنْيِه وتُقِيمُهُ، تُهَيِؤُهُ  إن شئنا، حسب ثلاثة طوابق :  العلي  والأرضي وما تحت الأرضي. هذا الشكل يذكرنا بالهيكل الركحي الاليزاباتي المُقَامِ على تعدد المستويات والطبقات وعلى ما يسمى ب " الغُرَفِ"، وهي كلها  جهات ركحية تشير إلى ما يشبه  الكَوَالِيسَأو  الثُّقُب وما الثُّقُب سوى أماكن تظهر منها الشخصيات وفيها تختفي. ولكن الدور الأكبر الذي يلعبه هذا الشكل أنه يصور لنا هندسيا وبالتالي سينوغرافيا-- أي بلغة الفضاء ومفرداته -- مصير المُحَاصَرين  الذين يجدون أنفسهم بين الأرض والسماء، بين حلمهم بالسمو والارتفاع، لنقل  بالإِسْرَاءِ، وبؤس واقعهمككائنات أفقيا من علياء السماء، بين النار والرماد، بين الموت والحياة. يجيب على حلم الشخصيات بما هو "عمودي"، أي بكل ما هو صعود ورقي إلى عنان السماوات، واقع ما هو "أفقي"، ما هو توسع واكتساح للمساحات. هكذا تتمثل لنا الإشكاليات والأغراض الرئيسة ل" عَرَبْ"، فتتجسد بعلامات الفضاء. ليس  لشخصيات حكايتنا من عديد الخيارات :  لها أن تبقى واقفة منتصبة القامة صامدة أو أن تسقط، فتخر بكامل هامتها، فتطيح طريحة وأحيانا صريعة : أي أن تستسلم وتستقيل. وما مصيرها في النهاية ؟ جميع الشخوص، بما هم حَمَّالَة الأحداث، سيقعون ويسقطون، نعم سيعرفون الهاوية. ستنتهي بهم أيامهم إلى بقايا حياة لا  تُحْيَاإلا "أفقيا"، مع أديم الأرض وسطحها، في عُقْرِ   بَيِّنللغبار : فالكل- كما كان يقول القدامى-  يَتْرِبُ تُرَابًا. في هيئة الميتين المدفونين والراقدين تحت التراب. وأن تكون الشخوص هكذا، في وضعية إمساك رهيبة، بين بين، نازلة في منازل بين السماء والأرض، بين الملائكة والشياطين، فلا قرار ولا استقرار: وحده باب الموت يتراءى لهم كباب للنجاة والخلاص. هاهم  قوى تتقاذفها الأهواء  فلا يثبتون على الحب ولا يقطعون  مع الحروب.  لا يطمئنون بعالم المثل ولا  يلجأون لعوالم الواقع. هم تارة من جانب الحلم وتارة أخرى من جانب الحقيقة، مرة يم شعرا و أخرى يقطرون نثرا. هم باختصار شديد كائنات وقوى ملقاة بين الأسطورة والتاريخ. ورغم كل شيء، ستجد هذه البشرية نفسها مدفونة تحت اللحود. من المَسْكِ (وه التَّرَحُل، وعدم التَّمَسُّك) إلى الدَفْنِ )وهو القَبْرُ  ) : ذلك هو مسار دراما  " عَرَبْ"، يعني مجمل أحداثها المحكية وشخصياتها الحاملة لأفعالها المروية. وهذا، كل هذا مرسوم بوضوح تام بفضل هندسة الفضاء الركحي .

تعليقات