ماقبل التاريخ

من روائع المسرح التونسي :  "عَرَبْ "
   لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
                                      بقلم محمد مومن

ملاحظة :
  نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ " [Le Temps]، يوم السبت ١٣ من شهر جوان٧ ١٩٨، وأتى تحت عنوان : " الركح ساعة الأساطير الكبرى" .


             ما قبل التاريخ       
       تنبثق " عَرَبْ " إذن من هذه الصحراء ومن هذا الليل الذي يتمثل سديما. أجل، في البدء، أُلْقِيَ بنا في غياهب الزمن. ربما كنا في أزمان ما قبل النشأة – نشأة الكون والأشياء. ومرد هذا أن " عَرَبْ" ما فتئت تُنَمِّي وتبرز هذا البعد الأسطوري- الميثولوجي- مُنْشِئَةً " قِصَّةً آدَمِيَّةً" تحكي رواية  الكون. غير أننا نرى هذا الزمن الميثولوجي " مَا قَبْل- النَّشْأَةِ الكَوْنِيَّة" تعبيرة عن غياهب أزمنتنا العربية. إنه ما قبل تاريخ العرب. والحق أن " الفَاتِحَةَ" التي تُفْتَحُ بها " عَرَبْ"، وفي ما هي تمهد لما سيحدث ونراه، تقول بقوة إننا لم نزل في ما قبل التاريخ. يصير ما قبل الدراما هو صورة استعارية للدلالة على ما هو سابق للتاريخ. لم ندخل التاريخ؟ كلا! ولكن ما تلك الأحداث المروية لنا إذن من لدن هذه المأساة القبلية التينَفَسُهاَ وتَنَفُسُّهَا  ملحميين؟ من الواضح، أنها تندرج في الحوادث المشتعلة لراهننا الحارق. فها أننا نُلْقَى مباشرة بعد " الفَاتِحَةَ" وسط حرب لبنان الأهلية في ما هي في أوجها، لاهبة كالجمر.
     بين ما يفصل المقدمة- أي عواء الريح الفاتح للمسرحية- وعبور " مَنُّوبِي" الخاطف للركح راكبا حصانه " الشَّارِف"، سنعبر، نحن المتفرجون، قرونا وقرونا من تاريخنا، أو بالتحديد من  لاَ تَارِيخِنَا" العربي، وإذا بنا فجأة في قلب " الحَدَاثَةِ"، ما سميناه بشيء غير قليل من الاستخفاف ب " الحَدَاثَة". ماذا يعني هذا القفز المذهل في الزمن؟  تُرَى، هل يشير إلى أننا مازلنا، نحن معشر العرب، في زمن " مَا قَبْلَ التَّارِيخِ"؟ ربما  هذا يعني، في ما يعني، أن ما نسميه حداثتنا لا يتجاوز كونه عصر من عصور " مَا قَبْلَ التَّارِيخِ" في تاريخنا. الراجح أن ما تقوله " عَرَبْ" هو أننا لم ندخل فعلا التاريخ بعد، وأننا لسنا بالخصوص في ما يجب أن تكون عليه " الحَدَاثَةِ" الحق.  ما علينا ألا أن ننظر إلى حالنا! أليس شأننا اليوم كشأننا بالأمس؟ ها أننا ما زالنا نخوض معارك قَبَلِيَّة، وكالأمس ما انفكت تنشب بيننا حروب كلامية و معارك بلاغية. ومازال العرب يواجهون المدافع الرشاشة بالكلمات الرنانة : انظروا " قُرَيْشْ" حامي حمى العرش! أنه يتكلم بكثرة، إلهي، كم يتكلم! إنه لا يعرف الصمت ويجهل السكوت، وها هو يتكلم، ويتكلم، والعالم ينهار على رأسه وهو لا زال يتكلم، والدنيا تميد من تحت أرجله، وهو يتكلم، يثرثر ويهذي. الهذيان يحمله كالحمى تحمل مصابها. كما أمواج البحر الهادرة تحمل غريقها. " قُرَيْشْ" هو رب الكلام الثرثار حتى الانهيار، حتى الموت. وما " قُرَيْشْ" إلا أنا وأنت، وكل العرب. أجل، تقول " عَرَبْ" إننا مازلنا مسافرين في الليل، ليل لا ضوء فيه. لا، ولا حتى قبس من نور.


  

تعليقات