تغريبة العرب

من روائع المسرح التونسي :  "عَرَبْ "
   لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
      
            تغريبة العرب   

ملاحظة :
  نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ "  [Le Temps]، يوم السبت ٣٠ من شهر ماي٧ ١٩٨، و أتى تحت عنوان : "سفرات في أقصى عروبتنا". هذا العنوان الجديد موضوع حديثا. 


       لما اعتزم ناس"  "المَسْرح الجَدِيدأن يعتزلوا فن الركح عام ٣ ٨ ١٩بعد رائعتهم لاَمْ"" كان شعورنا كبيرا ومريرا بأن شيئا ما، شيئا  مُهِماًّللغاية يفارق المسرح التونسي، يغادر المشهد ومنه ينسحب. وها أن المجموعة تعود وقد كسبت وجوها جديدة انضمت إليها. وها أننا نشعر الآن بسعادة غامرة كون مجمل مسرحنا التونسي أو أجمله يعود.
      ها قد برهن  ناس  المَسْرَحِ الجَدِيدِ"  مع "عَرَبْ "- مسرحيتهم الجديدة التي قدّموها قُدَّا م محبيهم يوم الأحد الفارط في أول عرض لها بكنيسة  "سَانْ لُوِيسْفي قرطاج- أنهم بما لا   يحتمل الرفض أو الرفت ملوك  الفن الدرامي تحت سماء قرطاج. فسيادتهم فيه  واضحة وضوح الشمس. لقد انتهينا واقتنعنا بهذه الرائعة الفنية أنهم أسروا  أَحَيَاءً إلى سماء الأسطورة، في مصاف الخالدين من مسرحيي التونسيين والعرب. ولا نظنن أن عَرَبْ" " ليست سوى مسرحية تنضاف إلى مسرحيات أخريات أو رائعة أخرى لا يزيد فضلها كونها  تُغْنِي قائمة الروائع السابقة للمجموعة ( " العِرْسْ " الوَرْثَة"،  التَّحْقِيقْ"، "غَسَّالِةْ النْوَادِرْ"، "لاَمْ"( إن ما تقْتَرحُه "عَرَبْ"  نشيد ليس كمثله نشيد :   هو خيال جديد  يُجَنِّحُ في سماوات مناطق قَصِيَّة، على تخوم ما لا يُعَالَجُ عادة على الركح.  إنه جمالية درامية ما لا يُحْتَمَل وما لا يُطَاق. ها أن المَشْهَدِيَّةِ الركحية العربية إذن تتقدم إلينا حسب ما حلمت بها بعضُ الأَرْوَاحِ النِّيتْشَاوِيَّةِ المُتَمَرِدَةِ لا ريب أنها ضرب من المشهدية الدِيُونِييسِيَة التي تتهيأ لنا مزارا تَعُودُهُ كائنات حية لحظة تكون في ذروة حنقها وحقدها:  فما الركح بركح، وإنما مقام تهيج فيه الناس الذين سكنهم الكَلَبُ فخسروا إنستانيتهم  وإذا بهم عواصف، زوابع وتوابع، تنتصب قدامنا فتعصف وترعد ثم  تذوب وتذبل حتى تموت وتصير ترابا يبابا
علينا أن نؤمن إيمانا قاطعا ونهائيا أنه لا توجد قراءة نقدية واحدة، مهما أرادت أن تكون " مُحِيطِيَّة"- من المحيط- قادرة على أن تشمل وتلم بكل الثراء الدلالي لهذا الأثر الكبير. ما سنقوله هنا لن يتحاوز كونه شارات، شارات لا غير.
نحن الخاسرون
     "عَرَبْ " ملحمة هلالية. هي رواية بدوية، قصة حرب  قَبَلِيَّةأي أهلية، تندلع بسبب اخْتِطَافٍ : " قُرَيْشْ  " (لمين النهدي) يختطف الأبية والجميلة عربية (زهيرة بن عَمَّارْ). ويفر الحبيبان العاشقان فيأويان إلى كنيسة مهجورة متروكة. ستقع محاصرتهما من طرف أبناء أعمامهما " الطْمَامْرِيَّة " ويجدان عونا من " خَلِيلْ"، مراسل حرب لبنان ومصورها الذي نجا بأعجوبة منها (فاضل الجزيري) ومن ابن   "مَنُّوبِي" )فتحي هداوي(  الذي كان قديما فلاحا ثم أصبح محاربا عسكريا ومن خادم خرساء تحتمل أوجاع  الجميع وآلامهم مكناة ب"عَصْفُورْ" )فاطمة بن سعيدان( وفجأة، على حين غرة إذا بحبيبة قديمة ل قلب " خَلِيلْ "، يحبها وهي لا تحبه، تظهر من جديد في حياته وهي حامل منه تحمل ابنا و"حُورِيَّة هذه تعمل كمضيفة طيران في شركة خطوط جوية خليجية عربية  وقد عاشت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية في ١٩٧٨. إن ما تمسرحه  "عَرَبْ " هو المسار البطيء والحتمي لهذه البشرية المحاصرة التي وقعت في قلب شيء شبيه بالفخ : هي رواية لمسير ومصير هؤلاء القوم المطاردين. سنعيش الإيقاع المحموم والمكلوب لهذا الاحتضار الجمعي. لا قدر على ما يبدو لهذه الإنسانية التي كانت في السابق متضامنة متوحدة ثم أصبحت تدريجيا، شيئا فشيئا، متشتتة متعادية، إلا الجنون والفناء. من الثورة (المسلحة)، تنزلق رويدا رويدا نحو الخضوع والخنوع والقبول، نحو الاستسلام والتسليم : "عَرَبْ "  ملحمة هائجة غاضبة، فاجعة لا تُحْتَمَلْ، لقدر كله جنون وموت، لهذا الانتحار الجماعي  (هَارَاكِيرِي)، لهذا الدمار الشامل. لهذه الإبادة، ذلك أنها إبادة. و" الطْمَامْرِيَّةُ" لا نراهم أبدا، ولا مرة واحدة. نسمع عنهم وعما يفعلون ولكن لا نراهم. هم ما يشبه ملائكة "الرحمة"، عزرائيل وقد تعدد وتكاثر.  وهم بالخصوص أشباح، هم صور حالكة لضمير   المُطَارَدِينالمظلم : يعني خوفهم. نعم خوفهم وجبنهم. يمكننا الذهاب بعيدا حتى القول إن"عَرَبْ " أعمق من كونها تفكيك لحرب أهلية محورها قبيلة من القبائل أو عشيرة من العشائر. لا، لا : هي مَسْرَحَةُ لسفر في أقاصي الخوف- وما الجبن إلا وجه من وجوه الخوف  سقوط في هاوية النفس الأمارة بالسوء، وهي انحدار،، انحدار في جحيم الضمير المظلم لهؤلاء المُحَاصَرِين : خوفهم ورعبهم. إن هذا الضمير المظلم للشخصيات هو ضميرهم التعس، أو إن شئنا وعيهم الشقي بفشلهم. هم خاسرون ويعلمون في قرارة أنفسهم أنهم خاسرون. مصيرهم هو الخسران، أجل. ولتعلم إن لم تتفطن بعد إلى أن هؤلاء المُحَاصَرِين هم أنا وأنت. هم؟ هم نحن، نحن العرب، الأقوام الخاسرين، نحن شعب " المَاياَ " الجدد، " مَاياَ " الأزمان الحديثة التي بلا قلب، بلا رحمة : إنسانية، يا ويلتاه، بلا إنسانية
الشتات العربي
     تتقدم "عَرَبْ " كنشيد عن الأرض، هذي الأرض : أرض مطلقة، في المطلق. هي أرضي وأرضك وأرض من لا أرض له أي ذلك الذي أبصر أرضا فأحبها فصعق حبا، وإذا هي منه وإليه، وإذا هو لا شيء دونها. إنه نشيد له إلقاء أوديسي، حالك صارم، قاتم قاسي. والقصة الهلالية لعَرْبيَّة"  المُخْتَطَفَةُ من لدن "قُرَيْشٍ " " ليست سوى احتفالا بالأرض. لا بد من الدفاع عن أرضنا بكل قوانا وحواسنا وجوارحنا ومشاعرنا، وعلينا الذود عن حماها حد الجنون ونسيان  المنطق. الكائن هو الأرض. لا وجود حقيقي له بدونها. الحياة  كالشجرة النابتة المنغرسة، لا كتلك  التي نراها الآن وسط الركح مقتلعة رغم أن جميع الشخصيات تجتهد بلا جدوى لأعادة غراستها. الحياة شجرة. لو لم تكن الحياة شجرة لما تحدثنا عن شجرة الحياة. كيف يمكن أن نتصور أن هذا لا معنى له؟ فلا عجب أن تتقدم عَرَبْ"  " نحونا كصرخة حيوان وحشي جريح رافض رفضا قاطعا للترحال والتيه في الأرض. ملحمة "عرب"، أوديسيتها، هي  تَغْريِبَةُ" عَرْبِيَّة"، أي ملحمة الأرض والذود عن الأرض مهما كانت. وأن تكون هذه الأرض أرضا كما تَرَى، مهجورة ومنبوذة،  تُرَىما الذي يَهُمُّ؟  وهَبْأنها مدنسة نجسة، منحوسة وملعونة، لنقل إنها لعنة هذه التي تبدو آثار كنيسة، ربما رومانية وربما غير رومانية، لن يغير لا هذا ولا غير هذا شيئا من هذا : وهذا هو أنها بما هي وبما ليست هي ليست الآن  سوى أرضي. هي أرضي، هي إذن أنا، كلي أنا ولا شيء غيري أنا. هي ما كل هو "هنا"، في "الآن" ، في "آني" أنا، أجل في زمني هذا، وفي مقامي هذا، في مقامكم ومقامي هذا، في عامكم وعامي هذا، من شهركم وشهري هذا، من يومكم ويومي هذا : في لحظتنا جميعا هذه . ولذا سأذود عنها، وعنها سأموت. وما حياتي فداها؟ لا شيء : عدم.
  ولنا أسوة حسنة في" حُورِيَّة" (جليلة بكار)، هذه الحواء التي تصور رسما بينا للكائن الذي لا أرض له، للكائن السماوي "الهوائي"– أليست هي من تقضي وقتها في الطائرات والهواء، وسط السماء والأنواء-، وبما هي تلك المرأة التي تجد نفسها تحارب وسط حرب ليست حربها، " حُورِيَّة" هذه تصرخ بأعلى صوتها، بكل جوارحها، من أعماقها : " لا خلاص ولا نجاة للإنسان خارج أرضه". وانظر إلى " عَصْفُورْ"، هذا الكائن الطائر الخَفَّاقِ الراكض والهارب الأبدي : ألا تراه كم يدافع بكل أسنانه ومخاله عن هذا الملجإ الخراب وهذي الأرض اليباب المحيطة به : هي عُشُّهُ الذي يحيا ويموت فيه
    لا ريب أن "عَرَبْ"، هي التراجيديا، بالمعنى الحرفي والدقيق، بالمعنى الصافي والصارم للعبارة : هي دراما اللجوء والملجأ المستحيل. لا مخبأ ولا ملاذ. الكائن بالنسبة ل عَرَبْ"" هو دائما وأبدا هنا، أبدا هناك. أن تكون، يعني أن تكون مزروعا، لك عروق عميقة : أن تكون شجرة. وإذا تمثلت  " عَرَبْ "أمثولة لمحرقة لبنان وفلسطين فلأن هذه الحرب الأهلية، داخلية وخارجية، لا تعدو أن تكون صراعا
من أجل المدينة، أي الاستقرار والسكن، في رفض قاطع لوضعية اللاجيء، والمهاجر الأبدي، وأيضا للتشتت العربي.
يحمل " عَرَبْ" حلم السكون والاستراحة – ونحن نعلم أن حلم الأرض هو دائما، كما يؤكده " غَاسْتُونْ بَاشْلاَرْ"، حلم بالراحة وشعور يقوم على التوق إلى الاستقرار، ولكن الراحة مستحيلة بالنسبة لقوم " عَرَبْ". هم لا يعرفون إلا الاضطراب والفوضى. وهذا يعني أن الأرض تتمثل لهم وهما وسرابا، شيء شبيها  بما نسميه " أَلْدُورَادُ"، يعني مكان ما ليس له مكان، عنوان ما ليس له وجود، ورمز ما هو حلم طوباوي.
النار والرماد (١)
  
     لا يوجد بالنسبة الى" عَرَبْ" سوى معادلة وحيدة يتيمة : الأرض- وما تعنيه هنا من حياة- تفرض العشق المجنون والهائج الجائش. والأرض حب مصارع مقاتل يتجيش فيتسلح،   ويحارب ويجاهد. لكي نحلم بامتلاك الأرض، أي في النهاية بالحياة، وجب أن نعرف كيف نشعل النار  ونُذَكِّيها باستمرار. إن مايُحَرِّكُ " عَرَبْ" ويُنَشِّطُهَا ويُحْيِيهَا  ، هو في الحقيقة، حلم  الحَرَقِ والحَرِيقِ، واللَّهَبِ واللَّهِيبِ - " حُلْمُ النَّارِ"  أي الاحتراق الكوني الشامل :  ومن ذا الذي لا يرى الموقد وهو يشتعل فوق الركح طيلة العرض؟). إن  " عَرَبْ" أثر منساق في أفق من تلك الآفاق التي نسميها ب " القِيَامَةِ " أي بما نراه نهاية من نهايات العالم. فلا نستغرب إن انتهينا وتفطنا إلى وجود تواصل وتكامل بين الآثار التي يبدعها "المسرح الجديد". فإذا كانت "غسالة النوادر" (١٩٨٠) قصيدة درامية ملحمية تنهض على " حُلْمُ المَاءِ"، وإن شئنا التدقيق أحلام المياه العكرة، الفاسدة الهدامة؛ فإن " عَرَبْ"، في المقابل، هي قصة إلقائها دراميا ملحميا حول الأرض التي لا تنشد الماء وإنما النار. وردا على طوفان "غَسَّالَةِ النْوَادِر" تجيب " عَرَبْ" إذن ب " القِيَامَةِ"، أي بما يشبه نهاية الكون المشتعلة والحارقة. وهكذا نتحول ونتطور من الفياضانات العارمة الشاملة، مما هو حلم بالماء، وما هو بحر وبحري، حلمته بشيء من الهوس " غَسَّالَةِ النْوَادِر"- نحو "حلم النار"، أحلام القيامات والنهايات والحرائق الشاملة الذي تحملها " عَرَبْ"  : وما هذا الحلم سوى حلم التبخر، أي الثمر المر الذي  يُجْنَىمن أحلام الجمر والحرق، والجفاف، والبيداء، والصحاري والقفر والجدب والجفاف، وكل صور الاشتعال والاحتراق. ولا يجب أن يفوتنا القول إن حلم الصحراء قد سبق ودشنته مسرحية " لاَمْ" فمهدت له بوجوه وصور أخرى ومعاني وسياقات أخرى، فما فعلت " عَرَبْ" ها هنا سوى أن جعلت هذا الحلم الصحراوي يينع ويتفتح أكثر فأكثر ك  "أَزْهار الشَّرِّ" ) لِشَارْلْ  بُودْلِيرْ). وتتناثر الشارات الدالة على حلم النار هنا وهناك وتتكاثر فتغمز حينا وتفصح أحيانا، ويبقى الموقد الذي يتقد ويلتهب أمام أعيننا بلا جدوى- بما أنه ما برح ينطفئ- فَيُشْعِلُه المُحَاصَرُون خير دليل بَيِّنٍ على أننا حيال عالم يلتهب ويضطرم وإنسانية تشتعل وتحترق .
      النار تُوَقِّعُ تنامي العواطف وعواصفها وتفصل وتنقط أداء الممثلين، أقوالهم وأفعالهم . هي نار تلتهب وتخبو حسب قوة صعود الغضب واشتداده وحدته، والتهيآت الحربية للشخصيات واستعداداتهم ووفق خفوت وانخفاض الغضب المقاتل للمحاربين. عند ما تنتهي النار، لا يبقى سوى الرماد. تماما مثل هؤلاء المحاصرين الذين استسلموا و "انطفؤوا". وهكذا فإن شخصيات " عَرَبْ" هم أصلا كائنات من نار، كائنات تشتعل وتتقد حتى الانطفاء، إلى أن يصيروا رمادا. الكائن كما  يُقْتَرَحُعلينا في- ومن - " عَرَبْ" ليس في الحقيقة إلا طاقة  تَحْتَرِق، تستهلك نفسها وتستوفى ذاتها. " عَرَبْ"، وهي في ما فيه من جمالها التراجيدي، تتجوهر في تصوير درامية هذا الانزلاق التدريجي وتبيان ذلك التحول والتحوير الذي يحدث الهوينى لحظة بلحظة ولكن بلا هوادة و استئناف، بلا إيقاف تنفيذ ولا تأخير، بلا مهرب ولا مفر. إنها نار وقع رميها كالرجم فحكم عليها حكما أبديا بالانطفاء بالخفوت والسكوت، بالانهيار والانتفاء، فينتهي- والكل ينتهي- رمادا.
-----------------------
(١)  استعمل عبد الحليم المسعودي هذا العنوان الفرعي كعنوان رئيسي لكتابه الجديد الذي سيصدر قريبا بمناسبة معرض الكتاب ( هذا ما جاء في الإعلان الصادر في صفحته للتواصل الاجتماعي -"فايس بوك").  والعنوان الكامل للكتاب سيكون  كالآتي : "النار والرماد- قراءة نقدية في تجربة المسرح الجديد (1975-1988)".





معالجة هويتنا التي لا تعالج
                 
     تُرَى هل تكون "عَرَبْ " تساؤلا سياسيا؟ ربما كانت  أبلغ وأحسن من هذا. ربما لم يكن هناك في سنوات الثمانينيات صياغة سياسية لما يمكن أن تكون عروبتنا أوضح وأقوى من هذا التشخيص الذي عزفته عزفا ركحيا مُرًّا "عَرَبْ ". الواضح أنها تسعى إلى رسم مسرحيا حدود خيال سياسي يجتهد كي يثير وضعنا التاريخي الراهن ويستفز لحظتنا الحضارية الحديثة. إن قوة "عَرَبْ " السياسية تكمن بلا منازع في جمال شعريتها الحزينة التي  تُحَوّلُ دراما لها نَفَسٌ شبه تاريخي إلى مبحث  قَلِقٍ، وتساؤل حَائِرٍ ، : يا ترى من هو هذا الكائن الحضاري الذي نصفه بالعربي؟ وما جوهر هويته؟ ألا يجوز أن تكون هوية العربي من ضرب تلك التي ينعتها عبد الكبير الخطيبي بالهويات التي لا تُعَالَجُ؟ فكيف لنا مُعَالَجَةُ مَا لاَ يُعاَلَجُ؟ لا يكفي أن تقول " سَجِّلْ أَنِّي عَرَبِي ! " )درويش، والدرويشات(، ثم تَمُرُّ مَرَّ الكرام.  وحدها بعض الأخلاقيات أو الجماليات أو ربما بعض السياسات، ساعة تستوي جميعها تجربة من "تجارب الحدود"  والتخوم، لها القدرة ربما على أن   تبلغنا ذلك المبتغى.  لعل الحل، نعم، إن كان طبعا حلا هناك يكمن في الاسراف والافراط، في الفيض والفيضان، في التجاوز، والمغامرة في البعيد، والمقامرة في البعيد البعيد، وإذا بنا  و"عَرَبْ " قد رمت بنفسها في النار، في نيران القفر ومجاهل الربع الخالي، في المجهول.  مع "عَرَبْ " نحن بعيدين جدا من الجهات والاقليميات، من اشكاليات القرى : من النقابيات  وحكايات أصحاب الحرف والمهن والصناعات. لكم تبدو لنا مشاكل " غَسَّالِةْ النْوَادِر" بالمقارنة لا معنى لها! هنا، نحن حيال  أشياء وأشياء أخرى لا نسميها . وهنا نحن نرتمي في الجسد  الفَوَّارِ لذاتناالحضارية. المسعى هنا تاريخي طبعا، ولكنه ميتافيزيقي أساسا. أجل، إن له وثيق الصلة بالكائن والكينونة : أن نكون - ويجب أن نكون - ذلك من مسائل واجب الوجود. ولكن نكون ماذا؟ نكون كيف؟ كيف نكون؟ يا رب، كيف!


تعليقات