الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول المبخوت وجائزة الملك فيصل (5)

شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم
                                                               
                                                                         

                                                                                  تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء،       
                                                                                             أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة
                                                                                                 
 جليلة الطريطر
     
بداية نشير إلى أنّ السّؤال المشكليّ الأساسيّ الّذي يطرحه رهان هذا الكتاب، قائم في نطاق "الاستدلال" على فرضيّة المؤلّف القاعديّة المتمثّلة في اعتبار محاضرات/ خطب بورقيبة تكوّن بما لا شكّ فيه أوّل سيرة ذاتيّة في تونس الحديثة، بما توفّر لها من سياقات خارجيّة اوّلا، و ما توفّرت عليه من خصائص أجناسيّة تكوينيّة ثانيا تجعلها مستجيبة  مع تحويرات قرّرها المؤلّف  للمفهوم اللّوجوني للسّيرة الذّاتيّة      

   ( نحن إزاء السّيرة الذّاتيّة في تونس بما هي الوجه الآخر من السّيرة الذّاتيّة في فرنسا/ الأنموذج التّحليلي و المفاهيميّ)؟ لذلك فهذا الطرح يقتضي مواجهة إشكاليّات سياقيّة و نظريّة في آن، و كل خلل  في تقديرها يؤول في نظرنا إلى نسف الفرضيّة/ بل لنقل المسلّمة لأنّنا تبيّنا أنّ المبخوت لم يتحرّ في إنشاء فرضيّة  و لم يحاول اختبارها بحثا عن حقيقة معرفيّة بقدر ما عمل على تجميع عدد من المعطيات غير المتجانسة ليصنع من التّرابطات الّتي أخضعها لها ما يشبه الاستدلال على مسلّمته الماقبليّة، ألا وهي اعتبار خطابات بورقيبة أوّل سيرة ذاتيّة شفويّة فريدة من نوعها في تونس سدّت افق الكتابة السيرذاتيّة.

لنبدأ بما يسمّى" الفضاء السيرذاتيّ". لقد عمد المبخوت إلى استعراض جملة من العناصر الممهّدة لتبلور كتابة السيرة الذاتيّة، من أهمّها بلورة جيل الثلاثينات من الكتّاب( جماعة تحت السور خاصّة الدوعاجي، خريّف...) للغة جديدة عصريّة، التبئير على الشّخصيّة التّونسيّة مقابل مفهوم " الأمة العربيّة الإسلاميّة" بما يشي بحدوث شرخ في بنية الثقافة التقليديّة، بروز النّزعة الرومنطقيّة الذّاتيّة متمثّلة في شعر أبي القاسم الشّابي، فضلا عمّا يسمّيه بتأسيس الدولة الوطنيّة لقاعدة تحتيّة تحتضن هذا الحراك و تعزّزه. كلّ هذه المظاهر المستعرضة لا تثير عندنا أيّ جدل يذكر لأنّها ببساطة غدت من الثّوابت الّتي أجلاها عديد النّقاد و الدّارسين للأدب التّونسيّ، و لكنّ السّؤال الجدير بالطرح و لم يطرح هو كيف تمّ الانتقال من هذه الثوابت إلى إنتاج سيرة ذاتيّة شفويّة  فرضا  تتماهى فيها فرادة الشّخصيّة ووعيها بتاريخها الذّاتي مع سيرة روسو الذّاتيّة الّتي اتّخذها لوجون قاعدة لتنظيره، بما يعني أنّ منواله التّعريفيّ مستمد  من خصائصها التّكوينيّة و سياقاتها التّاريخيّة
المخصوصة؟ علما و أنّ فيليب  لوجون    الّذي لم ينف المبخوت أنّه مرجعه التّعريفيّ رغم أنّه حرّفه باستمرار، و في الواقع لا خيار له غير ذلك  أكّد دائما أنّ مفهوم السيرة الذاتيّة الّذي وضعه لا يعني مطلقا أيّ شكل من أشكال الحديث عن الذّات.
     نقف هنا بالذّات لنثير إشكاليّات جوهريّة هي عندنا بمثابة مربط الفرس من كلّ ما سيؤول إليه أمر التّنظير للسيرة الذّاتيّة في تونس. هل العوامل السياقيّة المذكورة أعلاه قد أنتجت فعلا في تونس مفهوما للفرديّة ينهض على قاعدة وعي الزّعيم بتاريخ شخصّيته متجانس مع ما يفهم منهما في حالة روسو و سياقه؟ هل يمكن أن نسلّم بأنّ بلورة ما يسمّى بالشّخصيّة التونسيّة ( هويّة وطنيّة)مقابل هويّة جمعيّة عروبيّة أدّى مباشرة( بدون وجود روابط تفسيرية) إلى بلورة هويّة فرديّة نرجسيّة تستبطن تاريخها على النّمط الروسويّةّRousseauiste  بما يبوئها للتّأسيس لأوّل نصّ سيرذاتيّ تونسيّ؟

ثمّ  هل يمكن أن نطمئنّ إلى أنّ التّعبيرة الذاتيّة ممثّلة في شعريّة الشّابي هي من جنس التّعبيرة الذّاتيّة في الشّعريّة الرومانطيقيّة الغربيّة الّتي مهّد لها روسو في فرنسا؟ هذه الأسئلة غير مطروحة بالمرّة لدى من جازف بأن يتبوّأ في وقت قصير جدّا منزلة المنظّر الأوحد!
لا نريد التّسرّع في الإجابة عن كلّ هذا، و إن كانت لنا وجهة نظر فيه أساسيّة لنا حتما إليها عودة في غير هذا السّياق. ما نريده الآن هو الانتقال إلى التّساؤل عن مدى فهم المبخوت منظّرا، لتعريف لوجون،  و كيفيّة محاورته له لتبرير قراره الأجناسيّ الحاسم. فمثل هذا التّساؤل جوهريّ أيضا لأنّ اختبار مثل هذه الوضعيّة لا يدلّ  على مدى تمكّن المبخوت معرفيا من موضوع بحثه فحسب، بل يطرح فضلا عن ذلك مدى ملاءمة هذا التّعريف اصلا لمقتضيات سياقات إنتاج النّصوص التّونسيّة المخصوصة الّتي تساءلنا عنها سابقا؟
                                                           
   (☆)   جليلة الطريطر
  أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل








.

تعليقات