الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول المبخوت وجائزة الملك فيصل(3)


نواصل نشر الجزء الثالث من البحث الأكاديمي الذي قامت به الدكتورة جليلة الطريطر حول المؤلفات التي نال بها شكري المبخوت جائزة الملك فيصل  والظروف والملابسات التي حفت بهذه الجائزة
ولقد اثارت الأجزاء الاولى من نصها ردود فعل كبيرة إيجابية لم نتوقعها ولذا ندعو أصحابنا الى إلى ترك كلام الزاويا والولوج الفعلي في الكتابة انطلاقا من المسؤولية الفكرية والعلمية والأخلاقية والنسج على منوال الدكتورة الطريطر التي رأت في فعل زميلها فعلا مشينا يسيء للجامعة التونسية التي تدهورت حظوظها وأصبحت خارج التراتيب!
مازل نص الدكتورة جليلة الطريطر طويلا فتابعونا 




شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم

                                                                     تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء، أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة.
                                                                             

      جليلة الطريطر (☆)

أوّلا إثبات الأدبيّة لما هو شكل قصصيّ واضح، أو الاستدلال بما هو قصصي على الأدبيّة  لا طائل من ورائه فالحبكة mythos بما هي مفارقة للحكمة Logos تعتبر  منذ القديم(أفلاطون أوّل من فصل بينهما) و في الحديث أيضا مثلها مثل الشعر من مقوّمات الأدبيّة التّكوينية . أمّا المشكلة الحقيقيّة فهي تحديد الأدبيّة خارج هذا السيّاق . فالإشكال الحقيقي هل تكتب السّيرة الذاتيّة الفكريّة خارج منوال الحبكة القصصيّة، هل من نماذج؟ نصّ عبد الوهاب المسيري أنموذج في حاجة إلى المراجعة من هذه الناحية. كيف نحدّد معيار الأدبيّة من عدمها في هذه الحالة؟ .

المؤلّف لم يكلّف نفسه  استدعاء هذا الأفق الأجناسي و البحث الجادّ عن نصوصه بل راهن على غلقه تماما مؤكدا من شبه فراغ (4 نصوص) أنّ السيرة الذاتية الفكريّة في الثقافة العربيّة لم تكتب سوى على منوال القصّة، و هو عنده منوالها الأوّل و الأخير المفسّر لأدبيّتها و لا شيء بعد هذا القول الفصل! و بالتّالي فقد استبعد كلّ النصوص الّتي تجيء تحليليّة منطقيّة تفسّر و تؤؤّل و توثّق و هو منهج انتقائيّ يقوم على التمويه لا على الاستقصاء العلميّ الرصين( راجع إنكاره على نور الدّين صدّوق البحث في هذا التوجه التوثيقي بحجج واهية. أحفاد سارق النّار ص 55) لأنّ من خصوصيّات السّير الذهنية شرح التّرابطات الفكريّة داخل أنساق المعرفة الخاصّة و لا شيء يمنع أيضا من اكتفائها بذلك دون اللّجوء إلى إقحام الذاتي بمعنى القصصيّ الأسطوريّ. نصّ حياة قلم مثلا في كثير من وجوهه لا يعنى بالربط بين الفصول بل و يتجلى أحيانا على نحو فسيفسائي تختلط فيه مقالات الحياة القلميّة بلوحة من البورتريهات لمعاصرين ( ابراهيم عبد القادر المازني، طه حسين..) تكاد تكوّن جزرا بذاتها قابلة للاقتطاع من النّص دون ضرر يذكر .

ثانيا إنّ هذه  الانزلاقات المنهجيّة و المعرفيّة الدّاّلة على الاختزال و التسرّع نتيجة قلّة معرفة واضحة بالمجال المدروس ازدادت تأكّدا لدينا من خلال اقترانها  بأنماط من التّقصير في الإحاليّة البيبليوغرافيّة أكثر خطورة، خاصّة و أنّ دعامة أيّ بحث هو جهازه الإحالي. نفصّل القول في هذا الموضوع بما يلي من النّقاط :

1 محدوديّة الاطّلاع غير المقبولة على حاصل المنجز السّيرذاتيّ النّقدي المتطوّر بما فيه منجز لوجون نفسه بما لم يتجاوز طور السبعينات( العقد السّيرذاتي 1975). / جورج ماي (1979) النقد الأجناسي           ( جونات 1980) بقية الإحالات المتعلقة بمراجع عامّة توقفت في 2010. راجع  القائمة البيليوغرافية ص ص 279   280. و هو ما يدلّ على أنّ صاحب البحث لا يهتمّ رأسا بهذا المجال، و لا يواكبه معرفيا إذ لم يتطور قيد أنملة مقارنة بتوثيقه في سيرة الغائب سيرة الآتي. و لهذه الملاحظة تبعاتها المعرفيّة إذ لا يربط  المؤلّف بين مختلف المناويل البنائيّة الشاهدة على تطوّر الكتابة السيرذاتيّة عموما و لا يتحرّك في ضوء مرونتها، بما يجعل أحكامه النّظريّة المطلقة غير مستجيبة بالمرّة لشروط تطوّر التّنظير المعرفيّة في هذا الاختصاص، و هو ما يكرّس في مؤلّفه تراجع كلّ المنظومة النّقديّة العربيّة و تعطيل تقدّمها قياسا لتطوّر منظومة النّقد السيرذاتيّ العالميّة، فضلا عن مطلق العجز عن مناقشة خصوصيّات النّصوص العربيّة الإبداعيّة  لغياب أفق حقيقيّ يحاور منه نماذج أخرى خارجيّة. و أهمّ هذه المناويل المتطوّرة الخروج عن بناء الحبكة المتماسكة في صياغة قصة الحياة و حتى قصة القلم بما يجعلها نصوصا شذريّة متقطّعة هادمة لأسطورة الذّات سواء في الأدب العربيّ ، أو الأدب الأجنبي .

و لا شكّ أنّ الاطّلاع على المنجز النّقدي لأعلام الرواية/ السّيرة الذّاتيّة الجديدة مثلا  من شأنه أن يوسع من أفق الناقد و يمكّنه من تحيين معارفه حتى لا ينزلق إلى أحكام عامّة( السيرة الذّاتيّة قصّة) و قراءات ضيّقة الأفق في ثقافته، لا تتغذّى من الحوار النصّي الأجناسيّ مع الأنساق الأجنبيّة المتطوّرة.

2 التّمركز الإحالي حول الذّات. لئن كانت إحالة الباحث على أبحاثه أمرا مستساغا لبيان تطوّر مساره  و نقده فإنّ عودة المبخوت إلى نفسه بالإحالة خالية من كلّ تدبّر و من باب اختصار الطرق المخلّة، فهو  ينقل تعريبه الوارد في نصه الأول لتعريف لوجون و فيه يعرّب تاريخ الشخصيّة ب"تكوين الشخصية         (احفاد سارق النّار هامش ص 14) و شتّان ما بين التكوين و التاريخ، بل العبارة المعّربة تنمّ عن نسف كامل للتعريف الأصلي، فمربط الفرس هو قول لوجون بأن خصوصيّة السيرة الذاتيّة تكمن في استيعابها لتاريخيّة الشّخصية( مقولة جديدة حديثة) بما هي فردية لا تتكرّر في سياق تاريخي أروبيّ مخصوص.             و في مظهر  آخر من الغفلة  و الاطمئنان لمنجز نقديّ كان يتعيّن مراجعته  يحيل على تجنيس للأيّام تجاوزه الدّهر لا يمكن أن يثيره غير من انقطعت به الطريق منذ زمان عن الاختصاص،  و مقابل هذا  الرضا النّرجسيّ عن النّفس، فهولا يستدعي من النقاد العرب ( الداهي/ صدّوق) إلاّ من كان منهم هدفا للدّحض  و التخطئة على ما بذلوه من مجهود. و لنا في وقائع الحاشية خير مثال.

3 قرصنة المرجعيّات المنهجيّة الكبرى. أخيرا لا يسعنا إلاّ التّعبير في هذا المستوى بالذّات عن أسفنا الشديد و نحن نقرأ ما في هذا المؤلّف من تنكّر صارخ  لبعض أعلام المدرسة التونسيّة في موضوعه، علما و أنّه هو الّذي صرّح لوسائل الإعلام إبّان فوزه بالجائزة بانّ" قوّته من قوّة مدرسته"! فكيف ذلك يا ترى؟

أوّلا لا يسع أيّ باحث نزيه إلاّ التّعجب من خلو هذا البحث بالذّات تماما من إحالات جادّة و معمّقة على نصّ مؤسّس في الجامعة التّونسيّة للسيرة الذاتيّة في الأدب العربيّ الحديث : مقوّمات السيرة الذّاتّيّة في الأدب العربيّ الحديث. و هو مطلب لا يمتّ بصلة للاحتفاء عندنا بالذّات، و إنّما هو متّصل بشرط معرفيّ يجعل البحوث الّتي لا تتموقع في أنساقها كائنة خارج أطر المعرفة العلميّة المبنيّة أساسا على التّراكم                و المحاورة. فنصّا المبخوت معا  يلتزمان صمتا مطلقا حيال مدوّنة نقديّة بعينها، فلا عين رأت و لا أذن سمعت. و قد تبيّنا بوضوح أنّ هذا الصمت المريب كان من قبيل إعداد الظروف الملائمة لقرصنة هذه  الباحثة التونسيّة الّتي لا تهمّه أشغالها لأكثر من عقدين من الزمن إلاّ ظاهريا، فلا شيء يضاهي غيابها المحتوم غير حضور مجهودها النّظري المستور، متمثّلا في استدعاء المبخوت و توظيفه لمقولة الهويّة السرديّة في استنطاقه  لنصوص السيرة الذّاتيّةّ على نحو أقلّ ما يقال فيه إنّه استدعاء يبرهن عن سوء فهمه للمقولة ، وهو بصدد التّمويه بأنّه لم يطّلع عليها بل و يوظّفها في السيرة الذّاتيّة معوّلا على مجهوده الخاصّ المتمثّل في استدعاء مقتطف  ل ريكور من هنا و آخر للتزكية من بول فاين من هناك(ص)،وهي استراتيجيّة  لا يمكن أن تنطلي إلاّ على جاهل، و لكنّها ممّا يفسّر تعاطي الكتابة "النّقديّة المباغتة." المبنية على التموقع المتعجّل في غير الاختصاص، و التّعويل على جهود الآخرين مع تعمّد عدم الإحالة عليهم.

إنّ جليلة الطريطر الباحثة التونسية الّتي لا تهمّه أشغالها الممتدة على حوالي ثلاثة عقود من الزمن هي أوّل من استدعى فعلا مقولة " الهويّة السّرديّة"  لبول ريكور إلى مجال دراسة السيرة الذاتيّة في الثقافة العربيّة، و قد كان ذلك يمثّل إسهامها الخاصّ منذ أواخر التّسعينات في مباحث السيرة الذّاتيّة داخل اطروحتها المعروفة. و هو ما يعني أنّ جلب المقولة و توظيفها في غير مجالها كان تعبيرا عن قراءة منهجيّة جديدة للمفاهيم السيرذاتيّة السائدة، و جلّها كان واقعا وقتها تحت سلطة المدرسة البنيويّة و الدّراسات الشّعريّة الّتي تنزّلت فيها مقولات لوجون و كلّ نماذجه التّطبيقيّة، حتّى  النقّاد الفرنسيون لم يناقشوا فرضياته المنهجيّة الشّعريّة لأنّهم مثل"إمامهم" يتحرّكون داخل الدّائرة الشّعريّة نفسها، و لم تكن خصومة جورج غوسدورف مع لوجون إلاّ مقدّمة انشقاق في مسألة الأصول الأجناسيّة للسيرة الذّاتيّة خاصّة، و في أبعاد هذه الكتابة الأنطولوجيّة عامّة.

أمّا البحث في مشكليّة مدى مشروعيّة اعتبار كلّ محكي( وإن كان تاريخيا)  متخيّلا بالضرورة، فهو ما لم يمثّل رهانا يذكر في سياقه الفرنسيّ.إلى وقت قريب جدّا. و توثيقا لما نقول، فإنّه كان ينبغي لنا أن ننتظر إلى ما بعد الألفيّة الثانية  حتّى يصرّح لوجون نفسه فيما يشبه " سيرته الذّاتيّة النّظريّة"Signes de vie, Le pacte autobiographique 2, 2005 أنّه قد أخطأ التّناول، بل و يتراجع في نوع من جلد الذّات. 

هذا الكلام ليس زعما و ليس من باب الامتداح الكاذب للذّات، بل هو موثّق هنا من ناحيتين لا لبس فيهما، الناحية الأولى قائمةّ في متن نصّ مقوّمات السيرة الذاتيّة في الأدب العربي الحديث  ذاته. ذلك أنّ الباحثة المذكورة راهنت أساسا على توسيع دائرة النقد اللوجوني بالخروج من فلك الشّعريّة البنيويّة  المنغلق على ذاته إلى رحاب التقريب المرجعيّ الواقعيّ بين كتابة الذات و كتابة التّاريخ. فكان بول ريكور واسطة هذا التّقريب. و هو ما أدّى إلى تأكيد القيمة التعريفيّة للملفوظ السيرذاتي فضلا عن توسيع مرجعيته من دائرة الدلالة الأسطوريّة إلى الدلالة التاريخيّة.

صفحات و فصول كاملة حبّرت للغرض اهتدت فيها الباحثة  بعد قراءات متأنيّة وعسيرة لمؤلّفات بول ريكور المتعدّدة في لغتها الفرنسيّة إلى أنّ المسألة التعاقديّة المرجعيّة لدى لوجون  غير مقنعة طالما تؤول إلى معاملة النص الّسيرذاتيّ نظريا و تطبيقيا معاملة المتخيّل الرّوائي( باعتباره صوتا ميثيا »Voix mythique/ ). أمّا الحقيقة التّاريخيّة الثانية الّتي لا لبس فيه ايضا فقد جاءتنا اليوم من لوجون نفسه، و هو المولع بالاعتراف و انتقاد الذّات و مراجعة نظريته المستمرّة بما يدلّ على عظمة قدره العلميّ.

إنّه الاعتراف الصريح بصحّة التّمشي المنهجي الّذي تمّ  اعتماده و وجاهته المعرفيّة، و بذلك أثبت لوجون نفسه ما بعديا الرؤية النّقديّة الّتي استدللنا عليها في زمن لم تكن فيه دراسات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ قد قطعت أشواطا نقديّة لافتة، فضلا عن تبعيتها النّظريّة المطلقة للعلم المذكور الدّائر في فلك الشّعرية.

                                                      
    (☆)  جليلة الطريطر

  أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل














.

د

تعليقات