جو- جو، أرض- أرض3

من روائع المسرح التونسي :
"عَرَبْ "  لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
                                 تأليف وترجمة محمد مومن

ملاحظة :
        نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ " [Le Temps]"، يوم الثلاثاء ١٦ من شهر جوان٧ ١٩٨، وقد عنونته أنذاك بعنوان كبير : "سَعَادَةُ المُشاَهَدَة "]  فِي "عَرَبْ "  للمَسْرَحِ الجَدِيد  ]. وها أنني عدت بعد ثلاثين عاما لأترجمه لكم مقطعا مقطعا، وذلك بمعدل مقطوعة كل يوم، وأحيانا أكثر من يوم، حسب الظروف، وقد حرصت على أن تكون معنونة بعنوانها الفرعي. واليوم، وبعد أن تمت ترجمة الثلاث مقالات السابقة، ها أنني أهديكم المقطع الثالث من المقال الرابع حول أثر المسرح الجديد والموسوم ب " سَعَادَةِ المُشَاهَدَةِ (في " عَرَبْ") ". وإن نفعل هذا فللتاريخ . التاريخ. آه من التاريخ! نحن العرب خرجنا منه. هل نحمد الله على هذه النعمة؟ بقي التأريخ. فلنؤرخ! للذكرى. على الأقل للذكرى. أليست الذكرى تنفع المؤمنين؟

 جو- جو، أرض- أرض3            

   قلنا إذن إن هناك توزيعا محكما ومقصودا للأدوار يفضي إلى قسمين من الممثلين يقومان على الانتماء الجنسي : فمن جهة، نجد الممثلين الرجال وقد تَعَرَّفْنَا عليهم فعَرَفْنَا أنهم مُرْفُولُوجِيَا من صنف َ "العَمَالِقَة" و"الجَبَابِرَة". ومن جهة أخرى، نجد فصيلة الممثلات اللائي تتميزن مُرْفُولُوجِيَا طبعا بِتَرْكِيبَة نسائية، وهي بعيدة كل البعد عن الضخامة الجسمانية وقريبة كل القرب من ضعف البِنْيَة البَدَنِيَّة. ولا يغيب عنا أن نلاحظ أننا لا نلاقي ما يزرع الشك في انتمائهن الجنسي الأنثوي، اللهم في ما يتصل ب "عَصْفُورْ "، هذه الشخصية الطائرة دون طيران، التي لا تستطيع التكلم ولا الغناء.

والحق يقال، يعسر جدا على المرء أن يحدد؟ بدقة انتماءها، حيث تبدو فوق التصنيفات والتحديدات الجنسية. هي إلى "الأَنْدْرُوجِينِيَّة"، وهو صنف عابر للجينات، يستعير بعض الخصائص الذكورية من الذكور  ويسترق بعض الطبائع الأنثوية من الأُنُث. ما لا يمكن إهماله بتاتا هو أن الصنفين، وهما في ما هما فيه من تقابل وتصادم، وتصارع أيضا، يندرجان في دينامية علاقات تجهلان المساواة والتوازن، المساواة التي ليست سوى التوازن، والتي تنتهي

دوما كعلاقات اخضاع وخضوع، قل خنوع،  قل استعباد واستحواذ. وليست المعارك من أجل الأرض إلا صراعات لأجل عيون المرأة التي تتشخص هنا في ملامح البطلة "عَرْبِيَّة" )زُهَيْرَة بِنْ عَمَّار "). وإذا بهذه " الجَازِيَة الهِلاَلِيَّة " الجديدة تصبح رمز المرأة المخطوفة المقهورة والأرض المغتصبة المنهوبة. والحب بين " قُرَيْشْ" و " عَرْبِيَّة"؟ تلك قصة يطول شرحها. كيف يمكن بدايتها أو انهاءها؟ مثلها مثل حكايات "ألف ليلة وليلة"، لا تستطيع تجنب الاستطراد والتضمين، وإذا الحكاية تفتح على الحكاية، هكذا، وكأنها بلا نهاية. كيف نحكي؟

صحيح ألن هنا ما يشبه العشق بين "قُرَيْشْ " وابنة عمه "عَرْبِيَّة  "، ولكن في هذه المشاعر يصعب  جدا أن لا نرى عواطف قرابة، وانتماء إلى القبيلة، والكثير من التفاخر وشيئا غير قليل من التحدي (في الخطف الحبيبة، هناك فعل تطاول ومنازلة لأبناء العم من قبيلة " الطْمَامْرِيَّة") وأشياء أخرى كدرة عكرة مخلوطة. كيف التفريق والتمييز مثلا بين ما هو من صلب الوجدان والقلب وبين ما هو من أصل الأعراف والعادات و المجتمع؟ لو كان الحب حبا، وبالسهوة والبساطة التي نتصورها، لما حاول " قُرَيْشْ" تحريض " عَرْبِيَّة" على تزوج زعيم " الطْمَامْرِيَّة" قائلا لها بفجاجة لا توصف حينما رفضت عرضه : " آش ْشْكُونْ قَالِّكْ حِبُوا ! قُلْنَالِكْ عَرِّسْ بِيهْ".

طبعا، الخوف هنا ينطق في "قُرَيْشْ"، ولكن الأمر أكثر تعقيدا لأن الجبن لا يسفر كل شيء. يمكن أن نذهب في التفسير إن رغبنا حقا في الفهم من جانب العقلية الذكورية التقليدية المتعلقة بالمرأة والتي تقوم، نعم، على نظرة لا يمكننا أن لا نصفها بالتحقيرية. كل هذا الذي قلناه والذي ما لم نقله نستدله من توزيع الأدوار التي تبقى من العمليات الدالة، بل الغنتية بالدلالات. وعلاقة الهيمنة التي لا يمكن أن تغيب عنا نستنتجها من أحجام الأجساد التي تميز المؤدين- الشخوص

بينما نرى عَرْبِيَّة" كائنا مسحوقا، نلاحظ "عَصْفُور" في وضعية العبد الخادم و" حُورِيَّة " مهملة مهمشة  منسية )تكاد لا تكون في الحسبان وستكون في الختام المفاجأة الكبرى حيث تصبح محط أنظار الجميع : ترى، هل تكون هي مدبرة  كل هذا الذي يحدث ؟ وكأننا بانقلاب شامل تام للأحداث ومعناها وللشخصيات وأدوارها في الخرافة. وتبقى الرسالة هنا واضحة لا تستوجب كبير اجتهاد : تجتهد الأحداث أن تظهر لنا مجتمعا من طينة المجتمعات العربية : ف " عَرَبْ" هي حكاية عرب، أي " حْكَايةْ رْجِالْ "( وهو ما لا يتردد " قُرَيْشْ" في قوله بصريح العبارة ).

أليس هذا ما نعرفه عنا من قديم الزمان، وإن راودنا بعض الشك فما علينا إلا أن ننتبه إلى ما يقع ويحدث في بعض مدننا وبوادينا حيث ما زال الناس هناك يحافضون على بعض عاداتهم وتقاليدهم : هناك، لما يتكلم الرجل، تسكت المرأة. ولكن " عَرَبْ" لا ترضى طبعا بمثل هذا المنطق القادم من غياهب الدهور فتقلبه قلبا، وتعطي الكلمة الأخيرة ل " حُورِيَّة " تبين لنا أن ما شاهدناه هو الزبد و أنه لا يتجاوز كونه ظاهر الأحداث، وأما ما خفي فأعظم، ذلك أنه يحتمل أن تكون "حُورِيَّة"  عين من العيون جاسوس من الجواسيس، " عون " يعمل لصالح القوى الأجنبية.. إذن من الممكن أن تكون المرأة هي صاحبة القول الفصل : هنا يستحسن بنا أن نتذكر أن "حُورِيَّة" هي الساردة فلا مفر لنا من سماع صوتها الذي يحكي لنا الحكاية أي اللذي بفضله نرى مانراه.

نحن نرى ونسمع بعيون وآذان حُورِيَّة". لقد قالها " أَرَاغُونْ" منذ زمان : "المستقبل امرأة" سيكنس التاريخ هؤلاء الأرهاط، " قُرَيْشْ" هذا، و" مَنُّوبِي"، و" خَلِيلْ"، وجميع هذه الأقوام التي انتهى وقتها وهي متمسكة، ماسكة مسكها بالسراب. هل تكون" عَرَبْ" نسوانية النزعة والتوجه؟ ولماذا لا يكون الأمر كذلك؟ أليست هذه المسرحية قصة من قصص " الفتوة" الضائعة و" الفروسية " المفقودة؟ على الأجساد الذكور الصاعدة والمتسلقة التي ما برحت تنظر إلى السماء – وهذه الهيئة لها رمزيتها الجنسية بما أنها توحي بإيحاءات قضيبية – تجيب   الأجساد المسحوقة، تلك اللأشكال التي تنظر إلى الأرض، أرض النساء أكيد- وهذه الهيئات توحي بصور ذات دلالات جنسية أنثوية.

وهكذا نتأكد نهائيا أن المرأة هي هنا صورة الأرض بلا شك ولا اختلاف.، بل هي مرادف الأرض، بل هي الأرض وكفى لقد قلناها وها أننا نعيدها : كل" عَرَبْ" قابلة للقراءة من خلال توزيع الأدوار ونشر الأجساد حسب تصورات معينة للشخصيات

تعليقات