الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول المبخوت وجائزة الملك فيصل(6)



شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم


                                                              
       تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء،        
                                                                     أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة
                                                                                               



   جليلة الطريطر
                                                                                                       




بدءا نريد أن نلاحظ أنّ عديد الدّارسين للسّيرة الذّاتيّة و على رأسهم المبخوت يتوهّمون أنّ مسألة تعريف السّيرة الذّاتيّة لدى لوجون مسألة واضحة و بسيطة يطابق ما يفهم من ظاهر القول منها ما هو كامن  في تعريفها الشّهير" قصة ارتجاعيّة نثريّة  يروي خلالها شخص واقعي وجوده الخاصّ مؤكدا حياته الفرديّة و خاصة تاريخ شخصيّته".
 يعنينا بادئ بدء أن نستبعد من هذا التّعريف العناصر الّتي تدخله في باب المشترك المرجعيّ الذّاتي  بما هي غير خلافيّة، و هي : تطابق أعوان السّرد، المنظور الاستعاديّ، الشّكل القصصيّ(إلى حدّ ما، و قد رأينا أنّه ليس سرديا صرفا، بل و ليس بالنّهائيّ أيضا). أمّا ما لا يتوفّر في غير السيرة الذاتيّة من عناصرها غير المشتركة فهو أساسا عنصر " تاريخ الشّخصيّة" بامتياز. فمعنى الفرديّة في السيرة الذّاتيّة هو إنتاجها على قاعدة الوعي بأنّها متلبّسة بشخصيّة لها تاريخ أي متنامية في الزّمان بما يؤهّلها لإفراز هويّة فريدة من نوعها  لا تشبهها أيّ من الهويّات الّتي تقاسمها حتّى الفضاء التّاريخيّ نفسه. لذلك يقوم اتّجاه العمليّة السرديّة المفرزة لمثل هذه الهويّة المسمّاة سيرذاتيّة  لدى لوجون على قاعدة الانسحاب من الخارج( وقائع أحداث  سيريّة مهما كانت بسيطة) نحو ملامسة المركزيّة الذّاتيّة الفريدة، هذه الحركة هي في جوهرها قوّة جاذبة نحو المركز Centripète بخلاف المذكّراتMémoires  تماما الّتي اعتبر فيها التّوجّه السّردي انسحابا من المركز نحو الخارج، أو بصيغة مقاربة، قوّة الاندفاع بعيدا عن المركزيّة الذّاتيّة Centrifuge. نضيف إلى هذه المحدّدات الأساسيّة ثلاث نقاط جوهريّة مترتّبة عنها حصرها لوجون فيعوده على بدء النّظريّ المتواصل في ما عبّر عنه ب" الثلاث نقاط الثّوريّة في مقاربة الهويّة السّيرذاتيّة الروسويّة، و هي كما يلي :

الاكتشاف النّفسانيّ :خصيصة الهويّة السيرذاتيّة العميقة تتمثّل في كونها على وعي بأنّها لا تعي ذاتها،  و لا تعي غيرها، و لا حتّى الفرق بينها و بين غيرها إلاّ في نطاق محدود تنقصه الشّفافيّة. لذلك لا بدّ من أن تكون علامتها في المكتوب هو النّزول إلى أغوارها البعيدة Décente en soiمن أجل هتك أستارها الحاجبة عن الوعي  بحقائقها الباطنة. و من هذا المنطلق كان اعتبار لوجون محكي الطّفولة مركزيا   و خلافيا في السيرة الذاتية قياسا إلى المذكّرات الّتي تبدأ به و تتخلّى عنه في ابتعادها عن مركزيّة الذّات في حين تستثمر السيرة الذاتية هذا المحكي من أجل الاستعانة بعناصره الأساسيّة لاستجلاء تاريخ الشّخصيّة النّفسانيّ الخفيّ. و بالتّالي فمدار الهويّة السرديّة السيرذاتيّة هو أساسا على طرح سؤال انطولوجيّ  Ontologique  بامتياز من أنا؟ لا من هو الفاعل؟  بما هو أساسا سؤال تاريخيّ. ولهذه الأسباب اعتبر روسو هو أوّل من أوحى بقواعد علم النّفس الأساسيّة و من نهج عمليا نهج التّحليل الذّاتي Autoanalyse في فهم تاريخ الشّخصيّة المفضي إلى التّمركز حول مفهوم الفرادة.

الشّخصيّة السيرذاتيّة الروسووية همّها الأوّل هو معرفة ما أضحى عليه الفرد قياسا إلى ما كان عليه على مستوى الصيرورة النّفسيّة( الحالة) لا على مستوى الوضعيّة العمليّة بما هي اجتماعية أو سياسيّة أو ثقافيّة أو غيرها ممّا قد يشترك في تحصيله الإنسان مع غيره حتما. و هو ما يجعل تصنيف السّير الذاتيّة إلى أدبيّة و سياسيّة و غيرها بدعة من بدع المبخوت الّتي لا تنسجم مطلقا مع كون السيرة الذّاتيّة مشروع استبطان نفسيّ همّه الانسحاب إلى فهم عالم الدّاخل، فما قيمة الأدب او السّياسة في مثل هذا المشروع؟

الاكتشاف السّياسيّ" كلّ السير الذّاتيّة تنشأ حرّة و متساوية" أكّد لوجون هنا أنّ روسو سبق ميثاق حقوق الإنسان المتمحّض عن ثورة 1789 لأنّه  قطع مع المذكّرات الأرستقراطيّة و أسس  لجنس ديمقراطيّ هو السيرة الذاتيّة. بما يعني أنّ البطولة الفرديّة ليست مطلبا سيرذاتيا إذ يقول روسو" تاريخي الجوّاني L’intériorité أهمّ بكثير من تاريخهم" و المقصود التّاريخ البرّاني للعظماء. و يضيف في السياق نفسه أنّ السيرة الذّاتيّة لا تحتفي مطلقا بالمشاعر النبيلة أو العظيمة لأنّها تطلب التّعرف إلى مشاعر النّفس الإنسانيّة الدّفينة و كفى. و هو ما يخالف المذكّرات التي تعنى  بالحيوات الّتي تكتب بالأحرف الكبيرة Vies Majuscules.

‑ ابتكار الشّكل، الحبكة لا تعني التّخييل بما هو اختلاق و ليست مرتهنة بتحقيق الأدبيّة. لقد كان روسو واعيا بأنّ الحبكة السرديّة في سيرته غير الحبكة في رواياته :" كان يتعيّن عليّ ابتكار كلام له من الجدّة ما لمشروعي منها" و هو ما يعني أنّه كان على وعي تامّ بأنّ المسألة الأدبيّة ثانويّة و أنّ كتابة تاريخ الّذات مسألة عرفانيّة أبعد ما تكون عن كونها" قصّة أحداث  و يترتّب عن كلّ ذلك ما تبقى...". لذلك يقرّ لوجون ما بعديا في هذه المراجعة بأنّ أشكال ابتكار الّذات غير مرتهنة نهائيا بالحبكة و منفتحة على أشكال التّجريب الممكنة الّتي من أهمّ علاماتها بعد روسو ليرس Leirisو بيرك Perec.

هذه التّدقيقات الجوهريّة تقودنا إذن إلى تفحّص عنصرين مترابطين : هل كان المبخوت يعي جيّدا و يفهم جيّدا مقوّمات الهويّة السيرذاتيّة  بمثل محدّداتها الجوهريّة المذكورة حتّى نطمئنّ إلى ما جاء في بحثه  و ما آل إليه من نتائج؟ و هل فعلا تستجيب خطابات/خطب بورقيبة و غيرها من النصوص المجنّسة للشّروط الموضوعة باعتبارها  المقولات المضمّنة في تعريف السيرة الذّاتيّة و ما به يفهم اصطلاحها؟

 نقول في الإجابة عن السّؤال الأوّل إنّ المبخوت انطلق من خلط الأوراق و بعثرتها أكثر من انطلاقه من وقفة مفاهميّة عالمة و متأنيّة، فالظاهر من منهجه أنّ الغاية الّتي دفعته لإنشاء  الّزّعيم و ظلاله هي التّفرّد باكتشاف السّيرة الذّاتيّة في تونس متلبّسة بزعامة الزّعيم الّتي أرّقته( راجع ص. 43)، و ربّما لدوافع أخرى لا يعرفها غيره.




            جليلة الطريطر

     أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل











تعليقات