الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول المبخوت وجائزة الملك فيصل (7)




شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم

                                                                            
                                                                     تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء،        
                                                                     أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة
                                                                                           


       جليلة الطريطر




يقف المستقصي لرؤية مفهوميّة واضحة للسيرة الذاتيّة في البحث المذكور على شتات من الأحكام العامّة    و الإثباتات Assertions المسقطة، و الاجتهادات الفوضويّة الّتي تفتح منافذ التّخلص اليسير من مآزق حل ّإشكاليات التّجنيس الجدّية في ظل ائتلاف  أجناس الذّات و اختلافها، وكثرة النصوص المستدعاة على تنوّعها، بما لم يؤدّ لغير ترسيخ التّناقضات الصارخة بل و الأخطاء الواضحة في تصنيف هذا الوابل من النّصوص الّتي انفلت حبلها من سيطرة المؤلّف تمام الانفلات.

أمّا قولنا بأنّ المؤلّف يردّ السيرة الذّاتيّة بكلّ بساطة بعد حوالي مائتي صفحة إلى شتات من الأحكام العامّة الفضفاضة الّتي يمكن أن تستوعب  ما لا يمتّ من قريب أو بعيد بصلة إلى مفهوم السيرة الذّاتيّة الحقيقيّ فمن ذلك قوله" لا ريب أنّ السيرة الذّاتيّة  في نهاية المطاف هي سيرة رجل داخل الحكاية أو لنقل هي حكاية رجل يصنعها و يرويها لغرض ما (كذا. نحن نسطّر)!( الزعيم و ظلاله،ص.  223). نهاية المطاف  بهذا الشّكل لا تؤدّي لغير التّطويف و الطوفان المأسويين. و قد سبق له قبل ذلك أن أربك الحدود الأجناسيّة بين السيرة الذّاتيّة و الأجناس القريبة منها و تلك الّتي لا تجمعها بها صلة واضحة على الأقلّ ( المحاضرات)، " و الرأي عندنا أنّنا لا نحتاج إلى إعادة تجنيس هذه المحاضرات بشهادة أو مذكّرات او سيرة ذاتيّة ففيها بحكم التناول الذّاتي البيّن والموضوع المطروق ببعده التاريخي من هذا كلّه بنصيب." ثمّ يواصل  معلّلا تجنسيه السيرذاتيّ بعنصرين ، فرادة الأسلوب، و الصيغة الحكائيّة !!!" و لكنّنا رغم ذلك نزعم أنّنا أمام سيرة ذاتيّة شفويّة تتوفّر لها جميع المقوّمات التي  تسمح لنا بقراءتها على هذا، يكفي لذلك  أن نكشف عن سّر الشعور بفرادة الأسلوب و بالصبغة الحكائية الروائية التي لا تكون دون تخييل."( الزعيم و ظلاله،ص. 101) فهل تكون كل مقومات السّيرة الذاتية هي بحث استقصائيّ في فرادة الأسلوب" و " الصبغة الحكائية"؟ ؟ ؟

أمّا الأحكام المسقطة الّتي تستعيد منهجيا قصّة المصادرة على المطلوب الّتي ذكرناها فمن قبيل قوله :           " لسنا في حاجة إلى تجنيس محاضرات بورقيبة  أمام طلبة معهد الصحافة  و علوم الإخبار أو خطبه حتّى نتأكّد من أنّنا أمام سيرة ذاتيّة كاملة الشّروط" ص 101!( ظلال اّلزعيم ص. 46) إنّه إذن فرمان أصدره المبخوت. و قوله أيضا فيما يتعلق بمحاورات صحافية موضوعها مظاهر متفرقة من حياة اصحابها جامعا بلا أدنى حرج بين الشيء و ضدّه:" و في الحالات جميعا لا يمكننا أن نشكّ في أنّ هذه الحوارات[1] سير ذاتيّة،  و إن لم يدع إليها ما يدعو الكتّاب إلى وضعها ممّا فصّله أهل العلم بالسيرة الذّاتيّة"! ( ظلال الزعيم ن ص. 65) فكيف إذن تكون سيرا ذاتيّة دون توفّر شروطها؟

أمّا عن الاجتهادات الفوضويّة الّتي تفتح أبواب التسامح المضلّل مع النّفس، فقوله مبرّرا مأزق الشفويّة دون تعمّق في استتباعاته" فالحجّة هنا لا تقوم إلاّ إذا تمسكنا بتعريف لوجون بعد أن تخفّف هو نفسه من صرامته الخانقة معتبرا أنّ موضوعها( يعني السيرة الذاتيّة) و خصائصها  يستمدّان من حديث المرء عن حياته و تعبيره عن ذاته و مشاعره" ص. ، 46 بل هو لا يرى فرقا أصلا بين الجمع في تجنيسه لمحاضرات  بورقيبة ب المحاضرات أو الخطب في آن مفترضا أنّها لا تتعارض إلى ذلك مع قيام حبكة سرديّة تنبت في تضاعيفها" لبراعة اسلوب الزعيم القائم على الاستطراد و التمثيل. ص 47. فكيف نلائم بنائيا بين الخطبة والحبكة السّرديّة في آن يا ترى؟ ( المستحيل ممكن لدى المبخوت) و الأمر لا يتعلّق بالسيرة الذاتيّة فحسب، فهو يعمّم الهويّة السّرديّة حتّى على اليوميّات ! في حين أنها نصّ يقوم أساسا على التراكم والتّشظّي ولا يفترض أصلا القيام على وحدة الحبكة المترابطة، و تلك هي خصيصته الأجناسيّة الأولى المقترنة بنهوضه أساسا على نقل اليومي حسب بياتريس ديدياي[2] Béatrice Didier. يقول " الطابع المتقطّع المرتبط بالآتي في اليوميّات لا يمنع من أن نستخلص من يوميّات الشّابي على قصر مدّة كتابتها بناء هويّة سرديّة تشدّ ما انقضى من حياته إلى ما هو عليه زمن الكتابة"! ص 28 فكيف لا يمنع التشظي من استخلاص بناء هوية سرديّة، و هل الهويّة السرديّة بناء فعليّ في النصّ أم استخلاص  و تأويل؟ 

بل الأغرب أنّ الأمر نفسه يتواصل حتّى مع رسائل الشابي للحليوي مع العلم أنّ للرسائل خصوصيّاتها التواصليّة و ليست وحدة متجانسة لتكوّن حبكة على الإطلاق! ثمّ لم لا نجد و لو تعريفا واحدا للمذكّرات على أهميّة استدعائها في مثل هذا السّياق، و الحال أنّ " إيقاع قصّة حبكة فرديّة  في تاريخ فرديّ" مثلما قال بذلك كرّو يستدعي تدقيقا في الحدود الفاصلة الواصلة بين المذكّرات و السيرة الذاتية في خطابات الزّعيم! باختصار شديد تبعثرت التحاليل الأجناسيّة و تضاربت حدّ التخبّط الذّي أدّى إلى القول بوجود سيرة ذاتيّة لمحمد صالح المزالي سابقة  لسيرة بورقيبة الذاتيّة، فإذا نحن هذه المرّة و يا للعجب إزاء سيرتيين ذاتيتين أوليين" من ذلك أنّ أوّل سيرة ذاتية بالمعنى الأدبيّ الدّقيق وضعها رجل سياسة كان رئيس حكومة  في عهد الباي سنة 1954 و هو في الآن  نفسه رجل علم ارستقراطي اهتمّ منذ الثلاثينات بتاريخ تونس. 

فقد أصدر محمد صالح المزالي سنة 1972 سيرته الذاتيّة( أي قبل محاضرات الزعيم بسنة1973) بعنوان " على مرّ حياتي، ذكريات تونسي" ص. 44، و إن تجاوزنا هذا السّياق سنجد في انتظارنا مفاجأة ثالثة سارّة ص. 59 إذ نصّب المبخوت نص رجع الصدى للمطوي سيرة ذاتيّة ادبيّة أولى ايضا تصدر بعد خطابات الرئيس بسنوات، و الحال أنّ هذا النص لا يعدو أن يكون في واقع الحال سوى محكي طفولة Récit d’enfance لأنّه لم يستوف شروط تغطيّة مسار حياة كفيل بإظهار تاريخ الشخصيّة، و المعروف أنّ محي الطّفولة هو أحد أجناس كتابات الذّات المعروفة و لا يمكنه أن يتحوّل إلى سيرة ذاتيّة إلاّ بعد استكمال مراحل الحياة اللاّحقة. و ما جاء في تحليل المؤلّف من تحامل مشطّ حدّ الغرابة على نص المطويّ مقابل امتداح حنّة للباردي يجعلنا نتساءل عن مدى وجاهة المآخذ  هنا بل و جدّيتها العلميّة (ما يعتبره تفككا زمنيا على سبيل المثال هنا هو خلط بين ما تستدعيه الحبكة من ترابط و مايستدعيه نظام القص في رجع الصدى من ترتيب بالغرض او الموضوع ص.180، بل الأعجب من ذلك وسم هذا النصّ بالكتابة الشذريّة ! و ما أبعده عن مثل هذا المفهوم إذ جاءت بنية الخطاب متكوّنة من وحدات قصّصيّة موضوعاتيّة يحكمها تماما التّرابط السردي الدّاخليّ، فهل يمكن أن يصل الخلط في ما هو بديهي إلى هذا المستوى من التّحليل؟) و الاحتفاء هناك ( الإشادة بتواتر الخطاب الواصف الّذي قد يتحوّل إلى نوع من الحذلقة الكلاميّة الّتي تجترّ شعريّة مستعارة لتأثيث فراغات) سيّما  و أنّ نص المطوي يتناصّ بشكل واضح مع أيّام طه حسين، وهو ما يطرح قضيّة استدعاء مناويل الكتابة السيرذاتيّة في نصوص اللاّحقين  لمن سبقوهم باعتبارها أشكالا ملهمة و رمزيّة.



                                                                      

        جليلة الطريطر


   أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل







[1]  الهامش المتعلق بالتعليق على الحوارات بما هي "فضاء سيرذاتي" لدى دراسة لوجون ل اندري جيدAndré Gide  غير مطابق لواقع الحال في النص الفرنسي. قصد فيليب لوجون بالفضاء السيرذاتي  في هذا السياق مجموع نصوص جيد التي تبدو مشدودة  على نحو استثنائي لإنتاج صورته الذاتيّة, و لا علاقة لهذا الأمر بالحوارات مطلقا. راجع Ph. Lejeune, Le pacte autobiographique, p. 165.
[2] Béatrice Didier,Le journal intime,Seuil, p.160.

تعليقات