الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول المبخوت وجائزة الملك فيصل (8)



شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم


                                                                     تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء،        
                                                                     أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة
                                                                                         



         جليلة الطريطر
                                                                                         







واضح من كلّ هذا أنّ الباحث ليست له أيّ دراية و لو كانت أوّليّة بقواعد منظومة الأجناس الّذاتيّة                  و دقائقها الاصطلاحيّة[1] بل و ليس له أدنى فهم واضح لمفهوم السّيرة الذّاتيّة نفسه موضوع اشتغاله الاصطلاحيّ القياسيّ.Analogique ، و إذا ما تجاوزنا هنا مسألة مدى شرعيّة اعتبار المحاضرات/ الخطب إضافة إلى البعد الشّفوي عناصر بنائيّة تلفّظيّة ملائمة لإنتاج حبكة سرديّة مفرزة بدورها لهويّة سرديّة نعتت ب كونها سيرذاتيّة مكتفين بالإشارة إلى بعض تناقضاتها البنائيّة الظّاهرة لأنّها مسألة شائكة تخرج بنا عن حدود الغرض، فإنّ السّؤال الّذي يرتبط رأسا بتجنيس محاضرات الزّعيم هو موضوع مشروعه. أي ما هو  أصل المشروع الّذي عبّر عنه الزّعيم و بنى على أساسه أسطورة زعامته، هل هو فعلا مشروع سيرذاتيّ ( بالمعنى الّذي أوضحناه) مثلما يريد له المبخوت أن يكون؟
            
هنا أيضا  يخالف المبخوت عددا من الّدارسين التونسيين المشهود لهم بالتميّز و الّذين أظهروا حسّا نقديا مرهفا بمشكليّة النصّ الأجناسيّة (كرّو/ ظلال الزعيم، ص 99) خلال استقرائهم للمشروع البورقيبي              و مساءلته بما دلّ عندهم على انفلاته من معايير التّصنيف السيرذاتيّة التّبسيطيّة و وقوفه في منطقة مابينيّة تتجاذبها السيرة الذاتيّة و المذكّرات في آن.  المؤلّف لم يكلّف نفسه جهد التعمّق في وجهة نظرهم بقدر ما كان يسبح ضدّ التيّار منهمكا في جذب خطابات بورقيبة نحو تجنيس سيرذاتيّ  سمته التّعميم المخلّ‑ مثلما أوضحنا‑ لأنّه مصرّ على أن يكون بورقيبة هو أب السيرة الذاتيّة في تونس!( و هي الزعامة الجديدة الّتي شرّف بها المبخوت بورقيبة بعد وفاته) على اعتبار  الحبكة وحدها، بما آلت إليه من تأسيس لعظمة الزعيم الأسطوربّة. و هو ما نتج عنه تحريف واضح في تجنيس النصوص الذاتيّة المتاخمة، فضلا عن استنتاج هيمنة بورقيبة على هذا الحقل  حتّى لكأنّه انصرف بمفاتيحه كلّها في جيبه. و هذا النّقد أشبه ما يكون ببناء أسطورة الأسطورة لأنّه ألصق بالحكاية منه بالتّفصيل و التدقيق المعرفيين، و لا أدلّ على ذلك من كون المبخوت لا يتفطن لتناقضاته الصارخة من مثل قوله بأنّ محمد صالح المزالي نشر أوّل سيرة ذاتيّة أدبيّة في تونس قبل بورقيبة بسنة! أيّهما المؤسس إذن؟ ما الفرق، أو ما صور التّشابه بين السيرتين؟

لنترك الكلمة إذن للزّعيم يحدّد سؤاله في محاضراته : "... و إنّي لعلى استعداد لأدلي إلى المعنيين بالتّاريخ بتفاصيل حيّة  و بأسباب الأحداث و مسبّباتها ممّا يعسر  أو يتعذّر وجوده  في الوثائق المكتوبة و إنّما  هي متّصلة بهذا الشّخص الّذي صنع التّاريخ و استنبط بنفسه الخطّة الّتي استطعنا بها القضاء على الاستعمار بوسائلنا المتواضعة" ص 6 ثمّ يمضي قدما في التوضيح مستفهما" فهلاّ ترون معي أنّه إذا كان مرادنا أن نتعرّف الحركة الوطنيّة على حقيقتها فإنّ الواجب يقضي منّا أن نبدأ بتعرّف من أوجد تلك الحركة و قاد مسيرتها" ( الزعيم و ظلال، ص 7) لذلك كانت وظيفة محكي طفولة بورقيبة الكشف عن " الأسباب                  و المسبّبات و على التأثيرات التي طبعته" ( الزعيم و ظلاله،ص.7.) بل إنّ بورقيبة يذهب إلى ما هو أبعد عندما يتحوّل بمشروعه من فهم الّذات بما هي إنسان مختلف لا يشبهه  أحد( روسو) إلى القول بأنّ عماد شخصيته هو " الحياة من أجل الغير"( الزعيم و ظلاله،ص.66 ) بما يعني أنّ سؤال مشروعه الرّئيس من الفاعل؟ و ليس سؤال السيرة الذّاتيّة المعروف من أنا؟ و الأغرب من هذا أنّ المبخوت تفطّن إلى هذا السّؤال و أقرّه و لكنّه و يا للعجب جعله  المؤشّر الأجناسيّ على السيرة الذّاتيّة بدلا من المذكّرات مستبعدا كلّ مظاهر الشّهادة على العصر الّتي يقتضيها حتما يقول " لذلك لا نحتاج إلى عين المؤرّخ بالضروررة في حرصه على "الموضوعيّىة" و إنّما يكفينا من ذلك أن نجد إجابة متناسقة عن السؤال المركزي في قصّة الحياة "من الفاعل؟" فقد جاءت رواية بورقيبة حكاية تجمع المتنافر من الأحداث فتمنحه شكلا               و تخترع له وحدة تنصبّ داخلها التّفاصيل كلّها"!( الزعيم و ظلاله،ص 126). فمتى كان سؤال السّيرة الذّاتيّة هو من الفاعل؟؟؟

كيف يمكن إلغاء كلّ ما هو توثيقي بمثل هذه السّهولة، و الدمج بين هذا الخليط من المتنافرات لا لشيء إلاّ من أجل الإيهام بسبق الريادة في التّنظير للسيرة الذّاتيّة في تونس متلبّسة بتلابيب الزّعيم المفرط في النّرجسيّة؟
هل كان طرح بول ريكور للهويّة السرديّة قائما فعلا على قاعدة إثبات أسطوريّة المحكيّات التّاريخيّة؟           و متى كان قول التّاريخ عند ريكور هو مجرّد تشكيلة Configuration و الحال أنه يسمّيها إعادة تشكيل المادّة التّاريخيّة Refiguration و شتّان بين هذه  بتلك!



[1]  يستعمل المبخوت أكثر من مرّة سيرة ذاتيّة مقابل سيرة غيريّة، و الحال أنّ الصحيح سيرة لا غير لأنّ العبارة الأولى منحوتة على أساس سيرة بمعنى حياة يكتبها شخص غير صاحبها.راجع ظلال الزعيم،ص. 81، 95. وهو  لا يفهم معنى سيرة روائيّة ويبذل جهدا لا طائل من ورائه ليفهمنا أنّها في حالة حنّة للبلردي لا تنقض الميثاق. ما كان أغناه عن هذا الجهد الضائع لو أنّه تثبّت من أنّ العبارة تعني السيرةالذاتيّة المكتوبة على أسلوب الرواية لا غير لأنّه مجرد منوال ، و هو ما يختلف عن الرواية السيرذاتيّة القائمة على المشابهة  إذ ليست المطابقة الاسميّة ماثلة فيه.راجع ظلال الزعيم  ص179   187.
آنظر في هذا الصدد، محمد آيت ميهوب، الرواية السيرذاتيّة في الأدب العربيّ المعاصر، دار كنوز، 2016.

تعليقات