مسرح الأودن عند أوجينيو باريا من الأنثروبولوجيا المسرحية إلى المثاقفة


مسرح الأودن عند أوجينيو باربا
من الأنثروبولوجيا المسرحية إلى المثاقفة
                                                            د. الزهرة براهيم- باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا
1- المسرح والأنثروبولوجيا: أية علاقة؟
بدءا، نقف عند تعريف الأنثروبولوجيا بأنها علم دراسة الإنسان. وترجمت إلى اللغة العربية تحت مسميات: الإناسة والإنسية والإناسية. وقد تفرعت إلى عدة مجالات وفق مركز اهتمام دراساتها ما دام علم دراسة الإنسان يخص مجموع منجزه المادي والرمزي انطلاقا من خصيصاته البيولوجية والعقلية بصفته كائنا لغويا ذي بنية جسدية عمودية يستطيع تطويعها وتكييفها في وضعيات مختلفة لتحقيق مآربه.
وحيث يشكل المسرح ظاهرة ضمن ظواهر ثقافة المجتمعات الإنسانية، فإن تأطير مقاربتنا داخل الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية – اللتان تُعْنَيَانِ بدراسة المعتقدات والأساطير باعتبارها أساسا لتكوين البنى الاجتماعية- يستجيب لتلمس الخيوط الرفيعة التي تربط هذا الفن بعلم دراسة الإنسان. فكيف تحولت الأنثروبولوجيا إلى رافد من الروافد الغنية التي وسعت مجرى أب الفنون، وأخصبت على ضفافه تجارب مغايرة لفهم الإنسان والعالم عبر وسيط الفرجة المسرحية؟
عرفت الأنثروبولوجيا تطورا حثيثا خلال القرن العشرين بفضل جهود عالم الاجتماع كلود ليفي شتروسClaude Lévi STRAUSS   الذي وضع أسس الأنثروبولوجيا البنيوية، حيث اهتمت بدراسة المجتمعات من خلال تكوين المعتقدات والأساطير والظواهر الطقسية، كما نجد في كتاباته مثل "الأسطورة والمعنى" و"النيئ والمطبوخ"، وتبعه في ذلك باحثون أمثال ميرسيا إلياد وديديه أنزيو وكارلوس كاستانيدا. وتعد كتابات مارسيل موس في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا مسالك جديدة أفضت إلى اغتناء ثقافي عبر اكتشاف تركيبات الثقافات البعيدة عن ثقافة المركز في أوربا.
وحيث قادت هذه الدراسات إلى الكشف عن مختلف الظواهر التي تحكم البنيات الاجتماعية للمشركات موضوع الدرس، فإن ممارساتها الثقافية قادت نحو تعميق الأسئلة المتعلقة بوجود ما له علاقة بالمسرح فيها. من ثمة، ظهرت أنثروبولوجيا المسرح كنوع من فروع الأنثروبولوجيا، لا تشكل علما مستقلا بذاته، وإنما توجها في البحث المسرحي استفاد من فتوحات هذا العلم الجديد الذي بدا احتوائيا تعوم في مياهه جميع مناشط الإنسان العقلية واليدوية.
يدرس هذا التوجه الظواهر الأنثروبولوجية في المسرح، والظواهر المسرحية في المجتمعات البدائية. وقد حرص أوجينيو بارباEugenio BARBA  على تحديد مفهوم الأنثروبولوجيا المسرحية بقوله إنه «دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حال العرض، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم في الحياة اليومية» .
استدعى الوضع الحضاري المأزوم لمجتمعات القرن العشرين تدخل التيارات الثورية في الأنثروبولوجيا لمواجهة نظيرتها الكلاسيكية -خديمة الأمبريالية الغربية في آسيا وأفريقيا وجزر المحيطات- دفاعا عن حق التنوع الثقافي، والاعتراف بالثقافات الصغيرة، وحماية أنساقها من هيمنة النموذج الغربي، أسير تمركز جارف حول الذات يسعى إلى صياغة وجه ثقافي وحيد للعالم.
أفرزت الحرب العالمية الأولى فلسفات مناوئة للحداثة التي قادت العالم نحو الخراب، ولم يعد العلم والتكنولوجيا، اللذان اعتبرا طريق البشرية نحو التقدم والرخاء، سوى وبالا عليها، وقاداها نحو نتائج عكسية قسمت الخرائط إلى معسكرات وحروب مستعرة وباردة. من هذه الأوضاع العصيبة المشحونة بأزمات ثقافية وأخلاقية فجرت حنين الإنسان إلى أصوله البدائية حيث النقاء والبساطة وأساطير الخليقة.
تبعا لهذا الوضع، اتجه البحث المسرحي نحو دراسة الاحتفال والطقس بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحديثة، والتمييز بين ما هو اجتماعي وما هو مسرحي فيه. وقد تباينت منظورات الباحثين وعلماء الاجتماع حول الظاهرة. لقد ميز السوسيولوجي والمسرحي جان دوفينيو بين الاحتفال الاجتماعي والاحتفال الدرامي، وبين صعوبة تحديد الهامش بينهما معتمدا في ذلك على دراسات الباحث الفرنسي جورش غورفيتش. في المقابل، رفض الدارس الأمريكي إيميل كوفمان وضع حدود مميزة بين ما هو مسرحي وما هو اجتماعي، مسوِّغُه في ذلك أن مختلف مظاهر الحياة اليومية بأنشطتها الإنسانية المتنوعة، وحتى تلك ذات الطابع الفردي المحض، هي مظاهر استعراضية لأن الحياة الاجتماعية مبرمجة بناء على قواعد تصرف تشكل روامز لها ذات طابع لعبي. وبالتالي، فإن كل نشاط اجتماعي هو جزء من الاحتفالية.
يؤكد فريدريك نيتشه هذا المنظور في كتابه "ميلاد التراجيديا" معتبرا الاحتفال أصل المسرح، وذلك من خلال ما كانت تنجزه الجوقة اليونانية من نشيد وطواف ورقص يعتبر منبع الطابع القدسي للتراجيديا. وهذا يؤكد عناية أرسطو الخاصة بالتراجيديا في كتابه فن الشعر مقارنة بالكوميديا. علما بأن مفهوم "التراجيدي" الذي صيغ زمن الإغريق تلون بأطياف التفكير الفلسفي إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر الذي شهد ميلاد نيتشه، ليأخذ، باستمرار، أبعادا تستجيب لمعضلات الإنسان الحضارية.
2- مسرح الأودن من المغايرة إلى التجريب
ليس غريبا أن يختار أوجينيو باربا اسم "أودن" Odin -الإله المبجل على نطاق واسع، كما ورد في الأساطير الجرمانية- لفرقته المسرحية التي أسسها في مدينة أوسلو النرويجية سنة 1964، وهو في سن الثامنة والعشرين من عمره (1936 في برنديسيBrindisi  بإيطاليا) حتى يطور تجربته في الفن المسرحي التي بدأها دراماتورجيا فمخرجا، ثم مديرا لـ "المسرح الإيطالي"، وقد حرص على اجتناب الكليشيهات المسرحية.  
في سنة 1979، يدخل أوجينيو باربا في مشروع فني جديد بتأسيس المعهد الدولي للأنثروبولوجيا المسرحية International School of Theater Anthropologie ISTA ، واختار مقرا له مدينة Holsebro في الدنمارك. وحدد أهداف هذا المعهد، كما الآتي:
- فضاء دولي متعدد الثقافات، والتبادلات، والموارد،
- فضاء يضم فنانين ومؤدين وكوريغراف ومصممي فرجة ومنتجين وباحثين جامعيين، ونقاد وكل الذين أبدوا اهتماما للمشاركة أو الحضور أو الملاحظة،
- دراسة الملمح التقني والفني لدى الفنان،
- تحليل "الحضور" داخل "فضاء اللعب" أو "الحياة الركحية"،
- تحليل الصيغة المفارقةParadoxale  لدى الفنان،
- نقل عدد من الخصيصات المشتركة عبر عدد من التقاليد،
- الاستجابة الصارمة للتقنيات المسرحية بترويض الجسد وتدريبه بصرامة،
- اعتماد المقاربات الثيماتية في التدريبات،
- متابعة المظاهر الجديرة بالدرس المسرحي،
- تنويع أنشطتها بين عروض مسرحية وندوات،
- الجمع بين طاقات متنوعة من ثقافات مختلفة للتبادل والتلاقح،
ومن أجل تعميق تجربته المسرحية، تحرك المعهد الدولي للأنثروبولوجيا المسرحية في عدة مدن عالمية: سنة 1980 بون في ألمانيا، في 1981 في فولتيرا وبونتديرا بإيطاليا، في 1985 في بلوا ومالكوف بفرنسا، في 1986 بهولستبرو بالدنمارك، في 1992 ببريكون وكارديف ببريطانيا، في 1994 بلندرينا بالبرازيل، في 1995 بلومكا بالسويد، في 1996 بكوبهاغن بالدنمارك.
في سنة 2002 تطورت تجربة ISTA نحو تأسيس مركز مختبر الدراسات المسرحية CTLS -Centre for Theater Laboratory Studies ، الذي يواصل البحث والتجريب، وتوسيع احتمالات الاشتغال بالانفتاح على ممكنات المسرح وباقي الحقول المعرفية التي تغني منظوراته، وتبلور منجزه النظري والتطبيقي.
لقد أفرزت هذه التجربة الجماعية العالمية مؤلفات ذات أهمية مثل: La terre de  cendres et diaments الذي ألفه أوجينيو باربا رفقة البولوني جيرزي غروتوفسكي سنة 2000، ثم L’ Energie qui danse وDictionnaire de l’anthropologie théâtrale-- ثم Brûler sa maison- 2008.

3- الأطر المرجعية لمشروع أوجينيو باربا
أفاد هذا التجريبي الإيطالي من منجز شعريات المسرح الغربي التي تبلورت بقوة متسارعة خلال القرن العشرين في سياق تحول حضاري متضارب الاتجاهات. لقد كان لتعدد التيارات المسرحية وتجارب الفرق في أوربا وأمريكا دور حاسم في بلورة الرؤى وشحن التحولات الجذرية نحو المسرح الشرقي في اليابان والصين. وظهرت بصمة كتابات أنطونان أرطو جلية في توجهات المسرحيين ما بعد الحداثيين بواسطة خطط اشتغال ازْوَرَّت عن معطيات المسرح الغربي لتسترفد مُقَدَّرَات روحية نابعة من الأصول المقدسة في ثقافات بدت غريبة ومثيرة للذائقة الغربية.
غذت بيانات أرطو مشاريع الأنثروبولوجيا المسرحية، وفتح كتابه "المسرح وضعفه" آفاق تبادل مع ثقافات المشركات الصغيرة في "المكسيك" وجزر "بالي"، حيث تتدفق أجساد المؤدين بلغات رمزية تصير حقلا خصبا للقراءات السيميولوجية المتراكبة الموظفة في سيميولوجيا المسرح، وهي سيميولوجيا الدلالة التي تبحث فيما تمثله العلاقة بين الدال والمدلول والمرجع، بالنسبة إلى مستخدميها. وسيميولوجيا التواصل التي تبحث في آلية تشكيل روامز الرسالة، أي الترميزEncodage  من قِبَل الفريق المنتج للعمل المسرحي، وفك الروامز Décodage من قِبَل المتلقي.
لقد ساهمت كتابات آن أوبرسفيلد، وأندريه هلبو، وكير إيلام، وأمبرتو إيكو، وإيفلين إيرتل في إضاءة خرائط الانتقال الذكي بين النص والعرض وعلاقتها بالعالم الخارجي حيث تتعدد اللغات، وتتكاثف الرموز، وتتضاعف التأويلات المتحررة من محدودية القراءة. وقد عزز رولان بارت مشهد الدراسات السيميولوجية المسرحية بإيلائه نفس الأهمية للعرض كما للنص.
لم تبق هذه الدراسات السيميولوجية حبيسة التحليل العلاماتي المنغلق، بل انفتحت على فضاء السوسيولوجيا حتى تأخذ العلامة امتداداتها الطبيعية داخل نسقها الثقافي، أنَّى تمتح الرموز واللغات مذخراتها من الخلفية البعيدة للأساطير والمعتقدات وحكايات البدايات.
تعتبر بحوث الألمانية إيريكا فيتشر ليتش، في مجال المسرح، المصنفة داخل توجه السوسيو-سيميولوجيا خطة جديدة استعان فيها الدرس المسرحي من علم النفس والأنثروبولوجيا، وتأسست رهاناته المغايرة على حوار الثقافات في تنوعها وتمايزها. لقد ساهم البحث عن المشترك بين التجارب المسرحية العالمية معينا خصبا للتناص بوصفه طريقا سيارا نحو المثاقفة.

4- الأنثروبولوجيا المسرحية وإمكانات الاعتراف بتميز الفرجة العربية والمغربية
لم يغفل إدوارد سعيد في كتاباته عن الاستشراق مسألة الثقافة حين تتحول إلى أداة هيمنة بين دول قائدة وأخرى مقودة. لقد نوه إلى خطورة ثقافة الاحتواء في طمس النماذج الثقافية الأصلانية من أجل أن تسود ثقافة المستعمر.
ولئن رفعت الأنثروبولوجيا الثورية، والأنثروبولوجيا المستقبلية شعار الدفاع عن ثقافات الهامش المستصغرة حضاريا، وفق تصنيفات المركزية الغربية، فلكي تخول لها حق الاعتراف بمُقَدَّراتها المادية والرمزية، وتنصفها من تراتبية سلم الحضارة الغربية الذي يضعها في الدرك الأسفل، في أحسن الحالات، حين يتم وصمها بصفات مثل: "المتوحش" و"البدائي" و"المتخلف".
في المجال المسرحي، كما في غيره من المجالات، حصلت استعادة الموروث الأصيل للثقافات الصغيرة بعد مرحلة انبهار بالنموذج المسرحي الغربي.
لقد استفادت التجارب المسرحية في المستعمرات من الثقافة الفنية الغازية، لا لتؤمن استمرارها، ولكن لتستضيء بأدواتها حتى تعيد قراءة استثمار خاماتها المادية والروحية للكشف عن صيغ فرجوية تتقاطع مع المسرح الغربي في العديد من عناصره.
وإذا كان جسد المؤدي، و"حضوره" الفيزيقي المروَّض بالتداريب الصارمة هو مطلب تجريبيي ما بعد الدراما، فإن هذه الطاقة متوفرة بقوة في أشكال من التعبير الفردي والجماعي في احتفالات المشركات الصغيرة، سواء تعلق الأمر بفرجات تعبر عن مآسي الإنسان، أو أخرى تبتهج بمسراته أو تنتقدها عبر الضحك والسخرية والترفيه عن النفس.
يتغلغل الفعل المسرحي في طقوس اجتماعية لا نكاد نتبين الحد الفاصل فيها بين اليومي والاحتفالي، ومهما اختلفت منظورات السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين حول المسألة، إلا أن ما يظل نقطة اتفاق بينهم أن روح المقدس وأدبيات الطقس تحيا بقوة في الممارسات العادية والاستثنائية للثقافات الشرقية والملونة.

كلمة للختام
يتأكد غنى الثقافة العربية والإفريقية والمغربية، كغيرها من الثقافات المستصغَرة، بموروث شكَّل رافدا ثريا للتجريب المسرحي، وأثارت الطقوس الاحتفالية انتباه الدارسين الغربيين والأصلانيين من أجل إنصاف هذه الثقافة، ونقض مفاهيم الحضارة الغربية داخل عالم أصبح محكوما بالتفاعل والاعتراف بالآخر بعيدا عن إرث الإمبريالية وهيمنة أنساقه سياسيا وثقافيا. فهل سنستمر في المراهنة على الفن المسرحي ليمحو التفاوت والتراتبية التي تمعن الزعامات السياسية في ترسيخها من أجل حسابات  لن تخدم المصالح العادلة للبشر.

تعليقات