معجم بورديو : استعداد

تعريب الدكتورة : الزهرة براهيم

استعداد                                                               Disposition

     إن فلسفة الفعل عند بورديو هي فلسفة ترتيبية لأنها تلجأ إلى تصورات ترتيبية - حس عملي، وهم، دوكسا، حقل، إلخ.- ولكن خصوصا فيما تستمد منه هذه التصورات إن L’Esquisse d’une théorie de la pratique قد جاء لتحديد الهابيتوس مثل «نسق للاستعدادات»، فعالم الأنثروبولوجيا يحدد بالفعل: «لفظة "استعداد" بحيث تبدو ملائمة خصوصا للإعراب عما يخفيه تصور الهابيتوس (...) حقيقة، فهو يعبر قبل كل شيء عن نتيجة فعل منظَّم يقدم حينئذ معنى مجاور جدا لألفاظ مثل البنية: إنه يعين من جهة ثانية شكل وجود، وحالة عادية (خاصة للجسد) وعلى وجه الخصوص، استعدادا قبليا، وجنوحا، ونزوعا أو ميلا».1 ويعرض بورديو هنا (على شكل هوامش ليسترعي الانتباه بطريقة مثيرة رفضه للتشدق النظري) المبادئ التي تكوّن النواة العقلية لنظريته الترتيبية. فالتعريف الذي يعطيه، يميز، من أجل إشراكها، بعدين للمعنى واللذان طبعا تاريخ تصور الهابيتوس قبل أن يكد كاتب "الحس العملي" في تنفيذ تركيبها: من جهة، تصور نشاط متعال للبنية التي تجمع التقليد الكانطي الجديد والظاهراتية، ومن جهة أخرى، تلك الأكثر قِدما، لأنه يمكن أن نرجعها إلى عهد أرسطو، وعادات الروح، والاستعدادات الأخلاقية المولِّدة للأفعال. يجد بورديو في إنتاج فكرة الفعل المنظم والموحَّد والبنائي للتصور الموروث من الفلسفة الأخلاقية وسيلة تجاوز نظرية المقولات الفلسفية التقليدية. ويتعلق الأمر بإنشاء فلسفة ترتيبية موسعة لتتجاوز التقسيم العقلي للمبادئ المنطقية والمواقف الأخلاقية والعاطفية للجسد. وبحيث إن التخطيطية التي يضعها عالم الاجتماع في قلب استقصائه للمنطق العملي هي تخطيطية تحمل بصمة هذا التجاوز، فإنها تخطيطية مدمجة، وديناميكية ومولدة للأفعال.
  

    فالتعريف المحجوز كلاسيكيا من أجل أن يتم التمييز بحد أدنى التصور غير الآلي للاستعداد، فإنه يقدم نفسه، على الدوام، بالكيفية التالية: أن تمتلك استعدادا معناه أن تكون ميّالا إلى التصرف بانتظام وبطريقة معينة في ظرف معطى. فالتعريف الذي يقدمه بورديو في L’Esquisse، يتقارب مع هذا التعريف الأساس، لكنه يبدو أكثر تحديدا بشأن الترتيبية التي تواجهها. إن الاستعداد ممثَّل فيها بالفعل، ليس فقط مثل «صيغة وجود» أو «حالة عادية»، ولكن مثل «استعداد قبلي، ونزوع، وجنوح، أو ميل» (فهذا ما يثير بورديو النظر إليه). توجد قوة للهابيتوس. إن قوة التحديد هذه المودعة «في العمق البعيد للأجساد»2 إذا لم تكن مولَّدة آليا، فإنها ليست نائمة لهذا السبب، إنها تنزع بحيوية نحو تحققها: «الهابيتوس كنسق استعدادات للوجود وللفعل هو وجود بالقوة، رغبة في الوجود الذي بصيغة معينة، يسعى إلى خلق شروط إنجازه، إذن لفرض الشروط الأكثر ملاءمة لما هو عليه».3 فالاستعدادات هي مبادئ نشيطة، وأنظمة مجترِحة تميل حقيقة لكي توجد وتبني سلوكات الفاعلين وذلك بفرض إطار لأفعالهم. ويفسر بورديو الهابيتوس مستعملا كلام ليبنتز، بأنه قوة فتور «Une vis insita وهو أيضا المبدأ الرئيس للانتظامات الثابتة في الاجتماعي Lex insita، قوة ممنوحة بقانون، ومميِّزة أيضا بالثوابت والثبات».4 إنه قانون عام ومجترَح، فالاستعداد لا يفصح عما يمكن أن يكونه أو يفعله فاعل أو مجموع فاعلين، ولكن ما يمكن أن يكون أو يُفعل حقيقة إذا اجتمعت بعض الشروط المحدِّدة. بحيث إن تخصيص نسق من الاستعدادات لفرد أو لجماعة هو افتراض جهد استباقي نحو مجموع سلوكات قابلة للمساواة كتفعيل لهذا الاستعداد: «(...) إن وجود استعدادا مثل (Lex insita) يسمح بتوقع أنه في كل الظروف القابلة للإدراك لنوع محدَّد، فإن مجموعا محدَّدا من الفاعلين سيتصرف بطريقة محدَّدة».5

              فما دامت مستأذِنة من ليبنتز، وتلائم الطبع الميال للاستعدادات، فإن مقاربة بورديو للهابيتوس يمكن أن تكون مقارَنة مع نظيرتها عند بيرس. فالفيلسوف المنفعيّ الأمريكي، وريث هوم وألكسندر بن، وربما رافيسون، يدافع عن ميتافيزيقا الاستعدادات -أكيد أنها مكلِّفة من حيث علم الكائن- التي تحقق هوية الاستعدادات بالنسبة إلى كينونات ديناميكية ومؤهَّلة بصفتها حقيقية، من دون أن يكون، بسبب ذلك وجود مفعَّل على الدوام.. هذا، فإن التخطيط الترتيبي، يمكنه، حسب بيرس، أن يعرب عن نفسه بكيفية بسيطة بواسطة شَرطيَّة وهمية: «إذا فعلنا شيئا معينا في ظروف معينة هكذا تنجم عن نتائج عملية معينة» هكذا يشغل الممكن الترتيبي موْقِعا وسطا بين الإمكانية المنطقية المحض والوجود الفعلي. ويمكن للاستعدادات أن تدوم من غير أن تكون ذات أهمية: «يمكن أن يحدث أن تظل دائما في حالة افتراضية، مثل شجاعة المحارب أثناء غياب الحرب».6 لذلك، فإن الملَكة النزَّاعة للاستعدادات عند بيرس، تملك استقلالا ذاتيا كبيرا تقريبا بالنسبة إلى تفعيلها، فاستعداد الزجاج لكي يكون قابلا للانكسار الذي يستمر ويدوم، مثلا، ولو أن أي حادث حقيقي قد جاء لتفعيل هذا الاستعداد، فتلك التي يهتم بها بورديو هي استعدادات مكتسَبة، أي عادات، بالمعنى الشائع بحيث إن استقلالها الذاتي أثناء ممارستها هو نسبي أكثر. ومن أجل أن يكتمل، ينبغي للهابيتوس أن يرتاد كونا اجتماعيا، وفيه سيجد لامتلاك استعداداته فرصة لكي تتحقق.6 إذا كانت شجاعة المحارب صيغة وجود ناتج عن تغيير عميق للجسد المجترَح بواسطة سيرورات الاستشراك، فيمكن أن تدوم في الغياب الممتد لكل تفعيل، وتتوقف فعاليته على كثرة تعبيره. في المثال السوسيولوجي لبورديو، يبدو احتمال أن يختفي استعداد عام ما تماما، غياب تفعيل هابيتوس ما يقود بالأحرى إلى ارتباك وإلى أزمة: «(...) ولو أن الاستعدادات يمكن أن تتلاشى تدريجيا أو تضعف جراء نوع من «التلف» المرتبط بغياب التفعيل (المتعالق تحديدا، بتغيير المواقع والشرط الاجتماعي)، أو بتأثير الوعي المشترك لصنع تغيير ما (كما في تصحيح النبرات، والأنماط، إلخ.) حيث يوجد فتور (أو تخلفيَّة) للهابيتوس الذي يملك نزوعا تلقائيا (مسجل في علم الأحياء) لتخليد بنيات مطابقة لشروط إنتاجها».7

    من مصلحة حالات التخلفية أن تلفت الانتباه إلى الاستقلال الذاتي النسبي للاستعدادات، وأن تبرر قصديتها النوعية. يجب أن نتذكر حقا أن الهابيتوس ليس نشيطا فقط بوصفه مبدأ منظِّما («إنه يعبر عن نتيجة فعل تنظيمي») أعني، مادام يؤمّن بنية عقلية للوضعية التي تَرْهَن إشكالية الفعل. وحتى أن يحدث الفعل، فإنه يفرض على الفاعل الإطار السابق لكل اختياراته، ويحدد حقل تدخلاته باختيار الغايات والوسائل، ولكن أيضا بتمييز عناصر السياق القابلة للتأثير فيه كحوافز. وعلى هذا النحو، فالزوجة المعنَّفة التي تعود إلى زوجها في ظروف لا تطاق هي ضحية الكيفية التي تحدد بها معنى تجربتها.8 غير أن هذا النوع من الوضعيات لا ينبغي أن يكون مفسرا بطريقة ذاتية، يجب أن لا «ندفعهم إلى القول (مع سارتر، مثلا) إن الفاعل يختار (داخل «سوء النية») ما يحدده، لأنه، إذا أمكننا القول بأنه يحدد نفسه، في الحدود التي يُبقي فيها الوضعية التي تحدده، ويكون من الظاهر أنه لم يختر مبدأ اختياره، أي الهابيتوس الخاص به، وأن أنظمة البناء التي يطبقها على العالم كانت هي نفسها مبنية من طرف العالم».9 وإذا كانت الاستعدادات مبادئ قصدية لتحديد السلوك، ينبغي التذكير بأنها تصدر هي ذاتها عن تحديد، وعن تغيير الموضع في إمكان وجود قدرة وجود الفاعل للبنيات الموضوعية الخاصة بصيغة وجود معطاة. فالبنيات البانية هي كذلك بنيات مبنية تشهد على استبطان البنيات الاجتماعية. فهي فينا علامة التاريخ. وتصلح الاستعدادات لتفسير الفعل، ولكن هي نفسها قابلة للتفسير، وهذا الأمر موجود في نفس الإطار النظري.
  
   وبوصفها قوة بانية، وقصدية مجترَحة، فإن الاستعداد المنسوب إلى بورديو يتميز جذريا بالترجمة الآلية للاستعدادات. هنا يتوافق بورديو مع بيرس: لا يمكن لأي فعل اجتماعي أن ينتج عن سبب فعال. أن تفعل، معناه أن تستهدف حل المشاكل العملية انطلاقا من هدف عام، من مبدأ عام للفعل. وتسمح الترتيبية بإدراك فعل موجَّه من طرف غايات ليست في حاجة لأن تكون ممثَّلة، والتي تفرض عمليا دون هدف واع لقواعد واضحة. إن امتلاك استعداد معناه أن تكون قادرا على تطبيق عملي لشكل من الشمولية التي لا تنكشف إلا في الفعل، والذي ليس له وجود فعلي لمبدأ مقنَّن. ويستطيع الهابيتوس أن ينتج عددا لا محدودا من الممارسات لأن الاستعدادات تؤثر كأسباب لا نهائية لا تحدد الطبيعة الخاصة لنتيجة فعلها: «لا تؤدي الاستعدادات بطريقة محددة إلى فعل محدد: إنها لا تنكشف ولا تتم إلا داخل شروط ملائمة وداخل العلاقة مع وضعية ما».9 لهذا، فإن نموذج الهابيتوس يسمح، كما يلمّح جاك بوفريس، بعرض «التوافقات التي ليست محددة بكيفية صارمة. ولكن تحمل بحد ذاتها عنصر تغيرية، ومرونة ولا تحديد، وتنطوي على تكييفات وإبداعات واستثناءات من جميع الأنواع، التي تميز بشكل دقيق مجال الممارسة، أو علة الممارسة وحسها العملي».10 يوجد، حسب بيرس، تحديد أساس للقانون الترتيبي، هذا التحديد الجزئي يسمح لنظرية الممارسة إدراك الأفعال التي تظل غامضة على التصورات الفعلية، لأنها تجد موضعا لها بين الخضوع شبه الآلي للبنيات الاجتماعية ومراجعاتها الاستراتيجية في وضعية أزمة. إن جدلية الاستعدادات والوضعيات تفتح طريقا إلى فلسفة غير حتمية للفعل ولتعليل تغيرية الممارسات اليومية، لأن هذه الأخيرة في ارتباط مبدئي، من جهة، بلا تحديد شروط الوضعية التي يُفعَّل فيها الهابيتوس (يمكن للهابيتوس «أن يظهر ثانية في ممارسات مختلفة، بل متعارضة، وفق الوضعية»)،11 ومن جهة ثانية، وفق النوعية الخاصة لبناء هذا الأخير (نوعية تتوقف على طبيعة تكوّنه وصيانته).
 
      فالتصورات الترتيبية هي على الدوام عرضة لنفس النقد: فهي لا تحمل تفسيرا أكثر من «الفضائل المنوِّمة» الخاصة بالقرون الوسطى، حيث تجد مرجعيتها في كينونات ملغزة ووافية (Ad hoc). فالاستعدادات لا فائدة منها بالنسبة إلى الوصف البسيط للتوافقات الإحصائية الملاحظة. ومع أن هذا النقد لا يحقق إلا فلسفة ترتيبية وجوهرية ويعفى من التأمل، كما فعل ذلك تحديدا الفلاسفة الأنجلوسكسونيون، وقبلهم أرسطو، وهوم، وهوسرل، وبركسون، وميرلو بونتي، بترجمات مختلفة لمفهوم الاستعداد، بحيث إن بعضا منها يمكن الدفاع عنها أكثر من غيرها. فاستعدادات بورديو هي أقل مطابقة لكينونات أو ماهيات باطنية من أنظمة ديناميكية وعلائقية، فهو جد مختلف (هكذا لم تكن مؤاخذة قط على «التخطيط الديناميكي» لبركسون قابلة للمقارنة في بعض الوجوه مع مفاهيم بورديو، لكونها كينونة باطنية).

تحتاج نظرية الفعل إلى إمكانية تفسير تقلّب في الفعل أو محرِّكه، بل العبور إلى الفعل. ومن جهته، يعمد بورديو إلى تصور للهابيتوس الذي يتم توسيعه إلى حدود معتقدات نظريته حول الفعل الترتيبي (مفاهيم الحس العملي، الرأي المشترك، وأخيرا الوهم، فتتقدم بالتدريج لتحدد معنى هذه النظرية النفعية للاعتقاد): ولأنها تميل بنا نحو الفعل، فقوة الهابيتوس تؤثر فينا أيضا لكي نفكر ونعتقد ونرغب. فالعقلانية الإبيستيمولوجية من جهتها، تجد نفسها محرجة لتنفلت من إعادة إدراجها بصيغة أو بأخرى، في السلطة العلّيّة لـ «الفضائل المنوِّمة». يبدو أنه من العسير جدا الاستغناء عن التصورات الترتيبية، وأن المحاولات المنجزة قصد اختزالها إلى مفاهيم لا تجد مرجعيتها إلا في ما هو فعلي، هي بعيدة كل البعد من أن تكون مقنعة على الدوام. إذن، هل يمكننا، على الأقل، أن نقول إن إبيستيمولوجيا العلوم الفيزيائية تلجأ حاليا إلى مفاهيم ترتيبية حتى يظل النقاش مفتوحا؟

هوامش استعداد:
1-Esquisse pour une théorie de la pratique. Précédé de : Trois études d’ethnologie Kabyle (1972), coll. « Points Essais », Éd. du Seuil, Paris, 2000, p. 393.
2-La Domination masculine, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1998, p. 44.
3-Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997, p. 178.
4-Ibid- P. 178.
5-Ibidem- P. 178.
6-Réponses. Pour une anthropologie réflexive, (avec, L.J.D. Wacquant), coll. « Libre Examen » , Éd. du Seuil, Paris, 1992, p.109.
7- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 190.
8-Ibid- P. 177.
9-Ibid- P. 178.
10-Bouveresse.J. Dans, Critique, Pierre Bourdieu, n° 579-580, Éd. de Minuit, Paris, Août-septembre 1995, p.594.
11-Méditations Pascaliennes, ibid- pP. 178.



تعليقات