مسرح الطقوس والعودة الى الأصول

عبد الكريم الجراح في "صدى الصحراء" (نقش الورد)

مسرح الطقوس والعودة إلى الأصول

د. الزهرة إبراهيم- باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا- المملكة المغربية

اختار كاتب ومخرج "صدى الصحراء" عبد الكريم الجراح، من الأردن، في البطاقة التقنية الخاصة بعرضه المسرحي - الذي قدمه خلال الدورة العشرين للمسرح الأردني ما بين 14 و22 نونبر 2013، بعمان- اسم "نقّاشو الورد" للمؤدين، إناثا وذكورا (أشرف طلفاح في دور الملك الحارث الرابع، وعيسى الجراح في دور الكاهن مرزح، وأريج دبابنة في دور الأميرة سعدى، وإسحق إلياس في دور النحات ذؤيب، ومحمد الجراح وعماد نايف وعبد الله علان وحنين عوالي وحنين خوري أرابيلا وإبراهيم عنبر وصافي الأسمر في أداءات مختلفة (كوريغراف- جوقة- نحاتون...). أما الموسيقى فهي لنصر الزعبي ومراد دمرجيان، والإضاءة لخالد خلايلة، والديكور لخليل أبو حلتم، ومصمم الاستعراض المصري حربي الطائر، أما المادة الفلمية فلعلاء أبو فرحات، وقد ساعد في الإخراج محمد العشا. هذا العمل ينبئ عن مستوى من المغايرة المندرجة في إطار التجريب الذي طالما راهن المسرح العربي على امتلاك أبجدياته، وتحسين آلياته، وإبداع منظوراته، وترسيخ ممارساته حتى يتحرر من تكرار مقولبات، وابتذال أشكال ما عادت تستجيب لذائقة جديدة انفتحت على رؤى حداثية في الإخراج.

يبدو أن اختيار ساحة مديرية الفنون والمسرح كان الأنسب، إلى حد ما، لاحتضان فرجة تتطلب طقوسا حميمة مع الفضاء وإيحاءاته الواقعية منها والمهيَّأة خصيصا لمسرحية "صدى الصحراء"، فالمتفرج يدخل في الطقس بمجرد اجتيازه بوابة هذه الساحة العبقة برائحة التاريخ النبطي،  توحي بذلك أعواد النَّدّ المُتَضَوِّعِ بخورُها، والتي استقبل بها الشباب ضيوف الأمسية، كما سلموهم "رسائل قيصرية" تغري بفض رباطها لاكتناه خطابها... ولا يكاد الضيف يمشي بضع خطوات، مستعرضا أطول جدارية إسمنتية لمنحوتات صخرية في الشرق الأوسط، تحت ضوء فوانيس سهرانة، حتى تختلط رائحة العيدان الزكية، التي تمسك بها سبابته وإبهامه، برائحة فطائر الحنطة التي تَكَرَّم بخَبْزِها شابين أردنيين بمساعدة الممثلة الجزائرية ليديا العريني، على تنورين من المعدن يستعران على نار الحطب. يسكن البخور، والنور، والنار، والخبز الكيانات المتراقصة فرادى، ومثنى، وثلاث، ورباع، وأكثر... منتظرة بداية العرض، تتلفظ فيما بينها انطباعات ما كان لها أن تتفوه بها لولا هذه العناصر المحسوبة على عالم المقدس: النار  والنور، والخبز والبخور. عالم يغرف منه تاريخ الأنباط بسخاء حين وهبوا كياناتهم للصحراء يُخصبون قحلها، ويحولون سرابها ينابيع وغدرانا، وينحتون جبالها بيوتا وإسكانا...« عرقكم الذي سكبته أجسادكم الشريفة وجففته شمسنا اللاهبة... سيَّج حدودنا بالنار والنور ورائحة البخور. لكم المجد وأنتم الساهرون على حفظ بِّتْرا ومنجزاتها. »1

إن استحضار "نقش الورد" في عنوان العرض يوجهنا رأسا إلى بترا، عاصمة الأنباط التي تم تشييدها منذ 400 سنة قبل الميلاد، واسمها يعني: "الصخر" باليونانية، ويقابله في اللغة النبطية لفظ "رقيمو"، على اعتبار أنها قلعة عمرانية خالدة في تاريخ هذه الأرض، وإلى رجالها - الذين نحتوا من جبالها الوردية اللون بيوتا يحتمون بها، بل يحمون بصلابتها تاريخا عريقا من الحضارة المادية والرمزية- يعود الفضل في أنها صارت تلقب بـ "المدينة الوردية" احتفاء باللون الوردي المزهر لمادتها الحجرية الصلبة، والذي يتم احترامه حاليا في البطاقات المصورة لبترا، وفي كثير من التحف والتذكارات الخاصة بها. 

ينضاف، إلى جسامة وروعة "نقش الورد"، موقع بترا داخل فضاء مقدس محفوف بقصص الأنبياء، وأساطير الخلق الأول، فهي قريبة من "جبل هارون" الذي يُعتقد أنه يضم قبر نبي الله هارون. كما أنها تنتمي إلى أقدم منطقة عَمَّرها الإنسان منذ الأزل، ودرجت عليها حكايات بدء الخليقة، وأساطيرها، وصراعاتها.

فهذه العتبة الطقوسية، التي رسمها المخرج ضمن رؤية العرض المسرحي، تجعل حدا فاصلا بين العالم الخارجي الذي جاء منه المتفرج خالي الذهن، عادي الافتراضات، وربما محدود التوقعات...، والعالم الداخلي الذي يَنتظِر الدخول في مراسيمه راضيا مُستثَارا بالأجواء الروحانية التي غمرت ساحة مديرية الفنون والمسرح.
لقد سعت سينوغرافيا العرض إلى تشييد فضاء إيقاعي Espace rythmique، بمفهوم المسرحي السويسري أدولف آبّْيا Adolphe Appia، كـ «فضاء مفتوح حر وواسع، وكذا قابل للتحول أطلق عليه تسمية "كاتدرائية المستقبل"»2. إن كاتدرائية المستقبل هاته، كما يتوقعها آبّْيا لن تكون معتبرة، على الإطلاق، بهندستها المعروفة، وإنما بشيئين جوهريين في علة وجودها:

أ- قدسية الفضاء، من حيث ارتباطه بالآلهة وقوى الغيب.

ب- حشد الناس، باعتباره فضاء يلجه الكل، أفرادا وجماعات، عامة وخاصة.  
لقد تحرر عرض "صدى الصحراء" من معمار العلبة الإيطالية ليهب الممثلين والمتفرجين فرصة الإحساس بالانفتاح، وبالمغايرة، وبالوضع الطبيعي للذوات والأشياء، وذلك حين يصل المتفرج بقطعة من نفائس المعمار الإنساني على جغرافيا لا زالت تصون ذاكرة الوجود النبطي، وتمنح منجَزة التاريخي شرعية البقاء. ونعتقد أنه لو تم تقديم العرض في فضاء بترا الحقيقي لكان سيتأكد أكثر صدقا وحرارة من استدعائه عبر المسلاط، وستتحقق، بالتالي، بشكل معتبَر فكرة « الأماكن "المسترجَعة أو المعبَّأة"»3. لكننا قد نلتمس لمخرج "صدى الصحراء" عذرا في بعد المسافة، أو في ضيق الإمكانات التي تحول دون الاستفادة من هذه المعالم التاريخية العظيمة في منح الفرجة المسرحية طاقات إضافية تشحن كل من الممثل والمتفرج بروحانية المعمار المستمدة من عراقته، كما بالأسرار المحيطة بتاريخه.
لقد تدخلت البوابة العريقة بطقوسها الساحرة في توجيه انتباهنا إلى رصد مقومات المسرح الطقوسي في تجربة الجراح هاته. ويمكننا استعراض ذلك كالآتي:

1. الأداء الجسدي الذي انطلق من الرقص التعبيري ليتصاعد باتجاه الجَذْبَةِ La transe  التي اعتبرها أنطونان أرطو قمة الاستغراق في الطقس. وقد خضعت أجساد "نقاشي الورد" في حركاتها إلى هندسة فضائية Géométrie dans l’espace، بالمفهوم الرياضي، فبدت محسوبة المسافات، دقيقة الزوايا، واضحة الفواصل بين جسدٍ مؤدٍّ وآخر.
ويبرز الأداء الكوريغرافي للمؤدين منذ بدء العرض علامة إِحاليَّة على الممارسة الفرجوية الحديثة4  التي محت الفواصل بين المسرح المنطوق، والغناء، والرقص، والميم، والفيديو، إلخ... ولا تتحدد الكوريغرافيا في المسرح بالحركة المُوَقَّعَة لأجساد المؤدين، بل هي أوسع من ذلك، فكل « حركة على الخشبة، كل تنظيم للعلامات يملك بُعدا كوريغرافِيّاً، وتتألف الكوريغرافيا أيضا من انتقالات الممثلين وإشاريتهم Gestuelle، وإيقاع العرض، وتزامنية الكلمة والحركة Synchronisation، ثم الانتظام الأساس للممثلين على الركح. »5

2. اللغة المحكية التي تتناسل عبر حوارات الملك الحارث الرابع والكاهن مرزح، سواء في انفصالهما أو في اتصالهما السجالي، أو في توقهما إلى الأعالي حيث الآلهة، أو انسياب هواجسهما على رمل الصحراء الممتد حتى مشارف بترا، لتسترسل على لسان الأميرة سعدى والنحات ذؤيب، وتجاوب باقي "نقّاَشي الورد" مع ذلك. وهنا، ينبغي أن نلاحظ، مع باتريس بافيس، أن « الطقس يفرض على "العوامل" Les actants (الممثلين) كلمات، وحركات، وتدخلات جسدية يكون التنظيم الجيد لتركيبها ضمانا لنجاح العرض.»6،  وبهذا المعنى، فكل عمل جماعي في الإخراج هو، كما يفهم ذلك ميشال فوكو Michel Foucault، « تشغيل لطقس مّا في الإنتاج و"نظام الخطاب": إن الطقس يحدد التأهيل الذي يجب أن يمتلكه الأفراد الذين يتكلمون (والذين في لعب حوار ما، واستفهام، واستظهار، ينبغي أن يَشْغَلُوا موقعا مماثلا، ويصوغون نوعا شبيها لنصوص منطوقة. »7 ولا بأس من أن نشير هنا إلى وجود حوارية Dialogisme عالية في نسيج نص الحوار، وفق ما ميز به (ف. شكلوفسكي) و(ميخائيل باختين) الحركة التركيبية الأساسية، في روايات (دوستيوفسكي)، حيث « لا يقوم الجدال بين الشخصيات فقط، بل نجد بين مختلف عناصر الثيمات صراعا. »8، وهذا ما يتنامى مع وتيرة العرض، فمن صراع بين الملك والكاهن، إلى صراع بين الغيب والواقع، والسلم والحرب، والحب والشرف، والحق والواجب، والظلم والنخوة، إلخ... 

3. تعدد اللغات: لقد كانت البداية، أولا، من اعتماد لغة الصمت، بحيث يظهر المؤدون على رقعة الرمال دون أن ينبسوا ببنت شفة، لينخرطوا في أداء كوريغرافي تَوَزَّعَ على مساحة اللعب بإيقاع متناسق، بطيء، حينا، ومتسارع، حينا آخر، وفق تنامي المناخ النفسي والأدائي للأجساد التي شكلت بنية متعددة الاتجاهات، لتبدأ، بعد مدة، مونولوغات، ثم حوارات الكاهن مرزح مع السماء، ومع الملك الحارث... فتأتي هذه اللغة اللسانية لتحسم تأويلات المتفرج للغات الرقص. فأرطو لا يلغي بالمرة المنطوق اللساني، حيث يقول: « إنني أضيف إلى اللغة المتكلَّمة لغة أخرى، وأحاول أن أعيد إلى لغة الكلام التي نسيت إمكاناتها الغامضة، نجاعتها السحرية القديمة وفعاليتها الجذابة، والكاملة. »9 ونفس الموقف تؤكده (أوديت أصلان) Odette. ASLAN  في كتابها "فن المسرح" حين تقول: « هزت الطليعة البوليفار وأصبح كل شيء ممكنا(...)، وطالب المخرجون بالسيناريو بدلا من النص حتى يخلقوا بأنفسهم "مجموعة" مسرحية. وعندما أُنْزِلَت "الكلمة" من على عرشها لصالح طرق تعبير أخرى، تَرَك المخطوط مكانه للمقطوعة الموسيقية، والقيادة المثيرة للإيقاع، والقوة الصوتية والضوئية والمكانية في مجموع لا يغلب عليه النص.»10 وأكيد أن كتابات أرطو قد وسَّعت أفق الرؤية لأولئك الذين يقتفون المغامرة المسرحية. ففي "بيانه لمسرح مجهض  (Manifeste pour un théâtre avorté – O.C.II P 32)، يكشف قناعته العميقة بضرورة أن تستعيد اللغة طاقاتها البكر درءا للابتذال المستبد بها، ومن ثمة تمكين المسرح من استرجاع سحره الأول، وقداسته المفقودة « إن الثورة الأكثر استعجالا التي ينبغي إنجازها في نوع من التراجع ... هي تعلم اللغات البدائية ثانية »11، أي جميع اللغات وليدة الغريزة الإنسانية الموظفة للتواصل بين الأفراد والجماعات سواء في التمثيل أو التعبير الشعائري، أو سائر التعبيرات المسموعة أو المرئية أو الصامتة (غناء، أناشيد، موسيقى، رقص، حالات تملك...) التي يفترضها المعيش الإنساني اليومي في الحالات العادية كالعمل والعبادة، أو في الحالات الخاصة كالأفراح والجنائز وإقامة الطقوس الموسمية أو السنوية. إن مجموع هذه اللغات - كما افترض مُنَظِّرُو المسرح الحديث، أو مسرح ما بعد الدراما، تَوَفُّرَها في الأعمال المتجاوِزة للدراما الكلاسيكية- تعلن، بصفة مؤكدَة، عن تردداتها في "صدى الصحراء".
جدير بالذكر، في هذا السياق، أن نشير إلى أبحاث مارسيل موس Marcel Mauss حول أنثروبولوجيا التعبير الإنساني، التي ساهمت في بلورة فكرة مسرح حركي، فهو قد « أكد ضرورة بحث قواعد الـ "أسلوب الشفهي" الوحيدة، حسب رأيه، التي تتيح النزول حتى القواعد الأساسية للغة الإنسان. إن التعبير الإنساني في جذوره هو حركي، اللغة في منبعها هي "مُوَقَّعَةٌ داخل الفم المغني بانفراد والجسد المُومِىءِ".»12، إنها حركة يراها أرطو في المسرح كالآتي : « المسرح فيض عواطف .. نقلة مرعبة للقوى ..  من الجسد .. إلى الجسد.. هذه النقلة لا يمكن أن تحدث مرتين.»13 فالجسد في هذا النوع من "مسرح القسوة" Théâtre de la cruauté ، كمسرح مقدس، مطالب بأن يصير كتابة فضائية، يتحول بموجبها الممثل إلى نوع من الهيروغليفيا14 « إذ يحقق المسرح وعيا بهذه اللغة التي هي في الفضاء، لغة الأصوات والصراخ والكلمات المُصَوِّتَة، فهو عليه أن ينظمها بتحويله الشخصيات والأشياء إلى رموز هيروغليفية دقيقة، وباستخدامه رمزيتها وتلاقياتها مع جميع الأعضاء وعلى كافة الأصعدة.»15 إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كالتالي : إلى أي حد يمكن أن تنجح هذه الهيروغليفيا  في ضمان التواصل بين ممثل وآخر، ثم بين الممثلين وجمهور الفرجة، خاصة وأننا نعيش داخل سياق اجتماعي لا يمتلك ثقافة سينوغرافية تمكنه من تجاوز اللغة اللسانية لفهم الكون السيميولوجي للعرض كما قد يتراءى في أفق انتظار المخرج.

4. الغناء والتلوين الصوتي الذي ينبر لحظات الصراع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في حسم خيار مصير الأنباط وتشييد بترا. إن نقش الصخر لم يكن بيد الملك وحده، بل إن تنبؤات الكاهن ظلت تشوش عليه، وترهن قرارته لأشياء تتجاوز منطق العقل وحساباته، ويبلغ الصراع أوجه بين سلطتين كل واحدة تستند في حساباتها الخاصة إلى احتمالات الربح والخسارة من الإقدام على هذه الخطوة، لكن الانتصار يعود، في الأخير، إلى الحارث الذي يجمع في صرامة قراره بين مواجهة الأعداء، ومعاندة الصخر ليطوِّعه النقاشون، فينحتون للبشرية تحفة معمارية خالدة.

5. الإضاءة التي اتكأت على أحد المصادر الطبيعية للإنارة: النار، منسجمة مع المناخ العام للطقس المسرحي. وحسب تروتييهP. Trottier، فإن « الضوء يتدخل في الفرجة، فهو ليس تزيينيا فقط، لكنه يساهم بشكل كلي في جهد إنتاج معنى الفرجة.»16. وللإضاءة وظائف دراماتورجية وسيميولوجية لا محدودة كإنارة نقطة وعزل أخرى، والتعليق على فعل، وخلق جو ما، ومنح إيقاع معين للعرض. لقد أضفت الرؤية الإخراجية طابع القدسية على عنصر الضوء في المشهد بالمشاعل السبعة والموقد المقدس، وطريقة التماس النار والاحتفاء بها، ومباركتها، واللوذ بحماها.

6. احتواء المتفرج داخل المعمار المُشَكَّل لبترا، بل وتطويقه في حيز يقلب اللامعادلة القائمة في المسرح الكلاسيكي على تخصيص ثلث الحيز للعرض، مقابل ثلثيه للمتفرج، بحيث يمتد لعب الممثلين حتى الممر المؤدي إلى بوابة الفضاء، فلا عوائق مادية، ولا حواجز نفسية بين جمهور يتابع بحواسه، وبين مؤدين يتموضعون أفقيا وعموديا في المكان باعتيادية توحي بحالة احتفال جماعي، ومشاركة حميمة، وانسجام تلقائي، لا وضعية متابعة ومراقبة وحياد. فساحة مديرية الفنون والمسرح التي حوَّلها المخرج إلى « فضاء فارغ»17، بمفهوم بيتر بروك، وعبّأه سينوغرافِيّاً بنسق من العلامات السيميائية، وِفْق التصنيف الثلاثي الذي اقترحه بيرس18 بعلاماته الأيقونية، وعلاماته الإشارية، وعلاماته الرمزية، لكن من دون إسراف قد يُمَوِّه الخطاب الذي يسعى (نقش الورد) إلى تبليغه إلى المتفرج- تؤكد لنا حلم رجالات المسرح بإعادته إلى الطقس، أصله الأول، علما بأن سابقيهم قد سعوا، في عهود قديمة، إلى تخليص المسرح من الطقوس والخروج به إلى الحياة اليومية. فهذا التجاذب الذي وَزَّعَه، طيلة تاريخه، بين المقدس والدنيوي sacré/profane، يبدو أنه ينحو، منذ عصور الحداثة، باتجاه العودة إلى الأصول. ولعل قوة مثل هاته العروض تتحقق بمدى التناغم الذي يسري بين الاحتفال الديني المستعاد والطقس المسرحي المنجز القائم على الفرجة.

7. الزي المسرحي: صحيح أن مفهوم التمسرح، الذي بنى طروحات المسرح الحديث وحررها من الكثافة المبتذلة لعناصر العرض، قد أعاد هذا العنصر إلى مؤخرة المطالب السينوغرافية، إلا أنه في عمل مثل "صدى الصحراء" يصير إحدى ضرورات إنتاج الفرجة، فهو يساعد، من جهة، على إدماج المؤدين في أدوارهم، ومن جهة أخرى، يشتغل كعلامة تتقاطع فيها التصنيفات الثلاثة لمفهوم بيرس للعلامة السيميائية، ويخلق، مقابل ذلك، إمكانات للقراءة والتأويل الذي يربط المتفرج بميثاق الفرجة.

"صدى الصحراء" أي احتماء من صهد الحاضر وريبة المستقبل؟
يستنتج المتفرج، حين ينتهي العرض بأن تمجيد التاريخ النبطي، بناء على بطولات الساهرين على حفظ بترا، ملكا ورعايا، وفي مقدمتهم المحاربون والنحاتون، هو الخطاب الركن الذي يراوح أثره الأزلي من الماضي باتجاه المستقبل « أيها الأنباط! لقد كان ذكاؤكم هو أثمن كنوز بترا... وبسواعدكم نهضت تصد الغازي، وتبعد الباغي، وتغلق سيقانها أمام المعتدي، وستظل منيعة على الشر والأذى...»19.

يحق لنا أن نسائل اختيار عبد الكريم الجراح، كاتبا، لَمَّا ازور بوعيه عن اللحظة الراهنة، ولاذ بمرحلة قوية في تاريخ أمته قامت على تبني الاختيارات الصعبة والواضحة المتمثلة في المواجهة الحربية مع الروم، وعدم الخوف من تهديداتهم وأطماعهم الهيمنية على بلاد الشام، وكيف أن اتفاق بُناة بترا من نحاتين وعمال، هي التي رجحت كفة الحق وفندت مزاعم الكهنوت. أيمكن أن تحلم الأرض العربية، في راهنيتها المأزومة، بأن تصير بترا جديدة؟ وأن يمتلك الحاكم العربي شهامة وأنفة وشجاعة الملك الحارث الرابع؟ وأن يكون الشعب العربي كتلة متراصة مثل لُحْمَة النحاتين المتفانين يتقدمهم ذؤيب- الذي نذر نفسه لحب بترا وحب سعدى- في نحت الصخر الذي يُخلِّد الممالك، والمعمار الذي يخُطُّ المسالك؟

"صدى الصحراء" خطاب الامتلاء الذي يكشف الخواء، خطاب يسحب الماضي المجيد إلى ساحة الحاضر ليعري حالة الفقدان التي تكتسح الكيان العربي في مجموع بنياته. الذات العربية منذ زمن بعيد لم تعد تنحت سوى الهزائم والتراجع عن مكتسبات جمة سادت، ثم بادت، فشتان بين واجهة بترا التي تألقت منذ 400 سنة قبل الميلاد، وواجهة الواقع العربي التي امَّسَخت منذ القرن الرابع الهجري. إن خيال المتفرج مُستدعَى لرصد هذه المفارقات الصادمة التي تُراوح ردَّ فعله بين الصدمة العنيفة، والقبول العادي بجدلية التاريخ ومنطق أحداثه في مناخ حضاري تكون الغلبة فيه لمن يتمكن من أسباب العلم والفعل.

ويحق لنا أن نتساءل أمام تناول "صدى الصحراء" للواقع عبر ما نسميه "عزلا إلزاميا"، أو "حَجْراً"،  بمفهومه الصحي Quarantaine لمراحل من التاريخ العربي، حتى لا تنتقل عدوى الهزائم والاندحار من مرحلة آنية، وربما أيضا آتية، مظلمة، إلى مرحلة مضيئة لم تعد إلا في طي الحكايا وتلافيف الماضي السحيق. وكيف ستنطبع هذه النوستالجيا في ذهن ووجدان المتفرج الذي يكون قد فكَّر، بمجرد بداية العرض، والإمساك بخيوط موضوعه، أنه سينتهي إلى إسقاط ما تبقى من أقنعة على الوجه الزائف لعظمة أمة تُعْرِب كل نبضاتها وسكناتها على نكسة في الصميم لكل مشاريعها كأمة لا يحق لها أن تفرِّط في مكاسبها الحضارية الجمة تحت طائلة الفساد السياسي، والتطرف الديني، وما ينجم عنهما من أسباب الضعف، والانكفاء، والاضمحلال؟
وعطفا على هذا التساؤل، لا بأس من أن نتقاسم جميعا سؤالا آخر حول موقع فننا المسرحي، بما ينتج من تجارب متفاوتة من حيث قيمة منجزها الفكري والجمالي، متجاذبة في رؤاها بين شعريات مسرحية شتى، تتفق، حينا، وتتنافر، أحيانا أخرى، على رقعة وطن يخلخله زمن آخر من رسم الخرائط وتعبئة استبيانات غير معهودة للبقاء أو الزوال؟ وهل ارتقى متفرج هذا الوطن ليفكك أبعاد مسرحية كـ "صدى الصحراء" تقف عند حدود الاحتفاء بزمن الانتصار والمجد ونحت بترا في صلب الصخر تحديا للطبيعة وللكهنة وأعداء بلاد الأنباط؟ بحيث يقرأ، من وراء ذلك الإقصاء المُظهَر للواقع، إضمارا لنقده، واستهجانه، ورغبة حارقة للخلاص من كبواته، وزلاته؟
أم أن مسرحنا من حقه أن يتحرر من خيبات الواقع، وينذر نفسه للفن الخالص اهتداء بوجهة نظر أنطونان أرطو الذي يستنكر حشر هذا الفن في قضايا المجتمع، ويرفض ذلك رفضا باتا لأن هذا التعاطي البراغماتي يشوه أصل المسرح، يقول: « إنني أعي تمام الوعي أن لغة الحركة والإيماءة والرقص والموسيقى أقل قدرة على تحليل المشاعر الشخصية، أو الكشف عن أفكارها، أو صياغة حالاتها الشعورية بدقة ووضوح مثل لغة الألفاظ، ولكن... من قال إن المسرح قد وجد لتحليل الشخصيات، أو لحل الصراع بين الحب والواجب، أو غير ذلك من الصراعات في القضايا ذات الطابع المحلي أو النفسي التي تشغل كل ساحة مسرحنا المعاصر.» 20

لقد سعى المخرج عبد الكريم الجراح ليقدم نموذجا لـ "المسرح الشامل" Théâtre total ، باعتباره عرضا يطمح إلى استعمال كل الوسائل الفنية المتاحة فيُنْتِج، فرجة تستدعي كل الحواس، وتخلق، على هذا النحو، انطباعا بكلية وبغنى دلالات تفتن الجمهور. فالمسرح الشامل، بانفتاحه على مجموع الإمكانات التكنولوجية المتوفرة في الحاضر والمستقبل، لا سيما الوسائل الحديثة للمَكْنَنَة، والمسارح القابلة للنقل Scènes amovibles ، والتكنولوجيا السمعية البصرية، هي رهن إشارة هذا المسرح ليبدع ويبلور رؤاه. لقد حقق بذلك مهندسو البوهوس Bauhaus المخطط الإجمالي الأكثر اكتمالا: « ينبغي أن يكون المسرح الشامل إبداعا فنيا، ومجموعا عضويا من حُزْمَة علاقات بين الضوء، والفضاء، والمساحة، والحركة، والصوت، والكائن البشري بكل إمكانات تنويع وتجميع هذه العناصر المختلفة.» 21

تبقى ثمة ملاحظات حول ما تفاعلنا معه كمتفرجين على عرض "صدى الصحراء"، تتعلق بالجوانب الأدائية والتقنية، ونحددها في ما يلي:
1. التفاوت الواضح بين المستوى الأدائي واللعبوي بين الممثلين اليافعين (الكوريغراف ونقاشو الورد)، والممثلين الشباب (دور الملك، والكاهن، والوزير، وسعدى) من حيث الدربة، وطلاقة الأداء والقدرة على التركيز والانصهار في الدور، والتحكم في تفاصيل الحركات، والإيماءات، والوِضْعات.

2. الخلل التقني الذي أربك، غير ما مرة، العاكس الرقمي الذي كان من المفروض أن يسلط صورة بترا حتى ينتهي العرض من غير أن يعود بالمتفرجين الغارقين في طقوس الزمن النبطي 400 سنة قبل الميلاد إلى سطح مكتب حاسوب في ساحة مديرية الفنون والمسرح مساء الأربعاء 20 نونبر 2013، لأن ذلك بتر سحر الإنصات إلى حقائق تاريخية فذة.
3. الانقطاعات الموسيقية الفجة التي تكررت بسبب ضعف التحكم في سيرورات مصاحبتها لباقي تمفصلات العرض السينوغرافية.

وبالنظر إلى مجموع عروض الدورة العشرين لمهرجان المسرح الأردني الذي شاركت فيه فرق وطنية، وأخرى عربية من تونس والجزائر والسودان والإمارات العربية المتحدة، فإن عرض "صدى الصحراء" يمثل تجربة  انزاحت عن النماذج المكرورة، نصا وإخراجا، فحاولت ضخ دماء حارة في سويداء الإبداع المسرحي، ومنح المتفرج متعة بلون "الورد" ما كان بمستطاعه أن يسعد بها لو تابع "الطقس" داخل الفضاءات المسرحية المغلقة.

الهوامــــش
1- برنامج مهرجان المسرح الأردني العشرين- منشورات وزارة الثقافة الأردنية- 14-22 نونبر 2013- ص 36
2- د. حسن المنيعي- المسرح والارتجال- منشورات عيون المقالات- الطبعة الأولى 1992- الدار البيضاء- ص 55.
3- نفسه ص 55.
4- Patrice PAVIS- DICTIONNAIRE DU THÉÂTRE- Messidor- Éditions Sociales- Paris 1987. P, 69.
5- Ibid, P, 70.
6- Ibid. P, 339.
7- Ibidem. P, 339.
8- د. سعيد علوش- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة (عرض وتقديم وترجمة)- مطبوعات المكتبة الجامعية- الدار البيضاء- الطبعة الأولى- 1984. ص 46.
9-  جاك دريدا -  الكتابة والاختلاف – ترجمة كاظم جهاد – تقديم محمد علال سيناصر – دار توبقال للنشر- الطبعة الأولى 1988 -ص 87 
10  -  مصطفى منصور – مفهوم العرض المسرحي في ضوء التجريب المعاصر – المسرح والتجريب – الجزء الثاني – مجلة فصول – المجلد الرابع عشر – العدد الأول – ربيع 1995  ص 33.
   11 -  Monique BORIS - Antonin ARTAUD  Le théâtre et le retour aux sources- une approche anthropologique-  Editions Gallimard  1989, P 7.

  12 -  Monique BORIS Artonin ARTAUD le théâtre et le retour aux sources P 18.
  13-   جاك دريدا – الكتابة والاختلاف – ص 100 – 101.
 
14- هيروغليفيا أو حرف هيروغليفي  Hiéroglyphe  هي الكتابة المصرية القديمة (الفرعونية) وبالمعنى المجازي يعني هيروغليفي الطلسم أو الخط المبهم أو أمور لا تفهم أي ما يطلق عليه أرطو الإيديوغرام  Idéogramme : بالمعنى اللساني : رمز فكرة أو رسم شيء أو صوت يمثل الكلمة الدالة على الفكرة (المنهل ص 532) ويرى جاك دريدا أن الايديوغرام "هو في بعض نظم الكتابة، كالهيروغليفية والصينية، علامة تعكس فكرة أو حالة، ويمكن أن تصور شيئا أو صوتا يعكس الفكرة. (مثلا : صورة أسد للدلالة على الأسد، ورسم إنسان راقص للدلالة على الفرح). ( انظر "الكتابة والاختلاف" ص 89).
15- جاك دريدا – الكتابة والاختلاف، ص 87.
16- Patrice PAVIS- DICTIONNAIRE DU THÉÂTRE - Ibid, P, 139-140.
17- Ibid, P 150.
18- عواد علي- غواية المتخيل المسرحي- مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الأولى 1997- ص ص 88- 94.
19-  برنامج مهرجان المسرح الأردني العشرين- مرجع مذكور- ص 36.
20-   مصطفى منصور – مفهوم العرض المسرحي في ضوء التجريب المعاصر – مرجع مذكور-. ص  31.
21- Patrice PAVIS- DICTIONNAIRE DU THÉÂTRE - Ibid, P, 414.



تعليقات