الممارسات الفنية المعاصرة واشكاليات العرض

النّدوة السّنويّة للرّابطة التّونسيّة للفنون التّشكيليّة

المُمارسات الفـنيّة المعاصـرة وإشكاليّات العـرض

(سـوسة، في 24- 25 مارس 2018)

إنّ من أهمّ القِيَم المؤسّسة للفنّ المعاصر أنّ العمل الفنّي لم يعد حكرا على عبقريّة المبدع الأصلي، بل أصبح يستمدّ مقوّمات وجوده من عمليّة عرضه أمام الجمهور. وهو ما يجعل من النّظر والمشاهَدة، ثمّ المشاركة، أفعالا من صميم الاشتغال الإبداعي الذي يكُون العمل الفنّي من خلاله عملا فنّيّا. إذ الجمهور لم يعد متقبّلا عرضيّا بل مُتَدخِّلاً في تحقيق ماهيّة العمل، إلى حدّ القول بأنّ هذا النّاظر أو المشاهد هو "من يصنع العمل" بعبارة مارسال دوشمب. كما يجعل من فضاء العرض مسألة أنطولوجيّة تساهم في كيان العمل. وكلّ التحوّلات القيميّة والمفاهيميّة التي أجْـلت طلائعيّة الفنّ المعاصر وشكّلت أطروحاته، تمحورت حول إعادة ترتيب منزلة العمل الفنّي على ضوء منزلةِ كلّ من النّظر والنّاظر، في فضاء ديناميّ حيّ. بينما كان الأمر في السّابق يُعلي جماليّة الإنتاج على حساب رهانات التّلقّي.

وهكذا، لم يعد هناك حديث عن العمل الفنّي إلاّ في حضرة جمهورٍ ما. إذ المعرض الفنّي (أو العرض) يُلزم الفنّان بمواجهته لجمهوره. وهو ما فتح المجال أمام المؤسّسات التي تحترف عرض العمل الفنّي، من أروقة ومتاحف... للمشاركة في تنشيط المسار الإبداعي الذي يخوضه العمل الفنّي ما بين الورشة والوضعيّات التّقبّليّة. فمن دور هذه المؤسّسات هو أن تقترح كيفيّات عرض الأعمال الفنّيّة أمام النّظر... وليس فقط أن تعمل على تسويقها أو صيانتها. بل إنّ سُبل "المواجهة الدّراميّة ما بين العمل الفنّي وجمهوره، في وضعيّة إدراكيّة ما"، بلغة فرانك بوبر، قد انفتحت على مفاهيم جديدة للبيئة الفنّيّة، بحيث وقعت المُراهنة على الفضاءات المفتوحة مثل الشّارع والمواقع الحركيّة للحياة اليوميّة والمكوّنات الفضائيّة للحياة العمرانيّة... حتّى يتغلغل الفعل الفنّي أكثر فأكثر في مشروع النّظر والمشاهدة والمشاركة ويكتسب أبعادا جديدة في قابليّات التّلقّي. وهو ما يفسّر إلى أيّ مدى أصبح الجمهور طرفا منخرطا في صميم المشروع الفنّي الذي يثيره الفنّانون ويقترحه المنظّمون في شكل مؤسّسات خاصّة وعموميّة، ليتموقع العمل الفنّي بين فاعلين متعدّدين. وبالتّوازي، لم تعد علاقة المواجهة تقتصر على ناظر ومنظور إليه أو صياغة ذهنيّة بحسب المسافة المشروطة ما بين ذات وموضوع... بل أصبحت تقوم على لعبة تداخل الأدوار بين العمل وفضاء العرض ومُشاهد في قلب الفضاء الحسّي الذي وقع اختراقه. فكيف سنتحدّث عن حضور الجسد الحيّ في هذه الفضاءات المعيشة المختـرقة من داخل شموليّة التّجربة الإحساسيّة والإدراكيّة؟ كيف يتلبّس الفضاء مختلف المؤثرات البصريّة والسّمعيّة والملمسيّة والمناخيّة التي يحتملها العمل الفنّي؟

هكذا، بمقتضى هذه التّحوّلات، وقع تغيير مراكز الاهتمام الإشكالي من "ماذا أرسم؟"، "ما هو الموضوع الذي أختار؟"، "أيّة تكوينة بنائيّة تقوم عليها لوحتي؟"، إلى مسأليّات أخرى من قبيل "كيف أعرض عملي؟"، "كيف أقول؟"، "كيف أبعث الإحساس وكيف أُثير؟"... ممّا أدّى بالفنّ إلى مُساءلة قدرة فضاءات العرض على تحقيق هذه الرّهانات. فهل العمل الفنّي هو ما يقترح طبيعة الفضاءات ويكيّفها أم هي جاهزة ومتاحة بمعنى هي ما تكيّف طرائق وجوده؟

وأن يتحوّل المشروع الفنّي من بنية للفضاء مغلقة إلى بنية مفتوحة هو أن يتحوّل من منظومة إبداعيّة فرديّة إلى منظومة أخرى منفتحة على أمزجة ذوقيّة واجتماعيّة وجماليّة ونقديّة مختلفة واستراتيجيّات تواصليّة متباينة. وفي هذا التِّيه أو هذا الانزلاق في المجهول، بعبارة أمبرتو إيكو، وما يخلّفه من حالة ارتباك تمسّ منزلة العمل، تُصبح لعبة المواجهة في أمسّ الحاجة إلى الدّور الذي يمكن أن يلعبه الفكر النّقدي، بما هو محرّك للتّفكير في الإنتاج الإبداعي والمعترك النّظري الذي تصاغ فيه نتائج هذه "المواجهة الدّراميّة" وتُحاك فيه مفاهيم الفنّ ومواقفه الطّلائعيّة... ومن ثمّ، أصبحت المُمكنات الإبداعيّة للعمل الفنّي رهينة القدرات الإدراكيّة ثمّ النقديّة، لدى طبقات التّلقي في نشوئها المتحرّك والمُتدرّج (من الجمهور المُشاهد إلى جمهور مشارك فـناقد) وهي قدرات لا تتحقّق خارج مسارات ملائِمة للنّظر في فضاء متكيّف.... فكيف يكون الفضاء من اللّيونة بحيث يمكّن من تكييف المسافات وفق أدوار الخروج والدّخول؟ كيف يستمرّ مسار الإبداع من داخل استراتيجيّات العرض ليمكّن من تفضية المكان وتمكين الفضاء؟ هل يجوز للفنّانين في تونس أن يتحرّكوا في ظلّ هذه المنظومة التّفاعليّة المعاصرة ويواكبوا تحوّلاتها الرّاهنة، داخل بنية العمل، دون التّطرّق إلى بنية الفضاء وطرائق العرض ! ولكن، أيّ فضاء مُتاح لاحتواء هذه المفاهيم؟
                                                       خليل  قويعة

تلك هي المدارات الأوّليّة التي تنتظم على أساسها ندوة "الممارسات الفنيّة المعاصرة وإشكاليّات العرض" بسوسة يومي 24 و 25 مارس 2018، وتتوزّع على المحاور اللتّالية : I

- العمل الفنّي في فضاء متحرّك (من الفضاء الذهني

إلى تصوّر الفضاء داخل المكان المتعيّن والحسّي)

II- تجربة المكان الحيّ بوصفها مكوّنا أساسيّا للتّجربة الفنيّة (تداخل الأدوار)

III- ما الذي يمكن للمؤسّسات الثقافيّة أن تقدّم لكيفيّات العرض الفنّي وكيف يمكن أن تخدم رهاناتها؟ (الموجود والمنشود)

IV- أيّة بيئة فنيّة يمكن أن تتيح مواصلة مسار الإبداع بين الإنتاج والتّلقي والمفهمة النّقديّة؟

V- قدرة المؤسّسة الثقافيّة العموميّة على استيعاب مفاهيم الفنّ الرّاهن وتحوّلاتها؟

VI- تجارب فنيّة تتطوّر ومفاهيم إبداعيّة تتحوّل مقابل منظومة تشريعيّة قديمة وقوانين ثابتة غير مواكبة لنبض الفعل الفنّي وتطلّعات الفنّانين، ما العمل؟


تعليقات