سفر المناهج النقدية ووعثاء التطبيق على النص الادبي العربي


سَفر المناهج النقدية ووعثاء التطبيق على النص الأدبي العربي
- قراءة في تجارب معاصرة -
د. الزهرة إبراهيم- أستاذة باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا- المملكة المغربية
"إذا حصل في الماضي تخلف في مسيرة الثقافة والمجتمع، فكيف يتأتى الاستدراك إذا لم ننطلق من مستوى ثقافي أعلى من مستوى الثقافة الموروثة التي هي بالتعريف مفوَّتة؟"
  عبد الله العروي


يظل النص العربي مرتبطا بمناهج النقد الغربية باعتبارها مرجعية عالمية تفتح قراءته على كونية الفكر. فما هي مدخلات المشاريع النقدية العربية لاستثمار هذه المناهج، في تلقي النص وتأويله، من غير أن يفقد خصوصيته؟ وماذا عن مخرجات استنبات هذه المناهج وتخصيبها في تربة النص العربي؟
مؤسسة الأدب ومأساة الجنائز

مؤشر أول- "الأدب في خطر": هكذا يستنكر تزفيطان تودوروف T. Todorov ما يدمر الأدب بشكل رسمي. تدمير يبدأ في مؤسسات التعليم الثانوي الفرنسي ويستمر في الجامعة. إن ما يحصل هو اختزال الأدب بشكل عبثي يَنْتَبِذُ جانبا رسالته الإنسانية، ليركز على قضايا شكلية وتقنية تدخل في مهام النقد، ذلك أن «قراءة القصائد والروايات لا يسوق إلى التفكير في الوضع الإنساني، والفرد والمجتمع، والحب والكراهية، والفرح واليأس، بل التفكير في مفاهيم نقدية تقليدية أو حديثة. في المدرسة، لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية وإنما عن ماذا يتحدث النقاد»1.

مؤشر ثان- خدعة سوكال: "المحتالون بالثقافة: سوء استخدام فلاسفة ما بعد الحداثية للعلم" "INTELECTUAL FRAUD"، عنوان كتاب ألّفه، سنة 1997، الأمريكي ألان سوكالSokal  والبلجيكي جان بريكمونتBricmont ، وهما من كبار أساتذة الرياضيات والفيزياء عبر العالم. سَعَيَا فيه إلى «أن يوضِّحا أن مفكرين ونقادا ومثقفين مشهورين من فلاسفة ما بعد الحداثية يستخدمون في كتاباتهم، وبشكل متكرر المفاهيم والمصطلحات العلمية بطريقة خاطئة بل وجاهلة، إما باستخدام أفكار علمية خارجة عن السياق تماما ودون أي تبرير، أو إنهم يلقون باللغة الاصطلاحية العلمية أمام القراء-غير العلماء بالطبع- دون اعتبار للمقام أو حتى للمعنى الذي يريدونه. مما يجعل كتاباتهم بلا معنى أو تحمل مفاهيم خاطئة»2 ومن بين هؤلاء جاك لاكان Lacan، وجوليا كرستيفاKristeva ، وفليكس غاتاري Guattari، ولوس إريغارايIrigaray ، وجيل دولوزDeleuze ، وبرونو لاتورLatour ، وجان بودريار Baudrillard.

نلتقط هذين المؤشرين، لنتساءل: ما موقع مؤسستنا الأدبية العربية داخل هذا المشهد المريب؟ وما وضع المنهج النقدي حين يسافر إليها من أنساق حضارية أدبها في خطر، ونظرياتها الأدبية مطعون في صحة عدد من المفاهيم العلمية التي رَوَّجَتْها مناهج نقدية، خرجت من رحم النظريات نفسها؟ هل تملك الممارسة النقدية العربية مصافي تقيل أدبنا عثرة الانتهاء إلى شيء اسمه "اللامعنى"، وتضمن حضوره الفاعل ضمن مكونات البنية الفوقية بما يستجيب لانتظارات مجتمعاتنا، كما تؤكد دوره في بناء الإنسان وتنميته، أم أن أعاصير النظريات ومناهجها ستأتي على أخضر المؤسسة الأدبية العربية ويابسها؟
تتفاعل نظريات الأدب، ثم تفرز مناهج نقدية تقترح جاهزيتها لتمارس سيرورات البناء والهدم في معمار الأدب. جهد لا يفتر ولا يلين، ويستتبع، على الدوام، خسائر معنوية وبشرية، أدخلت عشيرة الأدب في طقوس جنائزية متتالية، منذ أعلنت نظرياتُ الأدب المتأخرة "موت المؤلف" و"موت الناقد"، ثم اخْتُتِمَ المشهد المأساوي بنعي اسمه "موت النظرية".
سفر المناهج ووعثاء التطبيق على النص العربي

يوجهنا هذا الواقع، قبل الحديث عن سفر المناهج النقدية ووعثاء تطبيقها على النص العربي، إلى سلسلة أعطاب تعرقل هذا السفر. يبرز، أولها، في الاستيراد المُطَّرد لمصطلحات محض علمية، وإسقاطها على نص إبداعي لا ينتمي حقيقة إلى البنية التاريخية التي أنسلت النظرية الأدبية من رحم النظريات الفلسفية، وفلسفة علم الجمال، وتاريخ الأفكار، متأثرة في ذلك بسلطة العلم وجنوحه نحو التفريع والتدقيق. فقد شاع تداول سجل علمي من قبيل: "الأنواع الأدبية، و"السلالة الأدبية" المستوحى من الداروينية، ثم ما جاد به حقل الفيزياء وعلوم الحياة والأرض من معجم خاص، تلقفه النقد الأدبي، مثل: "التشاكل واللاتشاكل"، و"التفجير"، و"الدينامية"، و"الانتشار"، و"الانشطار"، و"التشظي"، و"التشعيب"، و"التشذير"، و"الهيولى"، و"التناسل"، و"البؤرة"... أما ثانيها، فيحصل أثناء السفر، تحديدا، عند بوابة العبور من خريطة حضارية إلى أخرى. ويتبدَّى ذلك على مستويين: مستوى ترجمة هذا المصطلح إلى اللغة العربية بافتراض مزالق الترجمة، ومستوى فهم الناقد العربي الجذور العلمية لهذا المصطلح، في حقله الأصل، ثم في النسق النقدي الموظف فيه، وكذا علاقته بباقي المصطلحات المشتغلة ضمن النسق ذاته.

فإذا كانت النظريات الأدبية الغربية تستمد مصداقيتها من دقة العلم، ومن مخزون مصطلحاته، فإن إغراقها في توظيف هذه المصطلحات يحول دون فهمها بوضوح من لدن الكاتب والناقد والقارئ، ثم استعمالها دون تمكن من معناها الحقيقي الذي يتزحلق من حقل العلوم الطبيعية نحو حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية «دون أي مبرر تجريبي لهذا الاستخدام، وتُفْرَض على القراء دون شرح أو تفسير»3.
الناقد والمنهج وضغط الأنساق

انتقينا، لدراستنا، ثلاثة مشاريع نقدية معاصرة مست جوهر الثقافة العربية، وشكلت نقاط تحول قوية في مساءلة الذات، والعقل، والإبداع، والتراث، والمجتمع، والتاريخ وعلاقة ذلك بالمنجز المعرفي بافتراض أدوات منهجية لقراءة مغايرة، ثم الإجابة عن أسئلة، كانت ولا تزال، عالقة لصعوبة الحسم فيها.

بشَّر المشروع الأول، لدى طه حسين، بثورة جريئة انطلقت من دائرة الأدب لتلج دوائر أخرى أوسع، بل أشد تعقيدا ومجازفة في ثقافتنا. وسلك المشروع الثاني لمحمد مفتاح نفس مسار سابقه من حيث النظر الشمولي لمجموع الأنساق، لكن بتمثلات منفتحة على حقول معرفية شتى، ومناهج متماحكة. واختط المشروع الثالث، لعبد الله الغذامي خرائط ناتئة، عما تعوَّده النقد الأدبي الكلاسيكي المسطَّح، لفهم العالم بواسطة الأنساق المضمرة في الثقافة. ولكل مشروع ما يسوِّغه فكريا، وتاريخيا، وإيديولوجيا.

يُمثِّل الكشف عن كيفية اشتغال المناهج النقدية على النص العربي، ضمن مشاريع هؤلاء، مطلبا رئيسا. فقد حصل استيراد هذه المناهج من منظومة شادها الفكر الإنساني منذ الأزل. وبالنظر إلى خصوصية هذا النص- المنبثق من رحم ثقافة ماضوية تتجذَّر في الحاضر، وتتدخل بسلطة مكينة لرسم ملامح مستقبل مجتمعات تظل، في أحسن الأحوال، منفصمة الوجود، والكينونة، والاختيارات بين حدَيْ الأصالة والمعاصرة- فإن الجمع بينهما، أي المنهج النقدي الغربي والنص العربي، يضع على طاولة التشريح تحديا دقيقا يتمثل في صرامة المنهج، وممانعة جسد النص وروحه، ومدى كفاءة الناقد في إحراز نجاحِ مهمةٍ تبدو ثقافية أكثر مما هي نقدية. إذن، يتوقف رهان النقد الأدبي على دبلوماسية ذكية بين النص العربي والمنهج، وبين الخلفيتين الثقافيتين لكل منهما.

النقد والنص العربي بين المتجانسhomogeneous  لغويا والمُتَنَاتِل heterogeneous ثقافيا

ولئن شكل النص الأدبي، قبل غيره من النصوص، منطلقا أساسا، تتأكد فيه وحدة المعطى اللغوي الذي يمنح مساحة مريحة لقراءته انطلاقا من عناصره، ومن الوظائف اللغوية المرتبطة بها، إلا أن ثمة معطيات، ظاهرة وخفية، وثمة منظورات تقليدية وتجريبية، تتدخل لنسج خيوط النص، أو لحلها، لبناء معناه، أو لتفكيكه. فهذا الوضع المتداخل لغويا وثقافيا يوسِّع صلاحيات الناقد، فلا «ينحصر في مجال النقد الأدبي والفني فحسب، بل يشمل أيضا شق القنوات الثقافية والحضارية التي يجب أن تتدفق فيها التيارات الفكرية المتجددة صوب آفاق العصر»4 مستعينا في ذلك بِتَحْيِين  مُقَدَّراته الفكرية حتى يتجاوب مع مجموع حقول المعرفة التي امَّحَتِ الحدود التقليدية فيما بينها. فهل سيظل مطلب الناقد -المشتغل بمناهج أنتجتها عصور الحداثة وما بعد الحداثة- هو تأكيد خاصية الانسجام في النص العربي على مستوى لغته ومضمونه الثقافي الظاهر والمضمر، كملمح لانسجام ثقافة بكاملها، أم أنه سيُخْلِص لمبادئ الاشتغال العلمي بالمنهج كما هو في الأصل، مهما نتج عن ذلك من خلخلة للنص وللأنساق، على مستوى الفكر والواقع، داخل مجتمع ليس مهيَّأً، بَعْدُ، لهذا النوع من الارتجاج المنذِر بالتغيير؟

يشكل المنهج النقدي طاقة دافعة في هذا الحراك. وحيث يعوِّل الناقد على قدرته في تجريب أدوات تتسم بالشمولية، فإنه لا يَأْمَنُ كثيرا مفاجآت النص، ومحصَّلات القراءة. كما لا يمكنه الاطمئنان إلى معطيات مرحلته التاريخية، فكثيرا ما عرَّى النقد الأدبي أنماطا في التفكير، وفي التعاطي مع قضايا وظواهر ما كان يُحْتَمَلُ الجهرُ بها في غياب هذا النقد.
لم يكن قَدَر الناقد العربي أقل وطأة من نقاد الآداب قديما وحديثا. إذ يكفي أن ينتمي الأدب إلى البنية الفوقية لكي يصير متورطا في شبكة تفاعلات معقدة، تتحكم في صيغ وجود الأفراد والجماعات. من هنا تنكشف الوضعية الحرجة للناقد الذي يعي، فور التحامه بالعمل الأدبي، أن مهمته أشد جسامة، فهي تستدعيه لملاحقة جملة من الأنساق المتدخِّلة- بمحاباة أو بمعاداة، وأحيانا، بتواطؤ- في تشكيل هذا العمل، وبعد ذلك التبرؤ منه، ليجد نفسه وحيدا في مواجهة سلطة النقد، وقسوة ملاقط حقيبتها التشريحية التي قد تستأصل أشياء وتزرع أخرى. وتهيئه ليستوعب خطابات نقدية قوية، تفصم عراه بالسابق.
طه حسين من سؤال المنهج إلى سؤال الثقافة

بدا ملزِما، في ظل مد إمبريالي، أن ينخرط النقد الأدبي في قضايا التحرر من سلطة الأنساق الخارجية والداخلية. في هذا المناخ، برز في مصر مشروع طه حسين النقدي متزامناً ومشروع التحرر منذ الثورة العرابية سنة 1882 حتى 1923 تاريخ إعلان دستور للبلاد. وبالتالي، لم يكن من اليسير على مثقف مثله أن يطمئن إلى مشروع يريد التحليق في أفق حر يُبَشِّر بممكنات النقد، من دون الانتباه إلى الدوائر التي تحتضنه، وتتقوى حدودها لترسم أمامه خط سير حتمي ينبغي السفر عبره. لقد كان التحدي الأول هو شق طريق سالك نحو مساحة فكرية متحررة، أنّى يتسنى له تحقيق بعض من الغايات التي سوَّغت قناعاته، وحكمت تصوره، منذ البداية، ليكون ناقدا جديدا، بل استثنائيا، في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ مصر والعالم العربي. وعى طه حسين الفرق الفكري بين منظومتين في الفكر، تستفيد، أولاهما، على خرائط الغرب الأوربي والأمريكي، من حصائل الاجتهاد البشري، فلا تكف ترتقي بها في مجالات شتى، وتستشرف مستقبلا قوامه البحث المنهجي عن بدائل ناجعة في كل المجالات. بينما ركنت، ثانيهما، إلى التأسف على ماض متألق، حال بينها وبين ولوج مستقبل يتحكم فيه هذا "الآخر" الذي ترفضه، بل تعاديه.

نكون مخطئين إن اختزلنا مشروع طه حسين النقدي في عدد من كتبه التي كانت مثار جدل إيديولوجي أكثر مما هو أدبي5. لا سيما كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أثار حفيظة المؤسسة الدينية. فبموازاة مع هذه المؤلفات النقدية، جاءت، بين الفينة والأخرى، كتب6 تعبِّر عن ضرورة فكرية لصاحبها، لا يستقيم المشروع النقدي للأدب من دونها، ومن دون المدد الفكري والتربوي والأخلاقي الذي تَسْنُدُهُ به داخل نسق حضاري يمور بتحولات سريعة وعميقة.
تتمثل الكتابات التأسيسية7 لهذا المشروع في: "حديث الأربعاء" و"في الشعر الجاهلي" الذي تحول إلى "في الأدب الجاهلي"، و"حافظ وشوقي"، ثم بنسبة أقل "من حديث الشعر والنثر". فالخيط الرفيع الذي ينتظم هذه الكتب يدور حول سؤال جوهري هو: كيف السبيل إلى إعادة صياغة التاريخ الأدبي العربي بخطة وأدوات منهجية علمية غربية؟

انتقى طه حسين لمشروعه المنهج التاريخي المرتكز على فلسفة ديكارتية، ترهن وجود الأشياء والظواهر إلى مبدأ الشك قصد التدرج نحو النفي، أو الرجحان، أو اليقين، وذلك بعد أن وسَّع حفرياته حول عملية تأريخ الآداب الأوربية القائمة على تمحيص الآداب الإغريقية والرومانية، ثم تنقيتها بالمبدأ ذاته. فقد تأكد من نجاعة هذه الخطة في إعادة بناء منظومة كل الآداب العالمية، حجته في ذلك ما أكده تاريخ الأمم من عبث الغالب أدبيا بتراث الغالب عسكريا. ويمكننا باللغة العولمية أن نسمي هذا الفعل "القوة الناعمة" soft power التي تنتقم، بشكل مستتر، من ثقافة الأقوى في الحرب الميدانية، فتُبدِّد الأنساق المهيكِلة في مجتمعه، وثقافته، واقتصاده من غير عنف معلَن، من ذلك أن «اليونان والفرس أخذوا الرومان والعرب بآدابهم وحضارتهم، ولم يكتفوا بذلك بل عبثوا بالآداب اللاتينية والعربية (..) إذاً من الحق علينا أن نشك في أخبار هؤلاء الرواة حين يَرْوُونها واثقين، وأن نبالغ في الشك حين يَرْوُونها متحفظين، وأن نشتد في المبالغة حين نراهم يختلفون فيما بينهم في أمر المجون»8. ولئن اعتد طه حسين بمبدأ الشك الديكارتي، فإنه ينفتح على علم الاجتماع الخلدوني القائل بقانون التشابه والاختلاف ليقيس صحيح الشعر من منحوله. فهو بهذا الجمع بين نموذجين رائدين من التفكير حول مسائل العقل وضوابط الحياة الاجتماعية، يزرع بذور الثورة العقلانية ضد أنساق ثقافة امتثالية لمجتمع يعيش «صراعا بين ثقافة السطح وثقافة العمق، ثقافة الاستهلاك وثقافة الإبداع، ثقافة المتاجرة وثقافة المغامرة، الأولى تجمع وتكدس، وتعتبر الأشياء لذاتها بذاتها، والثانية تفجِّر وتغيِّر وتَتخطَّى وتَعتبِر الأشياء رمزا لما هو أعمق وأسمى»9.

يحرص الناقد على الحسم في مسألة نحل الشعر بالتماس أدوات علمية صارمة تبتعد عن الرجم بالغيب، أو اجترار أحكام سابقة أساسها ذوق شخصي أو انطباع طارئ. وقد يكون نظرنا إلى حرصه المنهجي هذا ناقصا لو ربطناه بمساءلة مصداقية الشعر الجاهلي فحسب، لأن طه حسين-المتشبع بمبادئ الثورة الفرنسية- يؤطر هذا النظر النقدي، في مقدس العرب الشعري والديني ككل، ضدا عن هيمنة الأنساق التقليدية المتمثلة في الأزهر والدولة، لينعم المجتمع بثمار العقل المجتهد علميا وعمليا، ويمتلك، بالتالي، أدوات نقد هذا العقل.

لا يتعلق مطلب هذا المشروع بإعادة تأريخ الأدب العربي فحسب، بل ينحو في اتجاه خلخلة الأنساق المهيمنة على الدين والسياسة والتعليم والعلاقات الاجتماعية، وما يتقاطع داخل بنياتها من تمثلات يصعب تفكيكها، أولا، لتجذُّر النماذج الماضوية في الفكر وأسلوب الحياة، وثانيا، للنبذ المضمَر والمعلن لنموذج، بشر به طه حسين، لكن رآه غالبية الناس، وقتذاك، مروقا عن العقيدة وثوابت الأمة في مرحلة تاريخية موسومة برفض كل ما يرتبط بالمستعمِر. من هنا، شكل المساس بالمقدس الشعري صَفَّارة إنذار نَبَّهَـتْ إلى احتمال المسِّ بالمقدس الديني، ما دام الشك، في رواية النص الشفهي، ممكنا انطباقُه على الشعر كما على القرآن، وذلك من منظور منهج تاريخي مسلح بالشك الديكارتي. فهل كان من اليسير على هذا المشروع النقدي أن يزعزع مقدسا ثقافيا قوامه الشعر والقرآن المتوحدان في مقوِّم اللغة العربية، هذه اللغة التي قفزت في تلك المرحلة التاريخية إلى واجهة ثوابت الأمة، وأصبح كل خروج عن بنياتها ورمزيتها مثار جدل ورفض، لا سيما إذا برزت لغة المستعمر في خلفية المشهد الذي يقترح توظيف أدوات غربية جديدة من أجل قراءة سابرة للنص العربي.

لم يغفل طه حسين هذا الوضع، بل استوعبه بكيفية بدا، من خلالها، نموذجا للمثقف الليبرالي الذي وعى البنية التاريخية التي يتحرك فيها، وحرص على أن تأخذ كل كتاباته موقعها ضمن الصراعات السياسية والإيديولوجية بشكل يدعم مشروعه النقدي، ويساعده على تجاوز عثراته وربح رهاناته.
من نمذجة المنهج إلى تجريب المنهج

يؤسس طه حسين خطابه على مفاهيم جديدة من قبيل "النقد الصحيح" الذي ينأى بالقارئ المتخصص عن إصدار أحكام لا تعتدُّ بسند علمي، وتجتر أحكاما سابقة لأنها أغلقت باب الاجتهاد في الأدب، كما حصل في الدين، وليُخرِج النص العربي من دائرة المدح أو الذم إلى قراءة ترتكز على منهج تاريخي يرصد تطور الظواهر الأدبية غير معزولة عن محيطها الحضاري، حيث «إن الحوادث السياسية ليست إلا نتيجة لتغيرات في أفكار الأمة وشؤونها، وتلك التغيرات نتيجة لتغير الأحوال الأدبية»10.

يحسم، لهذا الاختيار النقدي، خطة يلزم نفسه والآخرين بها «يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به (...) يجب أن لا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح»11. في ضوء هذه القناعة، ينتقي عُدَّةً علمية قوامها علوم الآلة، كما تشربها من أستاذه سيد علي المرصفي، ثم أدوات تفسير النص لاستنباط حقائقه وتقديم قراءة جديدة له، مسترشدا بخطى أستاذه المستشرق الإيطالي كارلو نللينو C.Nallino، فحصل بهذا الجمع تحقيق "قراءة ثنائية"12 لم تبخس، علميا، أيا من الأنساق الثقافية التي يمكن للنص العربي أن يستفيد منها، لكنها تسلط الضوء على جدل قديم جديد، يخص توزع الثقافة العربية بين حدَّي الأصالة والمعاصرة، فتبدو هذه "الثنائية التوفيقية"، إن شئنا التوصيف، مُخِلَّة بخطة القراءة التي يَحْدُثُ شرخ في بنيتها، بسبب الجمع بين قراءة تبسيطية، تفتح مستغلقات النص بمفاتيح لغوية تقليدية، وقراءة تركيبية، توظف العقل لفهم أنساق كبرى، كما حدث في أولى محطاته النقدية مع أبي العلاء المعري13.

لم يقنع صاحب هذا المشروع بتجريب خطط المفكرين الفرنسيين- الذين اجتهدوا لتأريخ الآداب الأوربية على منهج علمي مُشْبَع بأفكار الداروينية- كل بطريقته14، بل اتسعت رؤيته ليصهرها، ثم يصوغ منها أدوات تتوافق وطبيعة النص العربي، فالناقد، في نظره «لا يقنع بما كان يقنع به سانت بوڤ أو تين أو جول لومتر أو غيرهم من النقاد، وإنما يود لو استطاع أن يُوَفَّقَ إلى هذا كله، ويستخلص منه غرضا شاملا يطلبه ويسمو إليه حين يَنْقُدُ فيَفهَم شخصية الشاعر أو الكاتب وعصره وفنه»15. من هنا ينطلق ليُبَنْيِنَ المنهج التاريخي الخاص بمشروعه النقدي وفق ما تسمح به الأنساق المتشابكة داخل دائرته الثقافية. فقد حَدد مداخل دراسة النص الأدبي (الشعري) في: 1- المكان، 2- الزمان 3- الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويبدو هذا المدخل الثالث مغايرا لمدخل الجنس أو العرق، حسب ما جاء عند "تين" Taine. كما أنه يذهب إلى أن نظرية الجبر التاريخي تقوم على أساس فلسفي وديني، خلافا لـ "تين" الذي يقصرها على أساس فلسفي16. فهل نعلل تصرف طه حسين في مفاهيم "تين" بتحفظه من مفهوم "العرق" أو "الجنس" نظرا لحمولته العنصرية، حتى لا يقال: "عبقرية عاربة" و"عبقرية مستعرِبة"، ثم بابتعاده عن النظرية الداروينية القائلة بتطور الإنسان من القرد، لأن ذلك يتنافى وعقيدة الإسلام؟

يُلِحُّ طه حسين على تنزيل مصطلحات جديدة إلى حقل النقد الأدبي العربي من قبيل "العقل" و"المنطق" و"النقد الصحيح" و"قوانين البحث"، وينمذج منهجا خاصا، يبدو مُؤَمْثَلاً أكثر منه واقعيا، يتغيا به احتواء هذا الكل المنهجي الذي تطور طيلة قرون، بشكل اختزالي وتكييفي. إذاً، كيف تتحقق العملية النقدية بمقتضاه؟ فهل يُسْلِم النص العربي عنانه لمنهج يقدم نفسه صافيا بصيغة المفرد، لكنه جَمْعٌ هجين على مستوى المنظورات التي لم تكن قط محط اتفاق بين أعلام المنهج التاريخي للأدب، أنفسهم؟17 فهل كان بإمكان الناقد المجرِّب أن يلج النص من هذه البوابات مجتمعة، ويصل إلى نفس النتائج التي تحققت، علميا وتطبيقيا، لدى هؤلاء المفكرين النقاد مع نصوص ثقافتهم الغربية؟

يشكل الابتسار الزمني للبنيات التاريخية، التي شهدت ميلاد وتبلور عدد من النظريات الأدبية ومناهجها، واحدة من مزالق الاشتغال النقدي في مشروع طه حسين. يتعلق الأمر بتاريخانيةHistoricism  مفْرِطة اختزلت قرونا من التفكير الفلسفي، والتنظير الأدبي لتسترفد أدوات منهجية جاهزة، تقرأ بواسطتها النص العربي وتُؤوِّل معانيه. إنها التاريخانية، التي يراها عبد الله العروي إجراءً من أجل «الرد العلمي على التخلف بنواحيه، إذ هي بمثابة برنامج جامع الأبعاد للنهوض بالمجتمعات المتخلفة- والعربية تحديدا- من وضعٍ سِمتُه الأساسية التأخر قياسا على تاريخ ناجز. التأخر التاريخي هذا، أي تَحَقُّقُ التاريخ في أوربا وفواته في العالم الثالث»18. فبالإضافة إلى مشكل التاريخانية، تتبدَّى احتمالات موضوعية إضافية لتَعَثُّر المنهج داخل مناخ فكري وديني واجتماعي، لم يكن مهيَّأً، بما فيه الكفاية، لهذا المشروع. نستدل عليها بارتفاع عدد الأصوات المعارضة، بل المعادية له، خصوصا داخل مؤسسة الأزهر، فالتزام طه حسين «بالأطر المرجعية الأوربية التي ظل معتمدا عليها، غير مفارقٍ حدودَها ومبادئَها»19 لم يصمد طويلا، خاصة فيما يتعلق بدعوته القوية لاستنبات فكر علماني يفصل بين الدين وقراءة الأدب، وفي ذلك بتر لتطبيق المنهج الديكارتي في فحص التراث العربي وتأريخه، كما اعتزم في بداية مشروعه النقدي. ينطوي هذا التراجع القسري عن تطبيق خطة الاشتغال الأولية، على «أن القدرة على التعامل مع الآخر والاستفادة من أفكاره تحتاج إلى بيئة ثقافية ديموقراطية غير موجودة على الإطلاق في العالم العربي»20.

داخل هذا الافتراض العلمي، يَلْمَحُ شيء من التراجع المنهجي من خلال قراءة تجربة أبي العلاء الشعرية. فبعد أن أقَرَّ وضع خطة دقيقة في كتاب "تجديد ذكرى أبي العلاء"، وشدد على نهجها، والالتزام بأصولها «حتى كاد يكون الكتاب نوعا من المنطق، أو هو بالفعل منطق تاريخي أدبي، ليس فيه حكم إلا وهو يستند إلى مصدر، ولا نتيجة إلا وهي تعتمد على مقدمة»21. نجده، وهو الناقد الحريص على منطق التاريخ الأدبي، يتحرر من صرامة المنهج العلمي ليؤشر لنقد انطباعي، يقوم على الذوق الخاص به فيتماهى مع الشاعر، ويُسقِط ما بينهما من مسافات موضوعية، حتى لَأَنَّه يصرح بمشاعره الجياشة حيال "اللزوميات" «إني أحببتها وكلفت بها»22، مؤكدا بذلك رأيه في «أن تاريخ الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها، وإنما هو مضطر معها إلى الذوق»23، وهكذا يلتمس أعذارا للشاعر، مصدرها العطف والإعجاب الناجم عن تضامن نفسي بين شخصين استثنائيين قهرتهما عاهة فقد البصر: «قد نحتاج إلى شيء من الجهد لنسيغ هذه الأبيات (...) أتراه في اللفظ الذي مهما يكن حظه من التكلف فإن له من الجزالة حظا يرضي به ذوقنا، أتراه في الأسلوب الذي مهما يكن حظه من الالتواء فإن فيه ما يصور جهدا محببا إلى النفس مثيرا لعطفها وإعجابها»24. فأين نحن من النقد اللاذع الذي واجه به طه حسين غيره من النقاد، أمثال مصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهم ممن اعتمدوا ذوقهم الشخصي في تقييم الأعمال الشعرية والنثرية؟ فيكون بذلك مخلاًّ بمبدأ "التأثر الموضوعي" الذي قال به غوستاڤ لانسونG.Lanson . هنا، يحق طرح السؤال الآتي: هل التزم طه حسين بصرامة المنهج فقط في المشاريع النقدية التي شكلت أطاريح بحثه الأكاديمي المُحَكَّم من لدن الجامعة؟ أو تلك التي اختارها في بداية تأسيس مشروعه النقدي لينزل بقوة إلى ساحة النقد، كما تؤكد ذلك كْرُونُولُوجْيَا إصداراته؟ أم أنه يتراجع، ثم يسير على نهج لانسون، الذي استنكر التطبيق المتصلب لأدوات المنهج العلمي، كما برزت في أعمال "سانت بوڤ" Sainte-Beuve و"تين"، ونادى بأخذ روح العلم فقط؟

ظل طه حسين طيلة مشروعه النقدي مصغيا إلى إيقاع النقد في الغرب، خصوصا في فرنسا. ونراه يُلْمِعُ في دراسته "مع المتنبي"، أواخر ثلاثينات القرن الماضي، إلى احتمال انتقال النقد العربي نحو تجريب المنهج البنيوي المتبلور، وقتها في أوربا، انطلاقا من تجارب الشكلانيين الروس. فقد تبدت لديه إمكانات مغايرة لقراءة النص الشعري متحررا من مادة تاريخ الأدب، إذ «ليس المهم هو أن نفسر الشعر بما فسره المتنبي نفسه من أحاديثه ودروسه بعد أن هرب من مصر، ولا أن نفسر الشعر بما فسره به الشُّرَّاح الذين سمعوا المتنبي وتأثروا بحديثه (...) وإنما المهم أننا ظفرنا بهذا الشعر غفلا من كل تفسير، ولم نعلم من أمر قائله والمقول فيه شيئا»25 فما المفهوم النقدي الذي توحي به عبارة "الشعر الغفل"؟ أيكون صاحب هذا المشروع النقدي يتطلع إلى نسخ المنهج التاريخي ليَدْخُل تجربة ناسخة قوامها المنهج البنيوي؟ ربما يكون ذلك واردا لديه، وإن لم يعلن عنه صراحة، فربما، يكون قد فطن إلى أن النقد العربي لم يستوعب، بَعْدُ، منجزه بواسطة المنهج التاريخي. لكننا لا نستبعد على تجريبيٍّ مثله أن يكون جريئا في مواصلة السير على خطى مؤسسة نقدية غربية، لا تتوقف كشوفاتها العلمية في حقل الأدب، بل تتجاوز المناهجَ التأويلية في دراسته «بدءا من التاريخ الأدبي والثقافي إلى المناهج الاجتماعية والنفسية وحتى الجمالية، والتوجه صوب مزيد من الاستقراء العلمي والموضوعي للظاهرة الأدبية، مع فتح الباب لإثارة الأسئلة حول مصادراتها والمسكوت عنه فيها»26. 

محمد مفتاح أية هندسة فلسفية لتشييد إبستمولوجيا أدبية؟

يثير انتباهنا، حين نستعرض منجز محمد مفتاح النقدي، تنوع المتون الثقافية وقوة حضور المصطلح العلمي الذي نبَّه، ألان سُوكال وجان بْريكْمونْت، إلى مخاطر إقحامه في حقل النقد الأدبي. فهل يُصَنَّفُ محمد مفتاح ضمن الأسماء التي أساءت فهم المصطلح، ووظفته اعتباطا في كتابات غزت عالم الفكر، وأربكت علاقة الباحث والمتلقي بالعلوم الإنسانية، أم أنه متحكِّم في عدته المصطلحية، علميا وأدائيا، بكيفية صحيحة تخدم قراءة النص العربي، نقديا؟
يؤطر محمد مفتاح مشروعه النقدي داخل فلسفة انتظام الكون التي «دافعت عن تداخل الأنظمة واتحادها وانسجام عناصرها، وتشابه بعضها واختلاف بعضها، فإن الفلسفة الوضعية قد دعت إلى ضرورة خلق "وحدة تركيبية" بين جميع العلوم (...) من أجل دراسة "التعميمات العلمية" المستندة إلى عدم التقيد بتخصص محدد، وذلك بالبحث عن المبادئ العامة المشتركة بينها»27، كما ينتصر لفلسفة التماثل التي هي أساس فلسفة الاختلاف، إذ بالرغم من وجود تباين وتفاوت وصراع بين البشر حول منافع ومصالح تفرقهم، إلا أن ثمة «بنيات عميقة مشتركة»28 توحد بينهم. ولكي ينسجم مع توجهه الفكري على مستوى منجزاته النقدية، فقد أشاح بنظره عن عقلانية محمد عابد الجابري التي راهنت على المنطق البرهاني، ونبذت، جانبا، المنطق البياني والعرفاني بصرامة لم تراع الخصوصية المحلية للثقافة العربية، عموما، وللمجتمع المغربي، خصوصا، لا سيما أنها ثقافة يتراجع فيها العقل لصالح البيان والعرفان.


تطبيقات مفتاح النقدية: أي تسويغ لمخططات القراءة؟

يتأسس مشروعه، انسجاما مع ما سبق، على مبدأي الشمول والتنوع. يتمثل ذلك، أولا، في تنويع مرجعياته المعرفية الغربية التي تخص بنيات الفكر منذ القديم حتى ما بعد الحداثة، وثانيا، في الاشتغال نقديا على متون «تراثية وحديثة، تنتمي لحقول دينية وشعرية وحكائية وموسيقية وتاريخية وفلسفية»29 تمس معظم بنيات الثقافة العربية الإسلامية وعصورها. ويكشف تَدَرُّجُ مشروعه أنه انتقى لكل عمل نقدي منهجا يستجيب لخصوصيته. فقد وظف المنهجين الاجتماعي والتاريخي في تحقيق شعر لسان الدين بن الخطيب، والمقاربة الأنثروبولوجية لقراءة الخطاب الصوفي، والسيميائيات في دراسة الشعر وتحليل خطابه كما في "سيمياء الشعر القديم" و"تحليل الخطاب الشعري"، بينما سيتحول في كتابه "دينامية النص" نحو محطة تجريبية مهَّد لها بفرش نظري متكامل، يضيء للقارئ سبل التناول العلمي المُقْنِع «لأن غياب الخلفيات والنظريات والمناهج كثيرا ما أدى إلى مماحكات لفظية واهية الأسس عديمة الجدوى»30. وسيشهد المشروع تحولا قويا في "مجهول البيان" و"التلقي والتأويل" اللذين أعلن بهما خطة مغايرة من أجل «إعادة النظر في التصنيفات البلاغية القديمة، وفتح الدراسات العربية على آفاق تستمد مقوماتها من علم النفس والذكاء الاصطناعي والبلاغة العامة وغيرها من الاجتهادات المنهجية الحديثة»31 التي ستواصل، بمفاهيمها العلمية (الاتساق، الانسجام، التفاعل، التشاكل، التناغم، الدينامية، التوازي، التشعب، التناسل) حضورها داخل كتبه اللاحقة "التشابه والاختلاف"، و"المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي" و"النص: من القراءة إلى التنظير"، و"مشكاة المفاهيم"، و"الشعر وتناغم الكون: التخييل، الموسيقى، المحبة" و"رؤيا التماثل" وغيرها.

يحترز محمد مفتاح كثيرا من متاعب تناول النص الأدبي العربي بنظريات غربية، ومن تشريحه بمصطلحات العلوم البحتة والتجريبية، من غير أن يستحضر خصوصياته في التشكل والامتداد. لذلك يحرص، في خطاباته المقدماتية ومداخل كتاباته32، على تسويغ اختياراته، وتسمية مرجعياته، وتفسير مصطلحاته ليعفي القارئ العادي والمتخصص، معا، ممّا يسميه "مشاق ومزالق". بل يبذل جهدا معتبرا لتيسير اشتغال المفاهيم في تجاربه النقدية لأن «ما يحكمها هو التطوير والتكييف وعدم الاكتفاء باستنساخها واجترارها، وأن هذا التكييف مقيَّد بطابع التركيب بينها، وأن هذا التركيب مقيَّد بشرط توافق أسسها المرجعية وخلفياتها الإبستملوجية»33.
المنهج عند محمد مفتاح انتقائي أم تلفيقي؟

يدرك الناقد مدى الهوة التي تفصل فلسفيا وعلميا بين موطن النظريات التي تَشَرَّبَها، والمناهج التي نَقَّب في أصول مصطلحاتها، ورَصَد تاريخ اشتغالها داخل مدارس نقدية أعلنت ولاء الأدب لمنجزات العلم. من هنا، تَمَثَّل رهانُه النقدي في «إمكانية التقريب بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية، قصد وضع كيفيات لتحليل النصوص وتأويلها (...) ووضع علم للنصوص يمكننا من خلاله قراءة النصوص العربية، مع المحافظة على خصوصيتها الثقافية، وقيَمها الحضارية»34 كما سيتجلى في مختلف تطبيقاته النقدية على نصوص شعرية عمودية، وأخرى من شعر التفعيلة، وعلى الكتابة الصوفية، والكتابة القصصية، والنص القرآني35. فهذه المواءمة، بين المنهج المسافر والنص الأصلاني المتشبث بمخزونه الثقافي، جهد اعتباري لبناء طرق سيارة للفكر بين مختلف أنساقه، حيث «إن الخروج عن (أرثذوكسية) المناهج النقدية الغربية الحداثية قد لا يكون عجزا، ولكن العجز هو انفصال النظرية عن التطبيق، أو أخذ الناقد مقولة واحدة من مقولات المنهج النقدي ظنا منه أنها المنهج كله، ثم تطبيقها على المبدعات الأدبية»36.
يستشعر الناقد العربي عبء الأخذ بالمناهج النقدية الغربية لكثرتها، ولتواليها، وأيضا لعدم اكتمالها. فلا تنفك تتطور وفق مستجدات النظر الفلسفي والعلمي، الذي يحدث بعيدا عنه، من غير أن تستقر على حال. وبالتالي، يبدو أيُّ خيار صعبا أو غير موفق، فهل يكتفي الناقد بمنهج واحد، أم يُصَفِّفُ منهجا خاصا به ينتقيه من سلة مناهج؟ وسواء تعلق الأمر بالاختيار الأول أم الثاني، فإنه سيتجشم عناء لا حد له «ذلك أنه إذا كان استيعاب نظرية لغوية واحدة لمدرسة واحدة يتطلب جهودا مضنية ووقتا مديدا، فإن ما يحتمه تفهم نظريات مختلفة يفوق ذلك أضعافا مضاعفة، وكذلك إذا كان اتباع النظرية الواحدة يقي من الانتقائية والتلفيقية فإن الأخذ من نظريات مختلفة يحتم الانتقائية لكن لا يؤدي إلى التلفيقية بالضرورة»37. وينم واقع حال مشروع محمد مفتاح أن الخيار الثاني فرض عليه الاشتغال باللسانيات في حقول التداولية والسيميائية والشعرية، وبالبلاغة الإبدالية والتفاعلية والعلاقية والجشتالتية والمقومات، والهرمنوطيقا، والتفكيكية. ففي توفيقه، مثلا، بين النظرية الإبدالية والنظرية التفاعلية ونظرية التحليل بالمقومات «غالبا ما يخرج على مقولاتها ليعود إلى التراث البلاغي العربي، فيشبعه وخزا واستنباطا، ثم يميل إلى التقعيد الفلسفي»38 فينجِز بذلك "القراءة المضاعفة" للنص.
لا يتوقف جهد الناقد العربي على صحة تمثُّل المنهج واستيعاب خلفيته النظرية والفلسفية، والتمكن من تطبيقاته على نصوص ثقافته ثم تقويمها، بل يجابِه إكراها آخر يفرضه النص الذي لا يستجيب، كليا أو جزئيا، لعمليات سبره بأدوات منهج دون إعادة صياغتها من أجل «خلق كتابة نقدية تحدث سلوكات جديدة في التعامل مع النصوص والخطابات، أو الظواهر الأدبية والفنية والفكرية»39، وانسجاما مع هذا الإكراه، يبني سلوكات نقدية جديدة متصلة بالمنهج أو المناهج المستثمرة في مشروع ثقافي موسَّع يضيء به الزوايا المعتمة في التراث المغربي، حيث تؤكد قراءته «أن النواة الموجِّهة للثقافة المغربية، بما فيها من علوم شرعية وعقلية وأدبية، والأدبية بما فيها من شعر فصيح بمختلف أغراضه وعامي بتنوع تجلياته، هي الدعوة إلى الاتحاد والجهاد»40. فأن يتحمل الناقد كل هذه "المشاق والمزالق" اللصيقة بتكييف المناهج النقدية، له ما يسوِّغه ثقافيا وفكريا أكثر منه نقديا وأدبيا، حتى إن «مختلفَ كتابات محمد مفتاح، والأطر النظرية التي اشتغل بها، أدواتُ استدلال خادمة لمشروع أكبر هو المشروع الفكري الذي يؤدي وظائف مجتمعية وثقافية وحضارية»41.
عبد الله الغذامي رحلة المشاكلة والاختلاف

يتقاسم مع طه حسين ومحمد مفتاح رغبة النهل من معين النظريات الغربية، وكذا عبء تصفيتها ليتشربها النص العربي. فهو لم يتقيد «بمنهج واحد من هذه المناهج الثلاثة التي عرضها (البنيوية، والسيميائية، والتشريحية)، وإنما حاول الأخذ منها جميعا! والخروج عنها جميعا! أي إنه أخذ ما يناسبه، وترك ما لا يناسبه»42. يَهُبُّ مشروع عبد الله الغذامي النقدي، أواسط ثمانينات القرن الماضي، برياح مغايرة لما كان يعتمل داخل مؤسسة النقد الأدبي. لقد انطلق في "الخطيئة والتكفير" من استيعاب النظريات الحداثية وما بعد الحداثية، ثم تطبيقها في قراءة النصوص، لينتهي إلى كون السجال الأدبي لا يستجيب إلى مطالب الحاجة الحضارية لما بعد الإمبريالية في العالم العربي، تحديدا، فطبيعة اشتغاله تثبت أن «النقد الأدبي التزم بالنظر إلى النص الأدبي بوصفه قيمة جمالية (...) وتبريرِ أي فعل للنص مهما كان تحت مبدأ الأصل الجمالي، مما جعل (الجمال) مُنْتَجاً بلاغيا محتكَرا، وصار للجمالي شرط مؤسساتي، يصنعه السيد الشاعر ويقوم الفعل النقدي بعمليات التسويق والتعميم»43 في مناخ من التحكم المُطْبِقِ على الذائقة العامة لتلقي النص الإبداعي، وبالتالي، نمذجة هذا التلقي بما يحيل إليه النقد من مرجعيات جمالية وتمثلات ثقافية متوارَثة، تؤكد، باستمرار، سلطة حضورها وامتدادها. وقد أفرز هذا المناخ  حالة من «الترويض العقلي والذوقي لدى مستهلكي الثقافة، وما يسمى بالفنون الراقية والأدب الرفيع»44. لهذا جاء النقد الثقافي، خصيم المؤسسة، معلنا قطيعة جذرية من النقد الأدبي، خديم المؤسسة. إن استمرار النقد المعاصر، في تمثل النظريات الأدبية، وتجريب المناهج يؤكد «أن في وعينا النقدي اليوم شرخا خطيرا، شرخا يسمح لنا بقضاء قدر كبير جدا من الوقت في إرهاف نظريات كارلايل وَرَسْكِنْ الجمالاتية وإحكام حبكها، مثلا، دون أن نُولِي أي اهتمام للسلطة التي أضفتها هذه النظريات بصورة مُتَآيِنَةٍ على إخضاع شعوب أدنى وأراضي مستعمَرة»45. ويشير إدوارد سعيد، في هذا الصدد، إلى الرواية الواقعية الأوربية التي دعمت بشكل لا يكاد يكون ملحوظا، إقرار المجتمع للتوسع في ما وراء البحار، من خلال التبشير بما يحمله الرجل الأبيض للأصلانيين، في بلدانهم البعيدة و"البدائية"، من إحسان، وتصدق، ودين، وعلم، وأدب، وفن، وكل ما يشكل الوجه المضمر للثقافة الاحتوائية التي يسرت المد الإمبريالي للبيض تحت يافطة "تحضير المتوحش".

تظل مؤسسة الأدب محكومة بصيرورة تاريخ الوقائع والأفكار، فدخول البشر في عصر العولمة أعاد صياغة ثقافتهم بدرجات متفاوتة حسب تَمَكُّن هذه العولمة من أبعاد معيشهم اليومي الذي هو ممارسة ثقافية بامتياز، وبالتالي «من الممكن أن تُفهم الثقافة في المقام الأول كنظام للحياة يبني فيه البشر المعنى من خلال ممارسات التمثيل الرمزي»46 سواء تعلق الأمر بمجال الاقتصاد القائم على الإنتاج والتبادل والاستهلاك، أو مجال السياسة المؤسَّس على تركيز القوة داخل المجتمعات. لقد أصبحت الثقافة والعولمة وجهان لعملة واحدة، ذلك أن إثبات «العمليات التحويلية التي تصفها العولمة، لا يمكن أن تفهم على نحو صحيح حتى تُدْرَك من خلال المفردات المفاهيمية للثقافة»47. وحيث يفهم جون توملينسون J.Tomlinson العولمة بوصفها «حالة تجريبية للعالم الحديث يطلق عليها اسم المُرْتَبِطِيَّةُ الْمُعَقَّدَةُ complex connectivity» لكونها تخص مجموع مجالات الحياة الإنسانية من اقتصاد وسياسة وثقافة واجتماع، فإنه يقر بأن «تُمْنَحَ الأولوية للتحليل الثقافي. ويَرجع ذلك إلى أن مفهوم الثقافة "محيط" للغاية، لدرجة أنه يمكن النظر إليه بسهولة على أنه المستوى الأمثل للتحليل. أليس كل شيء "ثقافيا" في النهاية؟»48.

عتبات الغذامي نحو الأنساق المخاتلة في الثقافة

يُطَلِّقُ، عبد الله الغذامي، بداية الألفية الثالثة، النقد النصوصي الألسني ثلاثا. ويشيح بقراءته عن دراسة أدب المؤسسة في اتجاه ظواهر أخرى مسكوت عنها، لكنها تَحْضُرُ بقوة لدى الأفراد، عبر ممارساتهم وميولاتهم اليومية والاجتماعية التي ساهمت وسائل الإعلام الحديثة في كشفها وتوسيع نطاقها.

لم يحمل النقد الثقافي هَمَّ تقويض النقد الجمالي لصالح نقد الأنساق المضمرة ثقافيا في لغة النصوص، فحسب، بل جاء كرد فعل ضد مركزية ثقافية غربية أعطت «قيمة مطلقة لمفهوم "الليبرالية" ومفهوم "العقلانية" وجعلتهما بمثابة الإجابة المطلقة عن معضلات البشر الحياتية والفكرية. وهذا حَصَرَ الحداثة في مجال ذهني ضيق لا يسمح للثقافات الأخرى والنظريات الأخرى والشعوب المختلفة بوجود إيجابي وفاعل»49 أحرى أن هذه الحداثة، نفسَها، لم تفلِح في الإجابة عن هذه الأسئلة العالقة، لا داخل مجتمعات الغرب ولا في باقي العالم، مما فسح الأفق واسعا أمام تيارات مضادة انتصرت لمفهوم "التعددية الثقافية والهجنة" التي أنجبتها، نسبيا، إباحية الفلسفات التحررية (الليبرالية)50 من خلال نظرية الاستشراق، والنسوية، وما بعد الكولونيالية. فقد جاءت كرد فعل –حسب الفيلسوف الألماني أكسل هونيثAxel Honneth - على «الازدراء أو الاحتقار الاجتماعي الذي ينعكس بصورة سلبية على علاقة الفرد بنفسه أو بالأشخاص المعنيين»51 وهي الصورة التي تحيا في مختلف النصوص، والخطابات، والتمثلات، والعلاقات التي تشكل الكون الثقافي لهؤلاء. فإذا كان النص، من منظور النقد الثقافي، مَدخلا لمعرفة المجتمع والثقافة والتاريخ، فإن مفهوم "التعددية الثقافية" الذي نادت به الأنثروبولوجيا الثورية قد عَبَرَ إلى بنية النص من أجل كشف الأنساق الثقافية المتوارية بين ثناياه، ولم تعد المقاربة الجمالية هاجس ناقد الأدب المُلْزَم على تطوير أدواته القرائية، وتغيير دائرة اشتغاله. لكي «تفتح المجال للخطابات الأخرى المنسية والمنفية بعيدا عن مملكة الأدب»52 من قبيل النكتة، والأغنية، والإشاعة التي تملك قوة تأثير تفوق القصيدة القديمة والحديثة، أنَّى ينبغي الاعتراف «بأدبية هذه الأنماط التعبيرية إذ إنها مكتنزة بالطاقات المجازية والكنائية والترميزية، وتتحرك ضمن أنساق عميقة وخطيرة، والشاهد على ذلك هو في طاقتها التأثيرية الهائلة التي لا ينافسها أي خطاب رسمي مهما بلغ الترويج له أو محاولات ترسيخه»53.

يحدد عبد الله الغذامي إجراءات تحوُّل النقد من كونه الأدبي- الجمالي إلى كونه الثقافي في ما سماه نقلة في المصطلح، ونقلة في المفهوم، ونقلة في الوظيفة، ونقلة في التطبيق. والحاصل أنه بنى نقلته الاصطلاحية على ستة أساسات54، هي:

أ-عناصر الرسالة: يبلور الغذامي نموذج رومان ياكبسون للاتصال القائم على الوظائف الستة للغة، وذلك بإضافة العنصر النسقي الذي يهيئ الرسالة لتفسير نسقي وطيد الصلة بما هو ثقافي، أي بالبعد النسقي المتحكم بنا وبخطاباتنا. من تم، يضيف الوظيفة النسقية.

ب- المجاز الكلي: بوصفه قيمة ثقافية لا بلاغية أو جمالية، فحسب، بما أن الاستعمال هو الذي يجعل اللفظ مجازا، فإن ذلك الاستعمال فعل عمومي جمعي، وليس فردي، أي إنه أحد أفعال الثقافة.

ج- التورية الثقافية: تتجاوز المفهوم البلاغي للتورية كما شاع استعماله للدلالة على معنيين أحدهما قريب، والآخر بعيد مع قصد البعيد، «وإنما ليدل على حال الخطاب إذ ينطوي على بعدين أحدهما مضمر ولا شعوري، ليس في وعي المؤلف ولا في وعي القارئ. هو مضمر نسقي ثقافي لم يكتبه كاتب فرد، ولكنه انْوَجَد عبر عمليات التراكم والتواتر حتى صار عنصرا نسقيا يتلبس الخطاب ورعية الخطاب من مؤلفين وقراء»55، بينما يبقى البعد الواعي قليل التأثير ضعيف الفاعلية.

د- الدلالة النسقية: يتجاوز الغذامي مفهومي الدلالة الصريحة، ذات الوظيفة التواصلية، والدلالة الضمنية، ذات الوظيفة الجمالية، نحو ما يَصطلِح عليه "الدلالة النسقية"56. فإذا كانت الدلالة الصريحة ترتبط بالشرط النحوي، والدلالة الضمنية ترتبط بالشرط الجمالي، فإن الدلالة النسقية نشأت، تدريجيا، وبشكل مستتر عبر العلاقات التي تربط اللغة بالذهن البشري.

ه- الجملة النوعية أو الجملة الثقافية: تحتاج الدلالة النسقية إلى الجملة الثقافية «المتولِّدة عن الفعل النسقي في المضمر الدلالي للوظيفة النسقية في اللغة»57.

و- المؤلف المزدوِج: لا يقول الغذامي بموت المؤلف - كما بشر النقد البنيوي عند رولان بارت، بنص لم يَعُدْ مرآة كاتبه، بل نسيجا من الأصوات والعلاقات التناصية التي ينحل الكاتب والقارئ، كليهما، بين خيوطها- وإنما يقول بوجود مؤلفين اثنين لكل ما يُعَمَّمُ من ثقافةٍ للترويج والاستهلاك «أحدهما المؤلِّف المعهود، مهما تعددت أصنافه كالمؤلِّف الضمني والنموذجي والفعلي. والآخر هو الثقافة ذاتها»58. 

فهذه المفاهيم التي يؤسس عليها الغذامي مشروعه النقدي للثقافة بوصفها كُلاًّ لا ينفصل، لا يمكن أجرأتها في غياب تَحقُّقٍ فعليّ لمفهوم النسق الثقافي الذي يشكِّل وجودَه من خلال وظيفته حينما «يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمَر، ويكون المضمَر ناقضا وناسخا للظاهر»59 شريطة أن يكون ذلك في نص واحد جمالي وجماهيري، والجمالي هنا ليس من منظور النقد المؤسساتي، بل من منظور "الرعية الثقافية"، حسب تعبيره.   

الناقد والنقد والمفكِّر: سؤال مفتوح...

ترتقي المشاريع النقدية الثلاثة إلى حجم المشروع الثقافي الذي لم يكن المطلب النقدي للأدب سوى بوابة فتحته على مداخل عصية: من المرجع الفلسفي للنظريات الأدبية إلى سؤال المناهج، إلى إشكالية الاستنبات الفكري لها داخل سياق ثقافي مغاير تتصارع فيه "قراءة الشيخ" و"قراءة السياسي" و"قراءة الرجل التقني"، حسب تصنيف عبد الله العروي60. لقد اجتهد هؤلاء النقاد المثقفون لإيجاد صيغة توازن بين معادلات صعبة تتعلق بالفكر، والأدب، والتاريخ، والتراث، والهوية، والمجتمع، والواقع، والمستقبل. فهل توفقوا، فعلا، في تشييد صورة مختلفة عن نموذج نمطي لا يخرج عن صيغتين اثنتين، حيث «يثور المثقف المُحْدَث على مظاهر التفكك والتناثر ويثور المثقف التقليدي على مظاهر التبعية والاغتراب»61، وهل تَحَقَّقَ في صيغة التوازن هاته ما ينأى بهم عن صنف المثقف العربي الذي يكون انتقائيا في ما يعتقد، وفي ما يختار من أدوات اشتغال، إذ «بسبب تكوينه المجرد، يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق»62 فلا تمثل هذه الانتقائية- من وجهة نظر عبد الله العروي- ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه. فهو لم ينخرط، فعليا، في صميم الثقافة العضوية في المجتمع العربي، الثقافة الشعبية التي لم تحظ بالتدوين، وظلت على هامش الثقافة العربية الرسمية.

نتائج الدراسة:

- كشفت هذه المشاريع قدرة الناقد العربي على مد جسور قوية بين النظرية والمنهج والنص العربي،
- يتحمل الناقد متاعب جمة لتكييف المنهج مع النص ومحيطه، فيتوفق حينا، ويفشل حينا آخر،
- دَرَّتْ هذه المشاريع النقدية عائدات علمية وتجريبية على مستوى المقاربات النصية والثقافية،
- بلورت مواقف فكرية جريئة لإعادة قراءة الفكر العربي في ضوء المستجدات الثقافية العالمية،
- وسَّعت أسئلة نقد النقد، ورسمت خارطة طريق لمخططات نقدية يَقِظَة علميا، وفكريا، وإديولوجيا،
- خلخلت الأنساق الثقافية بممكنات القراءة، في محيط عولمي تأسره الثقافة وتحرره، في الآن معا.

هوامش الدراسة:

1. تزفيطان طودوروف- الأدب في خطر- ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي- دار توبقال للنشر- الدار البيضاء- الطبعة الأولى 2007- ص 12.
2. نبيل راغب- موسوعة النظريات الأدبية- مكتبة لبنان ناشرون- بيروت، لبنان- الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان- الطبعة الأولى 2003-  ص 527- 528.
3. نفسه- ص 529.
4. نفسه- أ- المقدمة.
5. يبدو مُهمّا العودة إلى كرونولوجيا مؤلفات طه حسين في النقد الأدبي، حيث شكلت مستوى نظريا وتطبيقيا تطور بتطور مشروعه الفكري.
6. تخلل إصدارَ طه حسين كتبَه النقدية مؤلفاتٌ من صنف الثقافة العامة، ومنها ما له صلة بالأدب، وبالموقف الفكري والإيديولوجي له، بما يدعم مشروعه النقدي ويمتد خارج دائرة الأدب ليشمل الحياة العامة في مصر والعالم العربي، وتؤكد هذه الكتابة تكامل وجهة نظره إلى الثقافة، بصفتها محركا قويا في التغيير الاجتماعي والسياسي.
7. أحمد بوحسن- الخطاب النقدي عند طه حسين- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الأولى- 1985- ص 98.
8. علي أحمد سعيد- أدونيس- الثابت والمتحول- 3- صدمة الحداثة- دار العودة- بيروت، لبنان. الطبعة الرابعة 1983- ص 219.
9. أحمد بوحسن- الخطاب النقدي عند طه حسين- مرجع مذكور- ص 35.
10. طه حسين- في الشعر الجاهلي- منشورات اتصالات سبو- مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء- طبعة 2006- ص 12.
11. أحمد بوحسن- الخطاب النقدي عند طه حسين- مرجع مذكور- ص 38.
12. طه حسين- تجديد ذكرى أبي العلاء- دار المعارف- القاهرة، مصر- الطبعة السادسة 1963- ص 12.
13. أحمد بوحسن- الخطاب النقدي عند طه حسين- مرجع مذكور- ص 62.
14. أنظر مقالة غوستاف لانسون "منهج البحث في تاريخ الآداب" ضمن كتاب محمد مندور "النقد المنهجي عند العرب ومنهج البحث في الأدب واللغة- مترجم عن الأستاذين لانسون وماييه- دار النهضة للطبع والنشر- فجالة- القاهرة- مصر 1969- ص ص 401- 434.
15. عزيز العظمة- التراث بين السلطان والتاريخ- منشورات عيون المقالات ودار الطليعة- الدار البيضاء- الطبعة الأولى1987- ص 106.
16. جابر عصفور- الدوران في دائرة الآخر- أعمال الندوة الرئيسة لمهرجان القرين الثقافي الثالث عشر- الخطاب النقدي العربي الإنجازات والأسئلة- 4- 6 ديسمبر 2006- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت- الطبعة الأولى 2008- ص 23.
17. فيصل دراج- الدوران في دائرة الآخر- أعمال الندوة الرئيسة لمهرجان القرين الثقافي الثالث عشر- الخطاب النقدي العربي الإنجازات والأسئلة- مرجع سابق- ص 51.
18. عبد الله العروي- ثقافتنا في ضوء التاريخ- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، المغرب- بيروت، لبنان- الطبعة السادسة  2002- ص 175.
19. طه حسين- تجديد ذكرى أبي العلاء- مرجع مذكور- ص 12.
20. طه حسين- في الأدب الجاهلي- دار المعارف- القاهرة- مصر- الطبعة العاشرة- 1969- ص 33.
21. طه حسين- مع أبي العلاء في سجنه- دار المعارف- القاهرة- مصر- 1963- ص 157.
22. طه حسين- مع المتنبي- مطبوعات لجنة التأليف والنشر- القاهرة- 1937- ص 305.
23. د. صبري حافظ- أفق الخطاب النقدي، دراسات نظرية وقراءات تطبيقية- دار شرقيات للنشر والتوزيع- القاهرة، مصر- الطبعة الأولى 1996- ص 22.
24. محمد مفتاح المشروع النقدي المفتوح- تنسيق د. عبد اللطيف محفوظ، د. جمال بندحمان- الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان - منشورات الاختلاف- الجزائر العاصمة، الجزائر- الطبعة الأولى 2009- ص 35.
25. محمد مفتاح المشروع النقدي المفتوح- مرجع مذكور- ص 23.
26. محمد مفتاح المشروع النقدي المفتوح- مرجع مذكور- ص 7.
27. د. محمد مفتاح- دينامية النص (تنظير وإنجاز) المركز الثقافي العربي. الطبعة الثانية حزيران 1990- ص 5.
28. محمد مفتاح المشروع النقدي المفتوح- مرجع مذكور- ص 9.
29. أنظر على سبيل العد لا الحصر الصفحات الأولى من كتابيه: "تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص"، و"دينامية النص: تنظير وإنجاز"
30. د. جمال بندحمان- أسس المشروع الفكري لمحمد مفتاح: الأنساق الدينامية وفلسفة انتظام الكون- محمد مفتاح- المشروع النقدي المفتوح- مرجع مذكور- ص 31- 32.
31. محمد مفتاح المشروع النقدي المفتوح- مرجع مذكور- ص 174.
32. أنظر كتاب د. محمد مفتاح- دينامية النص (تنظير وإنجاز) مرجع سابق- ص ص 49- 81- 103- 129- 157- 189.
33. محمد عزام- تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية- دراسة في نقد النقد- منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق- سوريا- 2003- ص 157.
34. د. محمد مفتاح- تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، المغرب- الطبعة الثانية 1986- ص 7.
35. محمد عزام- تحليل الخطاب الأدبي- مرجع مذكور- ص 66.
36. أحمد بوحسن- المشروع النقدي لمحمد مفتاح- مجلة فكر ونقد- السنة الثانية- العدد 20- يونيو 1999- ص 130.
37. نفسه- ص 122.
38. محمد مفتاح- التشابه والاختلاف، نحو منهاجية شمولية- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الأولى 1996- ص 158.
39. د. جمال بندحمان- أسس المشروع الفكري لمحمد مفتاح: الأنساق الدينامية وفلسفة انتظام الكون- محمد مفتاح المشروع النقدي- مرجع مذكور- ص 18.
40. محمد مفتاح- التشابه والاختلاف، نحو منهاجية شمولية- مرجع مذكور- ص 158.
41. محمد عزام- تحليل الخطاب الأدبي– مرجع مذكور- ص 61.
42. عبد الله الغذامي- النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- المغرب- الطبعة الرابعة- ص 15.
43. نفسه- ص 15.
44. إدوارد سعيد- الثقافة والإمبريالية- نقله إلى العربية وقدم له: كمال أبو ديب- دار الآداب- بيروت، لبنان- الطبعة الأولى 1997- ص 83.
45. جون توملينسون– العولمة والثقافة، تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان- ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم محمد- عالم المعرفة عدد 345- أغسطس 2008- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص 31.
46. نفسه- ص 9.
47. نفسه- ص 30.
48. عبد الله الغذامي- النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية- مرجع سابق- ص 40.
49. إدوارد سعيد- الثقافة والإمبريالية- مرجع مذكور- ص 59. 
50. د. كمال بومنير- النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث- الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت- منشورات الاختلاف، الجزائر- دار الأمان، الرباط- الطبعة الأولى 2010- ص 133.
51. عبد الله الغذامي- النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية- مرجع سابق- ص 61.
52. نفسه- ص 61.
53. نفسه- ص 66.
54. نفسه- ص 71.
55. نفسه- ص 71- 72.
56. نفسه- ص74.
57. نفسه- ص 75.
58. نفسه- ص 77.
59. نفسه- ص 77.
60. عبد الله العروي- الإديولوجية العربية المعاصرة- طبعة دار الحقيقة- بيروت. الطبعة الأولى 1970- ص 45.
61. عبد الله العروي- ثقافتنا في ضوء التاريخ- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، المغرب- بيروت، لبنان- الطبعة السادسة 2002- ص 175.
62. نفسه-  ص 176.


تعليقات