معجم بورديو إعادة الإنتاج


                                    

Reproduction
   إعادة الإنتاج

   تعريب الدكتورة الزهرة براهيم

   يتعاطى علم الاجتماع النقدي، كموضوع ذي امتياز، المعرفة العلمية بالإجراءات التي لا تحْصل رؤيتها جيدا، والتي تجعل إدامة النظام الاجتماعي ممكنة: «إنه من بين الأسئلة الأساس، بشأن العالم الاجتماعي، سؤال معرفة لماذا وكيف يدوم هذا العالم ويستمر هذا الكائن، وكيف يَخْلُد النظام الاجتماعي، أعني مجموع علاقات النظام التي تكوِّنه».1 وللإجابة عن هذا السؤال، يستمد بورديو من ماركس استعمال مفهوم إعادة الإنتاج، بكيفية تحفظ له المنطق العلائقي، ولكن مع طرح البعد الهيغلي جانبا، المنطق الجدلي للتاريخ الذي لازال قائما فيه أيضا من خلال فكرة تناقض داخلي منذورة لأن يتم تجاوزها. ومهما كانت المعاني الضمنية والبيولوجية للكلمة، فقد استطاعت أن تحرض على التفكير بشأنها، إن الأمر لا يتعلق بأي حال من الأحوال بإنشاء ديمومة دورة طبيعية أو مبدأ ميتافيزيقي، أو ذي نزعة وظيفية كيفما كان، بل الأمر يتعلق ببناء نموذج نظري، ليسِم كذلك، داخل تشكُّل تاريخي وواقعي، التشاكلات البنيوية الموجودة في حضن الظواهر الاجتماعية والتي تستر العلاقة المتبادلة النسقية تنوعها الظاهراتي. وتشير إعادة الإنتاج إلى مجموع إجراءات تاريخية، هي في الوقت نفسه مستقلة ومتقاطعة، بحيث تندمغ بواسطتها داخل السياقات الأكثر تنوعا. فالتعارض ذكر/أنثى، إذا اكتفينا بهذا المثال فقط، فإنه موجود داخل الاستعدادات وداخل المؤسسات، في الأجساد وفي العقول، في الكلام وفي المعايير القانونيةـ ويتغير بطريقة جد مختلفة في ارتباط بحقول ومناطق الفضاء الاجتماعي التي يؤول فيها إلى الزوال. فاللجوء إلى تصور إعادة الإنتاج هو مرتبط إذن بمقاربة ذات نزعة بنيوية لوصف الوقائع الاجتماعية. ونستطيع تلخيص الأطروحة التي تنبني عليها هذه المقاربة في جملة واحدة: إنه من الممكن التحقق من نوع الإجراءات الاجتماعية التي ليست معقولة بشكل تام إلا إذا أعدنا علاقاتها البنيوية المتبادلة، غير أن إجراءات مثل هاته تنزع دائما لأن تكون منتِجة. لهذا السبب، وخلافا لما توعز إليه البنيوية المعترَف بها، فإن بورديو لا يعتبر إعادة الإنتاج هذه نتاج فعل البنيات ذاتها كما لو أنها تحمل بداخلها مبدأ خلودها الخاص. إن إعادة تقدير تأثيرات إعادة الإنتاج الذي يُلاحظ داخل العالم الاجتماعي لا يلزم سببية أو تشييء البنيات. فنموذج إعادة الإنتاج الذي يفهمه بورديو، يضع ببساطة مواقع نسق ما في صلة مع منافع واستراتيجيات الفاعلين الذين يشغلونها. وترتبط بهذه المواقع وسائل مؤسسية وغايات تم إقرارها بوظيفة مجموع البنية وبجعلها رتيبة: فصيغ الوجود هاته، وصيغ الفعل هاته تتقوى وتنزع إلى الدوام حين تضع علاقاتها المتبادلة نسقا. ويذكر بورديو، في هذا الصدد، بهذه القوة الخاصة والفردية Le conatus للفلسفة الكلاسيكية، إنها: «ميل للحفاظ على دينامية داخلية في الكائن، محفورة في الآن ذاته داخل البنيات الموضوعية وفي البنيات الذاتية، وفي استعدادات الفاعلين، ثم إنها على الدوام، مصونة ومدعومة بأفعال التشييد وإعادة تشييد البنيات التي تتوقف مبدئيا على الموقع الذي يشغله أولائك الذين ينجزون هذه الأفعال».2

    لا يمت العالم الاجتماعي إلى المقامرة بصلة، إنه منظم وفق نظام ينتسب، حسب بورديو، إلى «نظام تعاقب»، بالمعنى المزدوج لكلمة «تعاقب».3 فمنطق إعادة الإنتاج يشبه المنطق الذي يسود في تعريف الزمن المنسوب إلى ليبنتز، إن اللعب الاجتماعي  له تاريخ وله رهانات: «فالحديث عن الرهان، معناه أن نتخلى عن المنطق الآلي للبنية لصالح المنطق الدينامي والمفتوح للعب، وأن نُكره على الأخذ بعين الاعتبار، لكي يفهم كل عمل مبذول، وكل سلسلة الأعمال السابقة (...)».3 إن القطيعة مع البنيوية الأرثودوكسية، أي المجمع عليها هي مرمَّزة بتجميع تصورات إعادة الإنتاج والاستراتيجية. فإعادة الإنتاج هي رهان استراتيجيات كل الأنظمة التي تكوّن مع البنيات الموضوعية المتاحة، والتي تشكل مبدأ حالة اللعب والسلطة على اللعب. هذه الاستراتيجيات التي تشكل الأسرة مكانا لها بامتياز، ليس لها كمبدأ القصد الواعي أو العقلي، ولكن استعدادات الهابيتوس. بالفعل، فإن الفاعلين يقادون بالظروف الاجتماعية التي تنتج الهابيتوس، -أي في المجتمعات المتميزة بحجم وبنية الرأسمال الذي تملكه الأسر- ليكون مزودا بالخصائص الموضوعية والذاتية التي هي مستعدة أكثر لتأبيده من دون أن تستهدف هذا التأبيد [من لفظة: أبد]. وبمعنى آخر، فحينما توجد ملاءمة بين شروط الإنتاج والهابيتوس وشروط اشتغاله، يكفي الفاعلين متابعة تصوراتهم وتوقعاتهم ورغباتهم للمشاركة في إعادة إنتاج مواقعهم. لأنه بمجرد أن يكون ما هو عليه، وأن يكون ممنوحا باستعدادات ليكون ما هو عليه، فإن الهابيتوس يسعى إلى أن يقصي، في المستحيل وفي اللامفكر فيه، إمكانات أخرى غير تلك التي جعلته ممكنا، بناء على ذلك، فإن الاستراتيجيات التي يعدها تنزع إلى «تأبيد هويته، التي هي اختلاف، مع الحفاظ على فوارق ومسافات وإسناد النظام، ثم بالمساهمة بهذه الكيفية عمليا في إعادة إنتاج كل نسق الاختلافات المشيِّدة للنظام الاجتماعي».4

        وحتى نصنع نظرية عامة للإجراء الشمولي لإعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية، وأن نخوّل لأنفسنا وسائل فهم مختلف أنماط إعادة الإنتاج، لا ينبغي فقط تشييد صورة نسق إعادة الإنتاج (مؤسسات تعليمية، سوق الشغل، الحق في الإرث، حق الملكية، إلخ...)، لكن ينبغي أيضا إعادة تأسيس ذلك المتعلق بنسق استراتيجية إعادة الإنتاج في مختلف أبعاده (استراتيجيات الاستثمار البيولوجي، الاستراتيجيات الميراثية، والتربوية والاقتصادية والزواجية، إلخ...). فكل مجتمع، حسب بورديو، يقوم بالفعل، على العلاقة بين المبادئ الدينامية لهذين النسقين حيث تتغير هويتهما ووزنهما النسبي (بتغيُّر) في المكان وفي الزمان. وبحيث إنه يظل بعيدا عن سحق كل اختلاف، فإن مفهوم نمط إعادة الإنتاج يسمح، على العكس من ذلك، بدراستهما، وعلى الأخص، بالتنويه بتلك الأكثر عمقا والتي تفصل المجتمعات التقليدية (ما قبل الرأسمالية)، التي تؤمِّن بشكل أساس إعادة إنتاجها عن طريق انحراف «تصييغ» الهابيتوس، ولا تستطيع أن تعتمد في موضوعية البنيات الاجتماعية إلا على البنيات الأسرية للعوالم الاجتماعية الحديثة التي تتحدد داخلها قبل كل شيء، استراتيجيات إعادة الإنتاج بالنسبة إلى البنيات الموضوعية، وعلى وجه الخصوص، إلى النظام التربوي لدولة منظمة. بهذه النظرية الخاصة بطرق إعادة الإنتاج ، يملك بورديو قناعة أنه خوَّل لنفسه وسائل فهم ظروف ديمومة كل نظام اجتماعي، أو على أقل تقدير، أنه هيأ مبادئ تفسير قوية إلى حد أنها تجعل الظواهر المعقولة معزولة كثوريث الأسماء الشخصية في القبائل الجزائرية، وسياسة الأسر الكبرى الحاكمة، أو السياسة العائلية للأسر القروية.5

      فنظرية وظائف إعادة الإنتاج الخاص بالأنظمة الحديثة للتعليم التي يقدمها بورديو وج.س. باسرون Passeron J.C، الذي اشترك معه في كتابة "إعادة الإنتاج" سنة 1970، قد أذاعت صيت إعادة الإنتاج المنسوبة إلى بورديو. إلا أنه للأسف، قد شكل بالأحرى نجاح شعار لقراء مدعين أو لقراء متسرعين غير ذلك الشعار الخاص بالتصور المعروض حقيقة في هذا الكتاب الطموح، الذي لا يطور الأطروحة التي تم الدفاع عنها سابقا في "الورثة" سنة 1964، حول الدور الحاسم لللامساواة الثقافية في الإقصاء الدراسي، ولكنه يهدر القواعد العامة للسيطرة الرمزية. لقد اقترح الكاتبان بالفعل تحليلا للاشتراطات التي في ظلها، وبعيدا من تحقيق المشروع الجمهوري بشكل مكتمل قصد تقليص اللامساواة عن طريق الولوج إلى التربية والمعرفة بكل أشكالها، فإن المدرسة تسهم في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي بإعطاء الشرعية، عن طريق التصديق الكتابي والإثباتي الذي تصدره، لبنية توزيع الرأسمال الثقافي الموجود سلفا بالنسبة إليها. وبإيعاز من الرأسمال المندمج الذين يستفيدون منه نتيجة التجارب النوعية المتحدرين من الأجزاء المهيمنة في المجتمع، فإن التلاميذ هم، بالفعل، أكثر من يُرضوا الاقتضاءات العامة بشكل خاص، لا سيما تلك المتعلقة بالتمدرس (سهولة التعبير الشفهي والكتابي للغة الشرعية، والصلة المألوفة بالثقافة وبـ «الروح المدرسية»، إلخ...). إن وهم الاستقلال والحياد المدرسي يسعى هكذا إلى تحويل «أولائك الذين يرثون إلى أولائك الذين يستحقون»، إنه ينذر الميثولوجيا الاجتماعية لـ «الهبة الطبيعية» أو للنداء الباطني. لذلك فإن "إعادة الإنتاج" تقدم نفسها كتفكير في كيفيات إدارة العنف الرمزي الذي يوجد في مبدأ التأسيس والاعتراف وإعادة إنتاج نظام اجتماعي وجعله شرعيا.

       لهذا السبب، لا ينبعي أن نسيء الظن بتصور إعادة الإنتاج الذي تضمه هذه التحلليلات. فهو نموذج للوصف السوسيولوجي، ذلك أن المفهوم يكتسب قيمته بدءا من الإجرائية التي تمنحها إياه مرونته وتعدد معانيه في امتحان السياقات المختلفة والسيرورات التي ليس لديها شيء يتعذر مسه. وبالنظر إلى ذلك، فلا مجال لإخراج نوع من القانون القُلُّزِ لإعادة الإنتاج(La loi d’airain) ، الذي سيفرض نفسه في كل مكان هكذا، ولكن أن يحلل الروابط المنسوجة باللقاء التاريخي لإجراءين اثنين لإعادة الإنتاج، فعل الإعادة الذاتية للإنتاج الخاص بالمؤسسة المدرسية، من جهة، وتأبيد البنيات العامة لللامساواة الاجتماعية والثقافية بين الجماعات المهيمنة والجماعات المهيمن عليها لمجتمع الطبقات، من جهة أخرى. إن ميلاد الثبات النسبي لنسق العلاقات المتبادلة من هذا اللقاء يفسر فعاليته الاجتماعية والرمزية، ولكنه ليس مضمونا بالماهية، إن هذا الثبات النسبي يخضع للامتحان التاريخي لقدراته على مقاومة تحولات العالم الاجتماعي. ينبغي أن نلح على كون الفعل المدرسي لا يستطيع أن ينتج آليا إعادة إنتاج بنية الطبقة. وحتى طوال العصر الذهبي لإيديولوجيا الحكم بالاستحقاق، فإن التناسب بين الإجراءين الاثنين لإعادة الإنتاج لا يستطيع أن يقودنا ثانية، ومن دون قيد أو شرط، إلى الحالة السالفة لتوزيع المواقع الاجتماعية. إن مؤلفي إعادة الإنتاج يشرحان، على وجه الخصوص، أن الاستقلال الذاتي النسبي للنظام المدرسي يخلق دائما مسافة، متغيرة حسب العصور والمجتمعات، بين ثقافته وثقافة الجماعات المهيمنة التي تسمح بعرض التحولات والفوارق التي لا تضر مع ذلك بالوظائف الشاملة لإعادة الإنتاج ولشرعنة الفوارق بين الجماعات، حيث توفي المؤسسة ما عليها حسب رأيهما. وبصفة عامة، فلا ينبغي الخلط بين إعادة الإنتاج والتكرار. ولنعبر عن ذلك بعبارة باسرون «إعادة الإنتاج لا تنطلق من الشيء لتعود إليه»6، فأنساق الفوارق التي تركبها البنيات الاجتماعية ليست أبدا جامدة على طريقة «الأشكال النوعية» للأنواع الحيوانية. وينبغي التذكير بأن مفهوم إعادة الإنتاج عند بورديو لا يمكن فصله عن مقاربة علائقية واحتمالية للعالم الاجتماعي. إنها تبحث عن تحليل الانتظامات التاريخية التي تتموضع بالماهية بين الحتمية المطلقة واللاتحديد التام.7 إن فائدة تصور مثل هذا هو بالضبط منح إطار لتغيير الكيفية والحدود التي تستطيع البنيات، بها وضمنها، الاستمرار في تأمين الوظائف التي تحددها بالرغم من التحولات الواقعية التي تؤثر فيها.

هوامش "إعادة الإنتاج":
1-«Stratégies de reproduction et modes de domination», Actes de la recherche en sciences sociales, année 1994, volume 105, numéro 1, p. 3.
2-Ibid, p. 3.
3-Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997, p. 254.
3- «Stratégies de reproduction et modes de domination», Actes de la recherche en sciences sociales, ibid, p. 5.
4-Ibid, p. 6.
5-Ibid, p. 8.
6-Passeron. J.C. Le raisonnement sociologique. L’Espace non-Poppérien du raisonnement naturel, coll. «Essais & recherches», Nathan, Paris, 1991, p. 106.
7-Méditations Pascaliennes, ibid, p. 254.

تعليقات