مسرحية عرب : سعادة المشاهدة

من روائع المسرح التونسي:

"عَرَبْ "  لمجموعة " المَسْرَحِ الجَدِيد"
                                  تأليف وترجمة محمد مومن

ملاحظة :
         نشر هذا المقال باللسان الفرنسي في الجريدة اليومية " لُوتَانْ " [Le Temps]"، يوم الثلاثاء ١٦ من شهر جوان٧ ١٩٨، وقد عنونته أنذاك بعنوان كبير : "سَعَادَةُ المُشاَهَدَة " ]  فِي "عَرَبْ "  للمَسْرَحِ الجَدِيد  ]. وها أنني عدت بعد ثلاثين عاما لأترجمه لكم مقطعا مقطعا، وذلك بمعدل مقطوعة كل يوم، وأحيانا يومين، حسب الظروف، وقد حرصت على أن تكون معنونة بعنوانها الفرعي. واليوم، وبعد أن تمت ترجمة الثلاث مقالات السابقة، ها أنني أهديكم المقطع الأول من المقال الرابع والأخير حول أثر المسرح الجديد والموسوم ب "سعادة المشاهدة (في "عرب") ". وإن نفعل هذا فللتاريخ. للتأريخ. آه التاريخ! نحن العرب خرجنا منه. هل نحمد الله على هذه النعمة. بقي التأريخ. لنؤرخ، فقط للذكرى؛ على الأقل للذكرى. أليست الذكرى تنفع المؤمنين؟

                             سَعَادَةُ المُشَاهَدَةِ 

             نواصل وننهي هذه النزهة بين صور " عَرَبْ". كان علينا في فصل أول أن نصف هذا الذي رأيناه فضاء تَمَثَّلْنَاهُ "ركحا "ساعة كبريات الأساطير". ثم سعينا إلى تبيين المواصفات الرئيسية التي تميز الخيال الدرامي لأثر "المسرح الجديد" فانسنا فيه صورا " أُرْفيَّة وَدِيُونِيسِيَّة" بَيِّنَةً مُبِينَةً. وسنجتهد في حديثنا هذا بغية أن تكلم لغة الممثلين التي أبدعوها أيما إبداع ببذلهم لطاقة لا محسوبة ولا محدودة وبتفجيرهم لشحنة غير معهودة ولا مألوفة. نعم، هي طاقة، وهي شحنة، قلما رَأَيْتَ ورَأَيْتُ مثلهما في مسارحنا التونسية وربما- من يدري؟- في المسارح العربية جميعها.
              
                            جَوْ- جَوْ، أَرْضْ- أَرْضْ١

   لا مفر لنا من أن نأتي إلى متن النص المتين والقوي، ولعله النص الأقوى في غمار النصوص المُؤَلِّفَة ل"عَرَبْ " : الأداء التمثيلي- أو كما يحلو لبعضهم تسميته ب " اللَّعِب التَّمْثِيلِيِّ" (وفي هذه التسمية نظر، وأي نظر!). هنا أيضا، سنكتفي في هذا المقام ببعض الشارات العامة. فَلْنَنْصَرِفْ للأهم، عفوا، لما نعتبره الأهم لأن التفصيل الزائد على اللزوم في هذا المجال ليس بالمرغوب فيه ولا الإيغال في جزئياته بالمحتوم.  وأول ما يلفت النظر هو توزيع الأدوار. ورأس الدلالة التي يدل عليها مثل هذا التوزيع هو أن المخرجين فاضل الجزيري وفاضل الجعايبي يتوفران على علم جزيل شاسع واسع في ما يهم الشخصيات التي يبعثان بها من خيالهما للحياة ويدفعان بها من عالمهما إلى دنيا الركح وأجوائه وطقوسه. وإذا بنا ب "الممثل المناسب" في "الدور المناسب". ولو لم يكن التوزيع موفقا، أي قائما على " التَّنَاسُب"، على المُلاَءَمَة والمُوَاءَمَة، لما اهتدى إلى توظيف بعض المؤدين لتأدية شخصيات ليسوا مؤهلين مبدئيا لتأديتها وذلك لعدة أسباب، منها الجسمانية والذهنية، الجسدية والفكرية. ف  " التَّنَاسُب" ليس معطى : إنه ليس بخصائص وامتيازات  "مَا قَبْلِيَّة"ولا بمعطيات متوفرة باقية على ذمة المُؤَدِّي ومتاحة  لمن يشرف على فن الممثل ويديره. لا،" التَّنَاسُب" اكتساب.

  يتأكد في هذا الشأن أن نعي أنه من المكتسبات التي يحصل عليها الممثل، هو ثمرة اجتهاداته وحصيلة استغلاله واستثماره لتوجيهات المخرج، نصائحه وإرشاداته. فهو ضرب من المزيج  الخِيمْيَائِي "مَا بَعْدِي"، يعني أنه يأتي ما بعد  الجهود التي يبذلها الممثل حتى يستجيب لما يستوجبه الدور. التوزيع الأول للأدوار قلما يكون صائبا، وإن صُمِّمَ التوزيع حسب مؤهلات المُرْفُولُوجِيا - أي وفق منطق الأشكال الجسمانية - فغالبا ما يكون وقتيا وانتقاليا . بكلام آخر : على الشخص ، وهو الممثل، أن يبرهن بما لا يدع مجالا للشك أنه الشخصية المنشودة. وكل هذا يعني أن حسن توزيع الأدوار، ما سميناه " التَّنَاسُب"، لا يعني المطابقة الماقبلية بين الممثل والدور - توافق يتفق ويحصل خاصة مع عالم النجوم والنجومية، حيث " يُكْتَبُ" الدور خصيصا لنجم أو نجمة بعينها. بل" التَّنَاسُب" أيضا تناسق ما بعدي، تناغم بين مؤد مبدئيا غير مؤهل لتأدية شخصية مختلفة عن شخصه، وغير قابل لتقامسها لتغايره وتنافره معها تمام التنافر والتغاير.

ما نكتشفه في " "عَرَبْ" هو قيام العديد من الممثلين بأدوار في تَبَايُنٍ تام بين ما عُرِفَ عنهم من خلال مساراتهم الحِرَفِيَّة وتواريخهم الفنية.  خاصة أن العديد من الوجوه "جديدة" على عائلة "المسرح الجديد" الذي نراه هكذا ينفتح فجأة على طاقات "شابة" (فَتْحِي الهَدَّاوِي، زُهَيْرَة بِنْ عَمَّارْ"،  فَاطِمَة بِنْ سْعِيدَانْ) أو على فنانين قادمين من آفاق فنية أخرى (لَمِينْ النَهْدِي). ولا بد أن نشير في هذا الصدد أن التناسب في التوزيع لا يتعارض وعناصر المفاجأة التي  تباغت الانتظارات. ولنا مثال معبر في " "فَاضِل الجَزِيرِي الذي حتى وإن تعودنا مشاهدته في شخصيات غامضة ذات وجوه متعددة ومتلونة بعديد التلوينات فأننا لم نتعود رؤيته بهذه الألوان المتناقضة وخاصة المتصارعة المتحاربة فيه :

ورغم أن دوره في "غَسَّالِةْ النْوَادِرْ " في صورة " عَمْ صَالَح" يتضمن الكثير من التناقض فإن ازدواجية شخصيته ليست لها أسباب ومسببات نفسية بل إن مصدرها اجتماعي واقتصادي، مهني، وبالتالي إيديولوجي. هو نقابي قديم أنهكته الأيام والآمال المفقودة فصار "مغتربا" غريبا، خارجا عن عصره لأن الأحداث تجاوزته فتركته على قارعة التاريخ وحافته. هنا، في "  عَرَبْ"، نرى الجزيري في قتامته المألوفة حاملا كالعادة لصليبه وأحزانه الخفية الدفينة ولكن على خلفية حكايات حب كله تذلل وصداقة كلها شعور بالذنب، حكايات حالكة لكائن منهد بسبب تاريخ مجنون (حرب لبنان وما صاحبها من انهيار تام لكل القيم) ومنهار أنطولوجيا، على مستوى كينونته لأنه مسكون بقلق وجودي حد فقدان الثقة في كل شيء واليأس من كل شيء. وحتى وإن كان ذلك بصورة مختلفة نوعا ما، بسبب قصر مشواره الفني، فإننا لم نر بعد فَتْحِي الهَدَّاوِي" " في ملامح هذا الرهط من الشخصيات المهزومة والحسودة المتآمرة التي بدأت خاسرة وانتهت خاسرة ؛ هذا ولا ريب ليس بالأمر المألوف إذا تذكرنا دوره في " الدُّولاَبْ"، تلك التحفة المنسية من كتابة وإخراج الحبيب شبيل. ولا " فَاطِمَة بِنْ سْعِيدَانْ" في شَبِيهٍ بذلك " العَصْفُور"، "عصفور الجنة"، الأبكم، الذي لا يغني ولا يتكلم، ولا " زُهَيْرَة بِنْ عَمَّارْ" بوجه " عَرْبِيَّة" المخطوفة والحبيسة، " عَرْبِيَّة" تلك الجازية الهلالية لأزمنتنا المعاصرة، هذه العاشقة والثائرة فاتنة القبائل التي تدفع بهم للتقاتل وكلها احتقارها لهم بلا حدود ولا شواطئ.

  وما يعزز اعتقادنا بوجود "تَّنَاسُب" في توزيع الأدوار أن جل هذه الوجوه في بدايات طريقها. نحن نعيش لحظات ربما كانت جوهرية في حياتها. ها أننا نراها تقفز في المجهول، في مغامرة ليست فحسب فنية بل استكشافا وجوديا  للذات.

تعليقات