ما للمسرح أو المسرح سماع

                                ١

القيروان : ربيع الفنون
٧٢ مارس ٢٠١٨
ندوة " المسرح والفنون"

                                                   ما للمسرح 
                                                       أو
                                                المسرح سماع

ملاحظة : لن نتحدث عن الموسيقى في تلك الأجناس التي تمزج بين بعض عناصر المسرح والموسيقى كالأوبيرا و الأوبيريت والكوميديا الموسيقية وغيرها

                                          ٢

كثير. وإن نحن لا ننظر إلى هذه الأجناس فلأنها أجناس استقلت وتأسست كأجناس لها إنشائياتها، ونحوها و تاريخها وتقاليدها.     
                                         
  ١-
          الأثر المسرحي بوليفوني في جوهره لأنه متعدد الأصوات، بل إنه في أصله سنفوني لأن أصواته المتعددة مهما تنوعت وتنافرت تراها ختاما تتناغم وتتجانس، تتآلف وتتواءم. إننا أمام هيكل هو صرح متكون من العلامات، من "العناصر" كما كان يقال، المتباينة والمتخالفة لكنها متضامنة ومتساندة.  إن عنصر الموسيقى ينتمي إلى لغة تختلف عن اللغات الكلامية والبصرية لأنها ليست مبدئيا تماثلية، تقوم أساسا على المحاكاة. نقول مبدئيا، ولكن هناك دائما طبعا مساحات شاسعة ورحبة للإبداع، وتكوين ما لم يكن : لا شيء يمنع  "الشاعر" ( بمعنى الهوميروسي) أو "المجنون" ( بالمعنى الجبراني) من الإتيان بما لم يأت به الأوائل أي ابتكار ما ليس معتادا وابتداع ما ليس معروفا في الأعراف، يعني تغيير ما
                                    ٣
ظنناه لا يتغير وتحويل ما حسبناه لا يتحول. غير أن هذه اللغة اللا تماثلية التي تختلف عن اللغات الأخرى ذات النزعة التماثلية تصبح بالضرورة، وبفعل التجاور وحسب قواعد "التضمين" وقوانين "الاستيعاب"، تماثلية. وإذا بها تنسى كرهها الطبيعي للمحاكاة وتقليدها للعالم، وتقترب ولا تهرب من تمثل الأشياء والكائنات.      
٢- منذ فجره الأول، تجاور المسرح و الموسيقى. وهل يستقيم حقا القول إن هذين الفنين كانا جارين؟ لا، في الحقيقة مثل هذا الكلام لا يستقيم ولا يقوم على حقيقة لا تاريخية ولا فنية. في الأول، كان هذان الفنان فنا واحدا. أجل، ولد المسرح والعنصر الموسيقي من مكوناته وأساسياته. لقد بدأ الحفل المسرحي شعائريا ومراسميا، آفاقه وسماواته سبحانيىة وابتهالية مدحية تنهض على الذكر. وكانت الموسيقى من المفردات المكونة لهذا النوع من الشعائرية. الذي وقع هو أن "فن الشعر"، أو "الشعرية"، لصاحبه أرسطوطاليس استقى رحيق الدرما، فاستخلص إن شئنا "الدرامية" التي رأى جوهرها في المأساة، في التراجيديا. و النتيجة، أن وجد العنصر الموسيقي نفسه مقصيا لأن أرسطو أعطى الإحساس
                                      ٤
الكبير بأنه غير لازم لتحديد الدرامية وتعريفها. وبدأت رحلة تهميش الموسيقى ومسيرة جعلها "مصاحبة". وما المصاحبة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تؤدي
بنا مباشرة إلى معرفة جميع الأدوار التي أسندها المسرح إلى الموسيقى عبر تاريخ تعاملهما مع بعضهما كفنين. وبالفعل، يمكن للباحث في هذه المسألة أن يستخلص بسهولة كبيرة أن المصاحبة- ونحن طبعا نقتضب القضية ونختصرها- تعني أن الموسيقى ليست في قلب الحدث، بل الأدهى أنها ليست الحداث. وينتج عن هذه الرؤية أن توظيفها أمر متروك إلى المخرج يستعملها لا عند الضرورة وإنما   عندما يخطر له ذلك. يفعل ما يفعل فقط متى عن له أن يفعله، حسب الأهواء وعفو الخاطر، لا عن حاجة ملحة. إنه غير مجبر على إدماج العنصر الموسيقي في العمل الدرامي ولا ملزم. وفي هذه الحالة، لماذا لزوم ما لا يلزم؟ إنها- الموسيقى-  ليست من اللزوميات ولا من لزوميات ما لا يلزم. أنها ما لا يلزم. إذن ماذا؟ إذن هي من الأهواء، من هوائيات العرض المسرحي لا من أرضه الصلبة أو من صلبه. إنها كما كان يقال من "المتممات الركحية"ط. وكانت هذه
                                     ٥
العبارة يمكنها أن تكون صحيحة ومفيدة لو أنهم قصدوا فعلا أنها "متممة"، أي مكملة ما هو ناقص. أن يكون العرض غير تام إن افتقد العنصر الموسيقي فذلك يعني أن هناك وعيا بدوره وبضرورته، وهذا الوعي مفقود غير موجود. إذن الموسيقى من المتممات، بمعنى أنها من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها متى نشاء. ونشاء أكثر من اللازم.
٣- الآن، يبقى علينا توضيح ما نراه أساسي وجوهري في ما يمكن أن تكون عليه العلاقات التي تعقل بين الفنين. المسرح والموسيقى. من الواجب علينا أن نؤمن أن الموسيقى في المسرح ليست الموسيقى كفن مستقل بذاته ﻷنها في المسرح هي... في المسرح وليست بالتالي فنا مستقلا. ماذا يعني مثل هذا الكلام؟ هذا يعني أنه يستوجب علينا أن نفرق ونميز بين "المُوسِيقَى" و"المُوسِيقِي . ما هو "موسيقي" يتجاوز ما هو "موسيقى" ﻷنه لا يخضع بالضرورة للجنس الفني الذي يفترض أنه ينتمي إليه. يمكننا أن نلتقي العنصر

                                      ٦
الموسيقي  في الكثير من الأجناس. وما يلاحظ أن جميع الأجناس لها موسيقاها وإن شئنا التدقيق أكثر لقلنا "موسيقيتها". فللأدب، إن نثرا أو شعرا، موسيقيته
نسمعها في الأوزان والبحور والقوافي والمحسنات اللغوية. ويمكن أن نجدها في السينما وغيره من التعبيرات الفنية (وربما حتى الغير فنية). أذا أردنا التكلم بلغة اصطلاحية لقلنا إذن إن  المُوسِيقَى"" في المسرح هو في حقيقة الأمر ""المُوسِيقِي  في المسرح. والمُوسِيقِي  يَشِعُّ ويَرِنُّ في كامل المسرحية. هو عنصر مؤسس يبني للكل، لكل النظام العلاماتي للمسرحية، للمسرحية كنظام علاماتي. غير أن دلالات هذا العنصر المؤسس يشمل كل الأثر المسرحي الذي يشارك هو في بنائه. ولكن إن كانت الموسيقيات التي تساهم في تكوين العمل المسرحي عنصرا من بين العناصر المُؤَلِّفَة الأخرى فهذا لا يعني أنها ليست هي في حد ذاتها نظاما من العلامات. هي نظام صغير أو منظومة مُدْمَجَة داخل نظام كبير أو منظومة مُدْمِجَة - هي المسرحية. وربما كانت الصعوبة التي يجدها المسرح في تعامله مع ""المُوسِيقِي  كامنة في هذه الازدواجية التي يتسم بها هذا
                                      ٧
الأخير : أجل، مصدر الصعوبة في مراعاة الأثر المسرحي لمتطلبات الموسيقى كموسيقى دون نسيان ذاته كمشروع مسرحي له مستلزماته، وهذه المستلزمات تنتمي كافة إلى العالم الدرامي.
٤- لا يمكن للموسيقى في الأثر المسرحي أن ترتقي إلى""المُوسِيقِي إذا لم يقع تصريفها مع الدرامي. لما ينجح هذا التصريف يسمو "المُوسِيقِي" إلى الدرامية، أي إلى ما يجعل الدرامي فيه دراميا. لنقلها : مُوسِيقِيَّةِ مُوسِيقَى العمل المسرحي في دراميته. عندما ينصهر العنصر الموسيقي في الأحداث المروية وبالتالي عندما يتناسج ويتواءم (حتى بصورة سلبية وعلى سبيل التعارض والتنافر أو عن طريق التناقض والتدافع فيتماهى تماما مع الأحداث : انظر مثلا رائعة " تَدايُوشْ كُنْتُور" الموسومة ب " فَلْيَفْنَى الفَنَّانُون!" حيث نرى في "رقصة الموت" مراقصة بين عروس ليلة عرسها وهي ليست سوى الموت وقد تشخصت وتجسدت وبين جندي من جنود الحروب الغابرة يراقصها كمدعو من مدعوي هذا الحفل الراقص الغريب. والموسيقي هنا ليس فقط عنصرا مساهما في الحدث، بل هو أكثر من
                                   ٨
هذا : هو في حد ذاته حدث. لما نقول إن موسيقية المُوسِيقِي" في الأثر المسرحي هي دراميته فإننا نوحي أنه حدث درامي. في المقام هذا نحن بعيدون بعد الأرض عن السماء من ما هو "متمم" من "المتممات"،  و وما يستتبع هذه الدرامية هو ضرورة كتابة الموسيقي إن نصا أو ركحا.
٥- بما أن  المُوسِيقِيفي الأثر المسرحي هو دراميته، فلا عجب أن نستأنسه في النص. لا يوجد نص مسرحي لا يهتم بالجانب الموسيقي فيه. ونحن لا نقصد فقط النص الذي يسعى إلى أن يكون دراما شعرية من قبيل مسرحيات أحمد شوقي وشعرياته المسرحية، وهو صنف من الكتابة مزدهر جدا في الأدب الدرامي العربي. كلا، وأنما نحن نعني بكلامنا النص الدرامي النثري. نعم، الموسيقي  هَمّ من الهموم الأساسية لل "نثر" الدرامي. فما البحث عن الشعرية والاهتمام بالبلاغية والاعتناء بالبديع ليست في النص المسرحي سوى الملامح الدالة على البحث الجهيد عن تلك الموسيقية  المنشودة. لا وجود لنص مسرحي بدون موسيقية تميزه، مهما ضعفت ووهنت، مهما كانت قوة حصورها أو غيابها.
                                     ٩
نعم غيابها : كم من نص مسرحي يسحرنا بغياب الموسيقية فيه. فلنقل إن أحببنا إن موسيقيته حاضرة بالغياب. بفسخها ونسخها. فهي مندرجة في رؤية، في صميم الكتابة النصية ومشروعها. والموسيقية ثمرة جهد ذي بال يستدعي امتلاك آليات صناعة الكتابة وأسرارها. وهي سعي مشهود ذو شأو كبير ﻷنه تحكم في مصير النص ومآله، أي يحدد تقبله واستقباله، احتضانه واستحسانه. إنه مغامرة إنشائية، تجربة "شعرية". إنه فعل إبداعي.
٦- المُوسِيقِي، يعني حسب ما توافقنا ما هو  موسيقي، في الفعل المسرحي لا   يُصَاحِبُ، بل يَبْنِي، وببنائه للأحداث يساهم تباعا في تكوين الشخصيات ويشارك في تحديد الإيقاعات وفي هيكلة الأمكنة والأزمنة. وهو يفعل هذا منذ لحظة الكتابة النصية. لا ينتظر في فعله هذا الفعل الإخراجي للنص. موسيقية النص المسرحي تسبق موسيقية النص الركحي، الركح كنص. وهي في الآثار المتينة والجميلة قادرة على أن تكتفي بذاتها وأن تستقل، ونحن لا نقول كما ترى

                                  ١٠
أنها تستغني عن الإخراج وأنها لا تبرز وتتجلى بفصل العرض  أو أنها لا تزهر ولا تزدهر زمن الفرجة. لا شك أن لحظات المجد لموسيقية الأثر المسرحي هي حدث. وهذا الحدث يحدث وقت الحدث المسرحي بامتياز، يعني زمن الفرجة. الموسيقية ليست إذن فعلا إنشائيا فحسب، بل هي أيضا ظاهرة فرجوية، تتجسد أحسن ما تتجسد بفعل المشاهدة وبتقبل المتقبل. هل تساءلنا ما الذي يحدث لو لم يستسغ المتفرج ما يقترح عليه من موسيقى ومن موسيقية؟ إن الصمم آفة المسرح. وهو أفة أشد إيلاما-بالمعنى الحرفي للعبارة- من العمى. و مخافة الصمم ليس مصدرها عدم سماع ما يقال فقط، بل أيضا عدم التمتع بموسيقية ما  يُسْمَعُ. أليس الاستمتاع بما سنسمع من أسباب حبنا للفرجة المسرحية؟ أخطأ خطأ بعيدا من ظن أن المسرح فن مشهدي فقط. إنه أيضا فن السماع. اسمعوا كبار النصوص! اسمعوا "الحلاج" من لدن صلاح الصبور، ولا أقول أحمد شوقي حتى وإن كان فيه مجالات، مناطق وسماوات من الجمال الآسر-وهل يمكن أن نصم آذاننا عن "مجنون ليلى" ! اسمعوا "رسالة الغفران"
                                    ١١
(عزالدين المدني) و "بيارق الله"(بشير القهواجي) ومن "العشق ما قتل" (حسن المؤذن) ! اسمعوا "غسالة النوادر" أو "عرب " (المسرح الجديد) ! أليست هذه وغيرها من بدائع الكلام من الموسيقية بمكان؟ والكلام الموزون ليس ذلك التي يستند إلى البحور والتفعيلات، ولا الإيقاعات والقوافي، وخاصة في مجال الكتابة الدرامية. وما يقال في الأوزان يمكن سحبه على الإيقاعات و الألحان والمقامات. ولو لم يكن المسرح سماع واستماع لما أنصتنا إلى نصوص "مرغريت دوراس" ولا ل "سمويل بيكات"، لا ل "نتالي ساروت" ولا ل "جان جيني"، ولا لغيرها من النصوص وهي كثيرة لا عد لها ولا حصر. وفي الضفاف الأخرى، في تلك العوالم التي نسيناها، ويا للأسف ويا لخسراننا، كيف يمكننا أن نسمح لأنفسنا أن لا نسمع كل تلك الموسيقية التي نسمعها في موسيقية "ماهاباراتا"، كيف؟ كلا ثم كلا، لا يمكن بأي حال أن لا نؤمن، وبكل الصفات وبكافة الصور، أن المسرح فن سماع أيضا. وهو فن سماع ﻷنه كما بينه لنا مولانا جلال الدين الرومي خير بيان استماع للحن الوجود والله والحق، انصات بالقلب
                                        ١٢
والجوارح والروح، إلى آيات الجمال وآلاء  الحياة. إلى أناشيد الكون وأغنيات الكائنات.

تعليقات