رائحة الميت

رائحة الميّت

 
بقلم : منذر العيني
 

 

كما لوْ أننّي أجلسُ عل صفيحٍ من زنك أقبعُ تحتَ صنوبرةِ الشّارعِ الخلفيِّ لأيِّ مدينةٍ ليستْ بالتحديدِ مدينةِ سوسة. الأشياءُ أمامي ضبابيّةٌ لا يُتقنُ وصفها أيُّ كاتبٍ مُحترفٍ و إن كانَ "غابريالْ غارسيا ماركيزْ".

صناديق فولاذيّة بحجمِ علبِ الثقاب السيّاراتُ تتراءى للشيخِ الجالسِ في الحديقةِ العموميّةِ تهمسُ الأوراقُ لهُ بِخريفٍ آخذٍ في الطّغيانِ.

اِرجِعْ إلى بيتكَ يا شيخ يا فتى يا طفلْ . أوّلَ الأمرِ أصابهُ نُضجٌ عارمٌ تذكّرَ زوجتهُ الميّتةَ أرادَ أن لايبرحَ المكانَ حتّى تأتيهِ حفيدَ تُهُ التّي نكصت كلَّ أعلامِ الفرحِ و راحتْ تبحثُ عن شهادةٍ جهنّميّةٍ لم تجدها إلاّ في الشّعرِ.

شاءَ أن يُهذي لأعراقِ البردِ السّاريةِ بينَ أجنحتهِ الكسيرةِ .

آهْ ياآبنتي ما أصعبَ طريقكِ إلى جهنّمَ الكلُّ يحسِبونكِ منهمْ  وأنتِ منّي فقطْ . خالفي رؤياهمْ و لا تقنطي.

الفتى الآنَ يسبحُ في ملحمتهِ المشهودةِ مرَّ عليهِ من مرَّ .

رآهُ منسجمًا معَ طقسهِ الوثني يُكلّمُ نفسهُ و يداهُ تعانقُ الحالةَ الجنونيَّةَ أرادَ أن يسلبهُ

_هل أستطيعُ إعانتكَ بشيءْ

_لا

_لماذا أنتَ مُضطربٌ هكذا ؟

_لماذا أنتَ مُصرٌّ هكذا ؟

_يالكَ من شيخٍ تافهٍ

_أنتَ الأتفهْ

_ و اللّهِ لأضربنّكَ أمامَ الخلقْ

_من كانَ جبانًا مثلكَ لا يستطيعُ قتلَ نملهْ

حينَ همَّ بإيذائهِ كانتِ الحلقةُ على مقرُبةٍ منهُ أسعفتهُ من حيثُ لا يدري تجمّعَ حولهُ الغُرباءُ و البحّارةُ و الهُمّشُ المعزولينْ. صرختُ في وجههِ : لا تعتدِ مرّةً أُخرى على أعمى إنّهُ يرى.

 

كُنتُ أحدسُ أنّهُ لا مفرَّ الآذانُ صدقتْ فعلها لم أتجرّأْ على قولِ ذلكَ إلاَّ حينما أتوْا جماعةُ مقهى الرّصيفِ أيَّ رصيفٍ في أيِّ مدينةٍ حتّى لا يُقالَ إنّها مدينةُ سوسةَ بالذّاتْ.

توارتْ خلفَ كعبها مرحُ الطّفولةِ أنعشهُ رحيقُ البحرِ المنبعِثِ مِنَ المرفإِ . الصِِّبيةُ الآنَ يُلاعِبونَ المراكبَ بِصنّاراتهمْ

و الأمواجُ تتدفّقُ مِنَ الأعماقِ تصطدمُ بالحافةِ لِتذوبَ ....

عِندما كنتُ صبيّا كانتِ الأيّامُ بالأبيضِ و الأسودِ فقطْ . الحُللُ التّي كستِ المراكبَ زاغتْ في بُؤْرةِ العينِ إلاّ الذّي زانهُ إسمُ "عائشهْ" كنتُ أعيشُ على وقعهِ وميلانهِ بينَ الموجِ.

لا ألمسُه إلاّ عندما تَغربُ الشّمسُ و يروحُ الأطفالُ إلى مأواهمْ أُلاطفُ تجاعيدها و أهمسُ لها حبيبتي عائشهْ سأراكِ غدا لا تبقَيْ كثيرًا في اليمِّ إنّي بآنتظاركِ .....حتّى الموتْ...

في الطّفولةِ المرءُ يرى بعينٍ كاملةٍ في الشّبيبةِ المرءُ يرى بِنصفِ عينٍ أمّا في الشّيخوخةِ المرءُ يرى بِشُعاعٍ واحدٍ إنّهُ شُعاعُ الموتِ ....

جلستْ بِجانبي كانَ الصّقيعُ يُرطّبُ أكمة الحكاية

_ أينكَ جدّي بحثتُ عنكَ في الزاوية المُعتادةِ لكنّك..

_ لن تجدني هذهِ الأيّام إلاّ هنا للخريف مكانهُ و للفصولِ الأخرى أمكنتها ألمْ تحدسي ذلكَ إنّكِ شاعرة و عليكِ أن تلتقطي ذبذباتِ الجنِّ تغمسينها في بركةِ الكلماتِ لِتُغنّي مثلَ عصافيرِ الجنّةِ

_ ما أجملكَ جدّي دائمًا عندما نلتقي بكائناتٍ نورانيّةٍ يتورّدُ منّا القولُ لِيضُدَّ الموتَ

_ الموتُ ؟ الموتُ اِبنتي طريقٌ السّالكةِ إلى العينِ فكّري في ذلكَ . عندما كنتُ أحطبُ في البحرِ كان الجميعُ ينعتونني الميّتَ و كنتُ أفرحُ لذلكَ . بينَ عتباتِ الموجِ الموتُ دائمُ التحليقِ يأخذُ ترنيمهُ من النوارسِ هنّ ملائكتهُ وهوَ سيّدهُم .

رغمَ صواعق الشّتاءِ لا ينزلُ البحرَ إلاّ الميّتُ جدّك و جماعتهُ الميّتين و عندما نعود مع دفق شعاعاتِ الجنّةِ على محيط شمس الشّرق. الجميعُ يُكرمون وفادتنا بشرابِ البلدْ :"مرحى مرحى أيّها الميّتونْ"

 

 

_ لقد حانَ الوقتُ جدّي

_إلى أين ؟

_إلى مضجعكِ أُخبركَ بما كتبت

_دعي عنكِ هذا وصفي لي حركيّةَ تلكْ ...المجنونهْ

_أينْ؟

_هناكْ

_منْ

_ تلك التّي ترى ما لا نرى تلكَ التّي تعبثُ الآن بالجمرِ أمامَ عيون السيّاحِ تفقّدي ناركِ إنّها هناكَ تلتمُّ مع ألسنةِ المرأةِ

_بالفعلِ إنّها ناري تنشدُ أغاني الفلاّحينَ بينَ الشّعوُر الصّفرِ

_زقزقي الآنَ معي أغنيةَ الصّبوةِ وآبقَيْ معي إلى أن يحينَ العودُ ستدرجنا أزمنةٌ و أخيلةٌ كانت بعيدةً عن كاتبِ الوصفِ.

كنّا على شفا رصيفٍ في المدينةِ أيّةِ مدينةٍ قد تكونُ سوسةَ

و قد تكونُ أخرى المهمُّ أنَّ تلكَ التّي لا تنتظرُ أحدًا إلاّ أولئك الشّعراءْ .

كما لو أنّني ألامسُ جسدَ المرأةِ التّي لاعبتْ ناري كانَ جدّي

يتنفّسُ ملءَ رؤاهْ نرجسيّتهُ الناّضجهْ وطفولتهُ البريئةَ و بينهما تُبرقُ عيناهُ ملحمةَ البحرْ ....

بكلِّ فخرٍ كنتُ ألجُ عُلبةَ الثّقابِ و أدفنُ رأسي في القبرِ....

اِنتظرتُهُ كما آنتظرتْ الإلهْ

......الميّتُ لم يمتْ الميّتُ لم يأتِ .......      

تعليقات