مقال الدكتورة جليلة الطريطر كاملا


استجابة لطلب القراء والمتابعين نعيد نشر مقال الدكتورة جليلة الطريطر كاملا حول المعطيات الخطيرة التي كشفتها عن المبخوت وجائزة الملك فيصل وقد سبق وأن نشرناه مجزءا نظرا الى أن المحامل الالكترونية لا تحتمل المقالات الطويلة 







شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم

                                                                     تسألونني ما ميزان العلماء؟ أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء،        
                                                                     أوّلها التّواضع و آخرها الأمانة
                                                                                                  جليلة الطريطر
                                                                                                   


شكري المبخوت جامعيّ تونسيّ  أضحى منذ بضع سنوات على الصعيدين الإعلاميّ  و المعرفيّ شخصيّة تبعث على التّفكير و التّساؤل،  فقد تعدّدت في سرعة شبه أسطوريّة وجوه بروزه، و تنوّعت مجالات حراكه . بدأ مسيرته العلميّة مهتمّا بنقد الأدب منجزا بعض الدّراسات الّتي واكبت في زمنها بعض قضايا النّقد الأدبي العربيّة في التّسعينات بما فيها مسألة السيرة الذّاتيّة[1]، و لكنّ الباحث غيّر فيما بعد وجهته المعرفيّة إلى الاهتمام المركّز بالنّقد اللّغوي و البلاغيّ حتّى أصبح عنوان اختصاصه في سياقه الجامعيّ. و تتمثّل النّقلة النّوعيّة الأولى الّتي استفاق عليها الوسط الجامعيّ و الثّقافيّ التّونسيّ في تتويج المبخوت بجائزة بوكر للرواية(2015) عن رواية  أولى تصدر له عنوانها  الطلياني. و لئن قوبل هذا التّتويج لدى بعض الموالين للمبخوت بالتهليل والتّرحيب لأنّ فوزه مثّل لديهم تتويجا لتونس؟!، فالسّؤال الرّئيس ظلّ معلّقا بلا جواب : كيف تمّت هذه النّقلة النوعيّة الحاسمة الأولى في ظلّ انعدام كليّ لممارسات أدبيّة سرديّة انتقاليّة تفسّر هذا النّجاح، و الحال أنّ الكتابة الإبداعيّة أبعد ما يكون لدى العارفين عن كونها "نورا يقذفه اللّه في القلم" فالرّوائيون الأفذاذ حبّروا آلاف الأوراق من أجل صقل مواهبهم بل  و تفرّغوا لمحنة الإبداع كلّ التّفرّغ.  و لطالما أنّ المسألة في هذه الحالة إبداعيّة صرفة فهي مرتهنة‑ بغضّ النّظر عن قيمتها الفنيّة الحقيقيّة‑  بدواليب سوق القراءة الإبداعيّة الحرّة، فحيثيّات الإبداع لا تهمّ القارئ بقدر ما يهمّه النصّ في ذاته و بذاته، لذلك ليس أمام المبخوت روائيا[2] غير التّحدّي الزّمني أو غرباله النّعيميّ و لا شيء غير ذلك.

 أمّا النّقلة النّوعيّة الثّانية و هي في رأينا الأعجب بكثير، فهي استفاقتنا الثّانيّة بعد سنتين بالكاد من تشكّل المسار الإبداعيّ المبهر على تتويج جديد( جائزة الملك فيصل في الأدب لسنة 2018) ينصّب المبخوت ناقدا عربيّا طلائعيا في اختصاص علميّ دقيق هو نقد السّيرة الذّاتيّة. هذه المرّة أيضا لم يخل الأمر من تهليل و تهريج  فيسبوكيّ، فقد استقبل الأمر في"تونس" لدى بعض الأطراف بالأريحيّة نفسها لا لشيء إلاّ   تعزيزا للامتياز التّونسيّ الّذي بات أمره وا عجباه في يد شكري المبخوت بامتياز؟ و لكنّ الأوساط الثّقافيّة العربيّة المختصّة ‑ ولا سيّما منها الوسط الجامعيّ المغربيّ‑ ، قد أعربت عن كبير استيائها ممّا آلت إليه نتيجة جائزة الملك فيصل في فرعها الخاصّ بالأدب لهذه السّنة من إخلال كبير بموازين العلم الصّحيحة في مجال لا يمثّل فيه المبخوت أيّ قيمة تذكر. ما يثير الغرابة أكثر أنّ هذا الخبر الجليل المبهج بذاته! لا يقدّم أيضا أيّ تفسير للوسط الجامعيّ المختصّ كيف تمّت هذه النّقلة المعرفيّة العملاقة في مجال غادره المبخوت منذ عقود( بداية التّسعينات) بعد العمل البادئ المشار اليه أعلاه ، بل و لا نعرف له فيه  إضافات متداولة تذكر في دورة سوق النّقد الجامعيّة تدارسها أهل الدّار، أو أدلوا فيه بدلوهم إن بالقبول                         و الاستحسان أو بالنّقد و التّجريح، فهل أصبح الإنتاج المعرفيّ العلميّ في هذا الزّمن  خاضعا هو الآخر للوحي المباغت و العمل في السرّ المطلق؟( من المفروض أنّ الأعمال التي تكرّم تكون قد استقرّت لدى المختصين  باعتبارها تمثّل إضافة حقيقيّة).

 لئن سلّمنا بوحي الإبداع فهل سنسلّم هذه المرّة اضطرارا بوحي العلم الذّي يبدو لنا اليوم أن بعض الجوائز العربيّة  الكبرى لا تعيره قيمة تذكر في تقييم المترشّحين، بما يشي بأنّنا نعيش على هذا المستوى أيضا منعرجا استثنائيا لا عهد للعلم و لا لأهله به لا يقلّ غرابة عن منعرجات خطيرة أخرى أصبح يشهدها الوضع التّاريخيّ العربيّ المعاصر. لقد تبيّنا أنّ المنجز السّيرذاتيّ النّقدي للمبخوت الأخير هو كتابان كتبا بفارق زمنيّ قياسيّ لا يتجاوز السّنة الواحدة(2016/2017) الّتي تفصله عن موعد المشاركة في سباق الجائزة المحموم، أضف إلى ذلك محدوديّة انتشار الكتابين و تداولهما في السّوق و بخاصّة الكتاب الثّاني منهما فهو تقريبا مجهول تماما في المكتبات التّونسيّة ، فما بالك بالخارجيّة منها، فكيف للمختصّين أن يطّلعوا عليه هنا و هناك بما يكفل حصول ترسّبات نقديّة يمكن الاطمئنان إلى جدّيتها؟ عنوان الأوّل أحفاد سارق النّار، في السّيرة الذّاتيّة الفكريّة[3]، أمّا الثّاني فهو  الزّعيم و ظلاله، السيرة الذّاتيّة في تونس[4].
وإنّنا  لنريد من موقعنا البحثيّ الجامعيّ المسؤول و التزامنا بهذا الاختصاص طوال حوالي ثلاثين سنة أن نقيّم  هذا العطاء النّقدي تقييما علميا موضوعيا هادئا لا يحفل بالتهليل الأجوف، و لا يهتمّ بما تسمّيه بعض الأقلام الجامعيّة غيرالمسؤولة ب "نجوميّة المبخوت العلميّة"[5] و نجاحه في تحويل الإنسانيّات إلى مجال                    " للاستثمار المادّي بما يجعله قدوة لشباب معطّل عن العمل فاقد للأمل"!

 إنّ المسألة العلميّة مسألة منوطة بالمسؤوليّة الثّقافيّة و مصداقيّة تطوّر المعرفة وفق أصولها المعلومة الّتي تحصّنها من السّقوط في العبث، فضلا عن كونها بالأساس مسألة اختصاص،  فمداخل العلم مرتهنة بممثّلي أنساقه المختلفة، لذلك فكلّ نصّ علميّ لا يزكّى حقيقة إلاّ بدخوله النّسق من بابه الكبير المتمثّل في استيعاب شروطه المعرفيّة و البرهنة على القدرة على التّموقع الموضوعيّ فيها، و توظيفها توظيفا علميا دقيقا،  و هو أمر لا يتلاءم  مطلقا  مع التّسريع المباغت في إنتاج المعرفة، و لا  يحصل إلاّ تدريجيا في ظلّ حوار صحيّ مع ممثّلي أعلام الاختصاص و اطّلاعهم على كلّ ما ينتج فيه من أجل تحقيق تطوّر في  منظومة البحث لا يكون إلاّ نسبيا، و ذلك وفق مبدإ التّرابط العضوي بين الإضافة الحقيقيّة  و التّراكم المعرفيّ داخل الاختصاص الواحد.

السّؤال الوحيد الّذي لا يمكنه أن يكون مباغتا في سياق ميزان العلم هو ماذا أضاف كتابا المبخوت الجديدان إلى سياقهما المعرفيّ؟ و كيف حاورا و تحاورا مع المنجز النّقدي السّيرذاتيّ العربيّ و التّونسيّ؟ خصوصا و قد جاء في تصريح المبخوت افتخاره ب"الانتماء إلى مدرسة تونسيّة نقديّة قويّة"، و هي شهادة قيّمة  في ذاتها، لا غبار عليها في الظاهر، ولكنّها تتطلّب بالخصوص الوفاء لمقتضياتها أيضا.

نذكّر بدءا بأنّ النصّ النّقدي الأوّل الّذي دشّن به الباحث دخوله حقل النّقد السّيرذاتيّ هو سيرة الغائب سيرة الآتي، السيرة الذّاتّية في كتاب الأيام لطه حسين. هذا النصّ هو عبارة عن دراسة تحليليّة نقديّة لأيّام طه حسين أنجز في سياق جامعيّ تونسيّ كان يشهد بداية اهتمام بنقد جنينيّ للسيرة الذّاتيّة من خلال رسائل بحث أوليّة تنجز بإشراف أساتذة الجامعة، فضلا عن دروس التّبريز الّتـي كان يلقيها المرحوم المنجي الشملي في الموضوع منذ الثّمانينات أو ما قبلها بقليل. و إليه يعود فضل التنبيه إلى الفراغ النّقدي المتّصل بهذا الحقل و هي شهادة اعتراف نذكرها للتّاريخ فمن لا ماضي له لا مستقبل له. و ليس غرضنا ها هنا أن نقيّم ما جاء في هذا الكتيّب الأوّل، فقد أحلنا عليه في أطروحتنا" مقوّمات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث" و ناقشنا منهجه و رؤيته البحثيّة و لم نتغاض عن إسهامه النسبيّ في طرح في ما يتعلّق بهذا المبحث. و إذ نعود إليه اليوم نقول إنّه كان يمثّل اجتهادا مشروطا بمرحلته و مستواه ، و لكنّه ظل إلى حدود 2016 يتيما في عطاء مؤلفه.

السؤال الّذي يعنينا اليوم هو ماذا أضاف الكتابان اللّاحقان إلى هذا الكتيّب الأوّل و بالقياس إلى ما تراكم من منجز نقديّ سيرذاتيّ ما بعديّ منهجيا و معرفيا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بأن تدلّنا على حقيقة صمت المؤلّف في هذا الموضوع طيلة أكثر من عقدين من الزّمن.  بل و انصرافه عنه تماما إلى التخصّص في اللّغويّات. لذا نبدأ باستعراض ما جاء في كلّ من الكتابين أوّلا بثان استعراضا يقوم على التّعريف بالمادّة المعروضة ثمّ إخضاعها للتحليل و النّقد بالاعتماد على مساءلة مرجعيّاتها النّظريّة البيبليوغرافيّة و آفاقها المعرفيّة المنهجيّة و الاصطلاحيّة و اخيرا مدى توفيقها في الانتهاء إلى قراءة نقديّة مقنعة و متجانسة تقدّم أجوبة جديرة بالتدبّر فيما يتعلّق بالقضايا المطروحة في مجالها.

I أحفاد سارق النّار ، في السيرة الذّاتيّة الفكريّة

يطرح هذا المؤلّف من وجهة نظر صاحبه مسألة السيرة الذّاتيّة الفكريّة بما هي مسألة تتصّل" بعموم السيرة الذّاتيّة و خصوصها" مقرّرا في ذات الوقت أنّ النّصوص الممثّلة للسيرة الذاتيّة الفكريّة الحديثة قليلة(نحن نسطّر) في الأدب العربيّ و قس على ذلك  الدّراسات المتعلّقة بها( أحفاد سارق النّار،ص.8 راجع الهامش أيضا). و يستنتج من ذلك حداثة هذا الجنس الأدبيّ زمنيا شأنه في ذلك شأن الرواية.
أمّا رهان البحث عنده فقام على تلازم جدلية المبحث التّطبيقي و المبحث النّظري التقعيدي الّذي من شأنه أن يطمح إلى الوقوف على منوال السيرة الذاتيّة الفكريّة بما هو جماع خصائص بنائيّة و أجناسيّة مؤتلفة تخضع لها ثوابت النصوص و متحوّلاتها. و قد اكتفى لرصد هذا المشروع الطموح بتحليل أربعة نصوص في الغرض هي، حصاد السّنين  زكي نجيب محفوظ مدعوما بقصّة عقل ،  و قصّة نفس، رحلتي الفكرية في البذور و الجذور و الثمر لعبد الوهاب المسيري، سيرة ذاتية فكريّة ل الحبيب الجنحاني، و أخيرا حمد بن عبد العزيز الكوّاري على قدر أهل العزم، سيرة فكريّة.

عقد المؤلّف فصلا أوّل بعنوان " قضايا في السيرة الذّاتيّة الفكريّة" على سبيل الانطلاق من تعريف لوجون للسيرة الذاتيّة بما تضمّنه من بنود يراد تفحّص السيرة الذاتيّة الفكريّة في ضوئها تأسيسا و مساءلة لما عسى أن تكون عليه وجوه التّطابق او الافتراق بين الجنسين المقيس و المقيس عليه. و هو ما أدّى إلى استخلاص تطابق بديهي بين المنوالين في خصوص المنظور الاستعادي المرتبط ب" تكوين الشخصية"[6](نحن نسطر)وتطوّرها( أحفاد سارق النّار، ص 14) لدى لوجون في نطاق خّط التّنامي الزّمني و تطابق أعوان السرد، ثمّ يتوقّف نقديا عند شرط " الحياة الحقيقيّة" مبرزا سذاجة هذا المفهوم لأنّ الحياة الحقيقيّة لا تتجلى إلاّ في الكتابة و بفعلها بما يخرجها من باب التكذيب و التصديق و يجعل منها مسارا زاخرا بالتحولات الفكرية ( اعتمادا على استعارة الحياة)و هو مسار يبنى بواسطة التّسريد الذي من شأنه أن يدرج السيرة الذاتية الفكرية في باب الأدب. الحياة الحقيقيّة تتجلّى أولا و أخيرا في صيغة الحبكة القصصيّة و بذلك يستبعد ان يكون هذا الجنس من قبيل الشهادة  الفكرية أو العمل التأليفي"( نحن نسطّر) الذي يقدّم سنوات من التّكوين الفكري ومن التحصيل و الكتابة التي تعبر عن اختيارات علمية              و ثقافية."(ص. 23). وتمّ تعليل استبعاد هذه الإمكانيّة على أساس " تسليمنا الضمني بأنّ السّير الفكريّة هي من الأدب(ص. 23). وحتّى يدعم المؤلف تسليمه بأدبيّة السيرة الذاتية الفكريّة انطلاقا من مقولة الحبكة فهو يفكّ التعارض الكائن بين الحبكة بما هي تخييل و المرجع بما هو واقع مستغلاّ مقولة " الهويّة السرديّة" ( نحن نسطّر) لبول ريكور، و رأي المؤرخ بول فاين  P. Veyne القائل بأنّ " التّاريخ قصّة أحداث و يترتّب على هذا كلّ ما تبقّى"(أحفاد سارق النّار ص26). و لمزيد دعم عدم تعارض التّخييل مع واقعيّة الحياة الفكريّة فهو يدحض تعارض الذاتي و الموضوعي من خلال الاستناد إلى عدم تعارض البناء الاستعاري مع " طبيعة الأنسقة التّصورية البشرية" في الدراسات العرفانيّة ( مستدلا ب جورج لايكوف و مارك جونسن.).
 مشروع السّيرة الذاتية الفكريّة يرسي على كونه مثل  أيّ مشروع سير ذاتيّ هو إعادة لبناء الذات وفق رؤية تتحكم فيها الذكرى الأولى، أو الحاسمة أو الاثنان معا، بما ينسف تماما تفسير الصبغة الفكريّة الّتي تبدو ممثّلة للخصوصيّة الأجناسيّة هنا. هذه الذكرى هي بمثابة "عقدة نقص" اتخذت بعدا مكانيا لدى الجنحاني(تعليم ازهري مقابل تعليم حديث)، و هي ضعف البصر لدى زكي نجيب محمود، و الموسوعة(موسوعة اليهود) لدى المسيري علما و أنّ الموسوعة هنا هي المشروع و سببه في آن!، أما الكوّاري فقد تعذّر إيجاد هذا الضابط في نصّه فاعتبر هذا الإخلال مدعاة لحمله محمل الطرافة! ثمّ خاض المؤلف في دوافع هذه الكتابة بما هي تجري على نقل الخبرة، التباري مع الزمن، التكفير عن الذنب التّحاور مع ذوات أخرى من خلال رسم بطولة الأنا  و كفاح الفرد او لنقل "قصص النجاح" التي تصل المؤلّفين بالصفة البروميثيّة( نسبة إلى بروميثيوس) بفضل تكريس حيواتهم للمعرفة و "صنع الإنسان الجديد." هكذا إذن نخلص إلى أنّ هذا التّنظير بجميع جزئياته قائم على بذل قصارى الجهد من أجل البرهنة على أنّ السّيرة الذاتية الفكريّة حكاية  و قول استعاريّ  من بعض جوانبه يبني أسطورة الأنا المعرفيّة على أسّ سيريّ بعيدا عن وهم الشّهادة و الوثيقة العلميّة لأنّ هذا الجنس هو ببساطة نص أدبيّ بامتياز.

ما يهمّنا خاصّة هو تفحص هذا المعمار النّظري و آليات إنتاجه فضلا عن مقدّماته ومصداقيته لأنّ ما جاء في تحليل النصوص الأربعة هو في التشريع لوجاهته. لهذا الغرض نعمل على تفحّص ما يلي :  مقدّمات البحث و مرجعياته النصيّة و النقديّة، خطّة البحث و إشكالياّتها النظرية و التطبيقية.

كلّ بحث علميّ جادّ و معمّق مضطرّ لكي ينزّل موضوعه في سياقه/ سياقاته المضيئة لنشأته و تطوّره             و رهاناته. فالقول بأنّ السيرة الذاتيّة الفكريّة بالذّات ظاهرة جديدة في الأدب العربي عموما و الحديث خصوصا أمر غير ثابت بالمرّة علميا ينبغي إثباته و التوثيق له و الاستدلال عليه، بل ويحتاج إلى دراسة متأنية لأنّ لا أحد ينكر وفرة نصوص كتابة الذات قديما و حديثا، و لكنّ الإشكالية تبقى في معايير تجنيسها و تصنيفها  و فهمها و في هذه الحالات كلّ شيء وارد.[7] بل نذهب إلى أنّ هذا القول يراد به في واقع الأمر الإيهام بجدّة المبحث و قدرة المبخوت على الإضافة النوعيّة فيه و الحال أنّ النّاقد المغربيّ محمد الدّاهي كان أوّل من درس الموضوع بجديّة و عمق  معتمدا مدوّنة متنوّعة النّصوص، فضلا عن أنّه كان أوّل من فكّر في وضع منوال أجناسيّ للسّيرة الذّاتيّة الذهنيّة في كتابه الموسوم ب شعريّة السّيرة الذهنيّة، محاولة تأصيل، و رغم ذلك فقد أوهم المبخوت بتجاوزه المنهجيّ للمقاربة المذكورة دون جديّة تذكر، فلا هو وسّع في المدوّنة المعتمدة، ولا هو قدّم تحليلا نقديا للموضوع يؤدّي إلى الإضافة المعرفيّة الحقيقيّة مثلما سنبيّن لاحقا.   

لم نر الباحث يثير الإشكال الأجناسيّ  المذكور أصلا متوهمّا و موهما بأنّ السيرة الذاتية الفكريّة أمر متّفق بشأن أجناسيّته الحديثة بما هو رديف مستقلّ لجنس السّيرة الذاتية الحديث، فضلا عن تأكيده غير المبرّر لقلّة نصوصه، و هي مسألة جوهريّة لا يمكن التغاضي عنها. و لعلّه يبرّر بذلك  اعتماده على أربعة نصوص لا غير لا يستقيم توظيفها لكشف شيء ذي بال. و قد حاول الخروج من هذا المأزق بمحاولة لاستيعابها ضمن شبكة من المقولات التي كانت بمثابة المصادرات الماقبليّة المسقطة وسيأتي نقاشها، فحتّى نص الكوّاري الذي لا يفهم في إطارها برّر إدراجه بأنّه طريف من حيث عدم استجابته لهذه المصادرات! أما محدوديّة البحوث النّقديّة في الموضوع الّتي يحيل عليها فمتعلّقة باقتصاره على استدعاء ما دلّ منها في ظاهر عنوانه على اختصاصه بمعالجة الجنس المبحوث فيه ( مثال محمد الدّاهي السّابق،               و نور الدين الصدوق، سير المفكّرين الذّاتيّة 2000،) و استبعاد ما سواها إن  سهوا أو عمدا.

هذا الأفق المعرفيّ الضيّق جدّا للنصوص و الدّراسات لا يمكنه إلاّ أن يؤدي إلى طرح مغلوط للقضايا النظريّة الكبرى، فالسّؤال عن غياب منوال للسيرة الذاتيّة الفكريّة( هذا إن سلّمنا بأنّها منوال أصلا، خاصّة و أنّ السيرة الذّاتيّة بحدّ ذاتها مناويل و ليست بالمنوال الأوحد و هي مسلّمة بديهيّة اليوم عند أهل الاختصاص)، و كلّ الاجتهاد الّذي أبداه المؤلّف من أجل المساهمة( المتواضعة) في بناء لبناته، بل                و حصره في مسألة التّسريد و الحبكة و ما إليهما هل هو سؤال وجيه في كلّ الحالات؟ بم نفسّر عدم اهتمام فيليب لوجون بطرحه أصلا فضلا عن الإجابة عن مقتضياته النظرية و هو " إمام السيرة الذاتيّة"؟              و العلاقة بين الجنسين عند المبخوت قائمة على عموم و خصوص؟ هل يمكن أن نفترض أنّ نصوص هذا الجنس منعدمة في تاريخ الثقافة الفرنسيّة مثلا؟ أم نفترض أنّ ها هنا بالذات كبا ب لوجون جواده فأغفل ما لم يغفله المبخوت ؟ لمّا كانت المرجعيّات الأجناسيّة في حالتنا هذه فرنسيّة خاصّة و أجنبيّة عامّة، فلم عدم  طرح هذا الإشكال و هو أساسي في بحث يرجو صاحبه أن يكون طلائعيا؟

بدءا لا بدّ من أن نؤكّد عن دراية تامّة  أنّ  ما يسمّى بالسيرة الذاتيّة الفكريّة لم يكن في نصوص المدرسة المؤّسسة ( جيل طه حسين/ راجع الجزأين 2‑ 3 من الأيّام) جنسا مستقلاّ بذاته فقد ورد مندمجا بل           و مكوّنا أساسيا لجنس السيرة الذاتيّة، كيف لا  و قد كانت المسيرة الفكريّة المعرفيّة هي الأسّ المترجم عن جدليّة الحوار العضوي بين التاريخ الفردي البيئيّ الموروث، و تاريخ الفرد الفكريّ المكتسب؟. إنّ إغفال هذا الجانب لا يؤدي في نظرنا إلى طمس مسألة  في غاية الأهميّة : مسألة التكوينيّة Genèseالأجناسيّة للسّيرة الذّاتيّة فحسب، بل إلى طمس معالم السّيرة الذاتيّة العربيّة و خصوصياتها الثّقافيّة البنائيّة                      و الايديولوجيّة القاعديّة، و هو ليس بالأمر الهيّن لمن هو مطالب بالإضافة المعرفيّة إلى كلّ البحوث                و الدراسات الّتي أثبتت هذا الجانب و أكدته، و على رأسها  مقومات السيرة الذاتية في الأد ب العربي الحديث[8] الّتي لا تستحضر مطلقا لا من قريب و لا من بعيد، و هو أمر أقلّ ما يقال فيه إنّه غريب مريب فيما يتعلّق بمرجع تأسيسيّ في الاختصاص، و لكن لنا عود إليه. و ينجرّ عمّا  أثبتنا أنّ التّسليم غير المدروس و المتسرّع( للإيهام بالرّيادة) بقلّة السير الفكرية الكمّي مردود على صاحبه بما أنّ تاريخ الفكر/ القلم يحيا في تضاعيف كلّ السير الذاتيّة  المكتملة، بل نراه خاصيّة عربيّة مميّزة لها من سواها، و لا عاقل يزعم اليوم أنّ عدد السّير الذاتيّة في الثقافة العربية الحديثة متواضع، بل نزعم أنّ السّيرالذاتيّة الفكريّة المستقلّة بذاتها لم تتنكّر أصلا لهذا الخطّ المزدوج  حتّى في حالات انفصالها الورقي هذه، و أفضل دليل أن نستعمل نص عبد الوهاب المسيري  نفسه المستحضر في مدونة المؤلّف الّذي لم يستطيع إثبات تعايش الذّاتي في الفكري دون استدعاء الحميم أو الفرديّ الخاصّ و مدّ الجسور (عبارة عن مقولات عنده مثل مقولة تراحم/ تعاقد) بين الذّاتي/غير الموضوعيّ، و الموضوعيّ / غير الذاتيّ، و لكنّها نسب و مقادير لا غير، لها أسبابها و مسبّباتها الّتي من شأنها أن تقتصد فيما هو ذاتيّ لصالح الفكري و العكس بالعكس            ( و هو ما يطرح حقيقة الاستقلاليّة الكاملة لهذه الكتابة بما يجعلها جنسا قائما بذاته إلى جانب السيرة الذاتيّة؟). و هذه الوضعيّة المخصوصة للسّيرة الذاتيّة الفكريّة الّتي أكدّها سعيد يقطين في مقدّمته لكتاب محمد الدّاهي في موضوعنا، تنكّر لها المبخوت من البداية( أحفاد سارق النّار ص62) دون رويّة أو إعمال نظر. 

 و لا شك عندنا أنّ سيرة العقاد بجزأيها المنفصلين ورقيا "أنا" و " حياة قلم" هي التي دشّنت الانفصال الورقي بين كتابة الذات و كتابة  تاريخ القلم لأسباب تكوينيّة Génétique هي الأخرى لها صلات وثيقة بالكتابة المرحليّة المتمثّلة في توظيف المقال الّذاتي لبناء السّيرة الذاتيّة ما بعديا، فضلا عن سياقات  إنتاجها التلفظيّة المرتهنة بتلبية رغبة متدخّلين في المشروع السّيرذاتي الخاصّ .
 لذلك يمكن أن نتحدث أيضا عن عبارة سيرة ذاتية قلميّة ( نحن أوّل من روّج للعبارة  المستقرأة من النصوص ذاتها) بما هي أوّل تعبير استعاري أجناسيّ منفصل. و بالفعل انهالت بعد هذا التاريخ السّير القلمية الذّاتيّة في الثقافة العربية الحديثة على وجهيها المتّصل و المنفصل لكتّاب و شعراء و غيرهم عبّرت تجاربهم الإبداعيّة عن علوّ شأنهم الثّقافيّ( نزار قباني/ صلاح عبد الصبور/ عبد الوهاب البياتي/ حنّا مينا / جبرل ابراهيم جبرا/  و القائمة تطول.)

أمّا فيما يتعلّق بالبحث المفتعل عن المنوال الأجناسيّ للسيرة الذاتيّة الفكريّة و ضرورة انتظار أزمان من التّطبيق لاستكشافه بالتعويل على حجر الأساس الّذي وضعه المبخوت، فإنّ الجواب عن هذه المسألة هو من تحصيل حاصل، إذ لمّا كان التّداخل بين السّيرة الذاتيّة الخاصّة و الفكريّة ضروري لدى المؤسّسين، فضلا عن كونه كان مظهرا حيويا من خصوصيّات السّير الذّاتيّة العربيّة المؤسسة للجنس، فإنّ التّسريد            و هو قوام البناء القصصي لحكاية الحياة سيكون في مثل هذا المنوال( الأوّل و غير الأخير) صالحا  بل هو هو في حالة إنتاج قصّة الفكر، حتّى و إن كانت منفصلة ورقيا. و نؤكد هنا من جديد أنّ قصّة الفكر متى كانت سرديّة قصصيّة(  وقد دلّ واقع النصوص أنّها ليست دائما كذلك) لا يمكنها في مثل هذه الحالة أن تستغني تماما عن عناصر الحياة الفرديّة من أجل استقراء الذّاتي في المعرفيّ أو القلميّ، بل نزعم أنّها تتأسّس بفعل آلية إسقاطيّة تجريديّة، تولّد من الوقائع الحياتيّة المستدعاة دون غيرها مقولات صوريّة  تسعى إلى إيجادها في مسارات المغامرة المعرفيّة. و لا يخفى على المطّلّع غير المتعجّل لقضاء أمر ما المتشبّع بالنصوص العربيّة حقيقة أنّ مسار التّسريد ليس صرفا بل تتخلّله دائما محطات موضوعاتيّة (thèmatique) ضروريّة لضبط الثوابت، و عدم الاسترسال في السّرد بما من شأنه أن يطمس هذه الثوابت في مجريات السرد الحدثيّة المتعاقبة. لذلك كلّه فبنية الخطاب السّيرذاتيّة  تقع في منطقة وسطى بين القصّة السّرديّة و المقال ذي البنية المنطقيّة المؤسّسة على نظام ضبط الأفكار[9]. ف عبد الوهاب المسيري مثلا يصرّح بوضوح أنّ سيرته الفكريّة لم تنسج على منوال  الحبكة القصصيّة الصرفة، بل هي أقرب إلى البناء المنطقي الغرضي"... لكلّ هذا ابتعدت عن السرد المباشر لأحداث حياتي المتعاقبة                  و مراحلها المتتالية و حاولت بدلا من ذلك أن أعرض لها من خلال الأنماط و القضايا و المقولات التّحليليّة و الموضوعات الفكريّة الكامنة المتواترة في كتاباتي و حياتي " ( نحن نسطّر).

لقد تجشّم المؤلّف عناء كبيرا لا فائدة منه ليقنعنا باجتهاده الخاصّ في تعيين أدبيّة السيرة الذاتيّة الفكريّة  انطلاقا من البرهنة على تلبسّ خطابها بالحبكة أساسا، وبالأسلوب الاستعاري من ناحية أخرى، و تبلورها الدّلالي بفضل تشكّلها في البنية السّرديّة التي تفرز  ضرورة هويّة سرديّة يمحّض فيها التّاريخي لصياغة تخييليّة  تشف عن معاني البطولة الفرد/ أسطورته البروميثيّة. و لنا  في هذا المستوى بالذّات ملاحظات أساسيّة  و احترازات مرجعيّة مخيّبة للآمال في هذا البحث.

أوّلا إثبات الأدبيّة لما هو شكل قصصيّ واضح، أو الاستدلال بما هو قصصي على الأدبيّة  لا طائل من ورائه فالحبكة mythos بما هي مفارقة للحكمة Logos تعتبر  منذ القديم(أفلاطون أوّل من فصل بينهما) و في الحديث أيضا مثلها مثل الشعر من مقوّمات الأدبيّة التّكوينية[10]. أمّا المشكلة الحقيقيّة فهي تحديد الأدبيّة خارج هذا السيّاق[11]. فالإشكال الحقيقي هل تكتب السّيرة الذاتيّة الفكريّة خارج منوال الحبكة القصصيّة، هل من نماذج؟ نصّ عبد الوهاب المسيري أنموذج في حاجة إلى المراجعة من هذه الناحية. كيف نحدّد معيار الأدبيّة من عدمها في هذه الحالة؟ . المؤلّف لم يكلّف نفسه  استدعاء هذا الأفق الأجناسي و البحث الجادّ عن نصوصه بل راهن على غلقه تماما مؤكدا من شبه فراغ (4 نصوص) أنّ السيرة الذاتية الفكريّة في الثقافة العربيّة لم تكتب سوى على منوال القصّة، و هو عنده منوالها الأوّل و الأخير المفسّر لأدبيّتها و لا شيء بعد هذا القول الفصل! و بالتّالي فقد استبعد كلّ النصوص الّتي تجيء تحليليّة منطقيّة تفسّر و تؤؤّل و توثّق و هو منهج انتقائيّ يقوم على التمويه لا على الاستقصاء العلميّ الرصين( راجع إنكاره على نور الدّين صدّوق البحث في هذا التوجه التوثيقي بحجج واهية. أحفاد سارق النّار ص 55) لأنّ من خصوصيّات السّير الذهنية شرح التّرابطات الفكريّة داخل أنساق المعرفة الخاصّة و لا شيء يمنع أيضا من اكتفائها بذلك دون اللّجوء إلى إقحام الذاتي بمعنى القصصيّ الأسطوريّ. نصّ حياة قلم مثلا في كثير من وجوهه لا يعنى بالربط بين الفصول بل و يتجلى أحيانا على نحو فسيفسائي تختلط فيه مقالات الحياة القلميّة بلوحة من البورتريهات لمعاصرين( ابراهيم عبد القادر المازني، طه حسين..) تكاد تكوّن جزرا بذاتها قابلة للاقتطاع من النّص دون ضرر يذكر[12].

ثانيا إنّ هذه  الانزلاقات المنهجيّة و المعرفيّة الدّاّلة على الاختزال و التسرّع نتيجة قلّة معرفة واضحة بالمجال المدروس ازدادت تأكّدا لدينا من خلال اقترانها  بأنماط من التّقصير في الإحاليّة البيبليوغرافيّة أكثر خطورة، خاصّة و أنّ دعامة أيّ بحث هو جهازه الإحالي. نفصّل القول في هذا الموضوع بما يلي من النّقاط :

1 محدوديّة الاطّلاع غير المقبولة على حاصل المنجز السّيرذاتيّ النّقدي المتطوّر بما فيه منجز لوجون نفسه بما لم يتجاوز طور السبعينات( العقد السّيرذاتي 1975). / جورج ماي (1979) النقد الأجناسي           ( جونات 1980) بقية الإحالات المتعلقة بمراجع عامّة توقفت في 2010. راجع  القائمة البيليوغرافية ص ص 279 ‑ 280. و هو ما يدلّ على أنّ صاحب البحث لا يهتمّ رأسا بهذا المجال، و لا يواكبه معرفيا إذ لم يتطور قيد أنملة مقارنة بتوثيقه في سيرة الغائب سيرة الآتي. و لهذه الملاحظة تبعاتها المعرفيّة إذ لا يربط  المؤلّف بين مختلف المناويل البنائيّة الشاهدة على تطوّر الكتابة السيرذاتيّة عموما و لا يتحرّك في ضوء مرونتها، بما يجعل أحكامه النّظريّة المطلقة غير مستجيبة بالمرّة لشروط تطوّر التّنظير المعرفيّة في هذا الاختصاص، و هو ما يكرّس في مؤلّفه تراجع كلّ المنظومة النّقديّة العربيّة و تعطيل تقدّمها قياسا لتطوّر منظومة النّقد السيرذاتيّ العالميّة، فضلا عن مطلق العجز عن مناقشة خصوصيّات النّصوص العربيّة الإبداعيّة  لغياب أفق حقيقيّ يحاور منه نماذج أخرى خارجيّة. و أهمّ هذه المناويل المتطوّرة الخروج عن بناء الحبكة المتماسكة في صياغة قصة الحياة و حتى قصة القلم بما يجعلها نصوصا شذريّة متقطّعة هادمة لأسطورة الذّات سواء في الأدب العربيّ[13]، أو الأدب الأجنبي . و لا شكّ أنّ الاطّلاع على المنجز النّقدي لأعلام الرواية/ السّيرة الذّاتيّة الجديدة مثلا[14] من شأنه أن يوسع من أفق الناقد و يمكّنه من تحيين معارفه حتى لا ينزلق إلى أحكام عامّة( السيرة الذّاتيّة قصّة) و قراءات ضيّقة الأفق في ثقافته، لا تتغذّى من الحوار النصّي الأجناسيّ مع الأنساق الأجنبيّة المتطوّرة.

2 التّمركز الإحالي حول الذّات. لئن كانت إحالة الباحث على أبحاثه أمرا مستساغا لبيان تطوّر مساره         و نقده فإنّ عودة المبخوت إلى نفسه بالإحالة خالية من كلّ تدبّر و من باب اختصار الطرق المخلّة، فهو  ينقل تعريبه الوارد في نصه الأول لتعريف لوجون و فيه يعرّب تاريخ الشخصيّة ب"تكوين الشخصية         (احفاد سارق النّار هامش ص 14) و شتّان ما بين التكوين و التاريخ، بل العبارة المعّربة تنمّ عن نسف كامل للتعريف الأصلي، فمربط الفرس هو قول لوجون بأن خصوصيّة السيرة الذاتيّة تكمن في استيعابها لتاريخيّة الشّخصية( مقولة جديدة حديثة) بما هي فردية لا تتكرّر في سياق تاريخي أروبيّ مخصوص.             و في مظهر  آخر من الغفلة  و الاطمئنان لمنجز نقديّ كان يتعيّن مراجعته[15] يحيل على تجنيس للأيّام تجاوزه الدّهر لا يمكن أن يثيره غير من انقطعت به الطريق منذ زمان عن الاختصاص،  و مقابل هذا  الرضا النّرجسيّ عن النّفس، فهولا يستدعي من النقاد العرب ( الداهي/ صدّوق) إلاّ من كان منهم هدفا للدّحض  و التخطئة على ما بذلوه من مجهود. و لنا في وقائع الحاشية خير مثال.

3 قرصنة المرجعيّات المنهجيّة الكبرى. أخيرا لا يسعنا إلاّ التّعبير في هذا المستوى بالذّات عن أسفنا الشديد و نحن نقرأ ما في هذا المؤلّف من تنكّر صارخ  لبعض أعلام المدرسة التونسيّة في موضوعه، علما و أنّه هو الّذي صرّح لوسائل الإعلام إبّان فوزه بالجائزة بانّ" قوّته من قوّة مدرسته"! فكيف ذلك يا ترى؟
أوّلا لا يسع أيّ باحث نزيه إلاّ التّعجب من خلو هذا البحث بالذّات تماما من إحالات جادّة و معمّقة على نصّ مؤسّس في الجامعة التّونسيّة للسيرة الذاتيّة في الأدب العربيّ الحديث : مقوّمات السيرة الذّاتّيّة في الأدب العربيّ الحديث. و هو مطلب لا يمتّ بصلة للاحتفاء عندنا بالذّات، و إنّما هو متّصل بشرط معرفيّ يجعل البحوث الّتي لا تتموقع في أنساقها كائنة خارج أطر المعرفة العلميّة المبنيّة أساسا على التّراكم                و المحاورة. فنصّا المبخوت معا  يلتزمان صمتا مطلقا حيال مدوّنة نقديّة بعينها، فلا عين رأت و لا أذن سمعت. و قد تبيّنا بوضوح أنّ هذا الصمت المريب كان من قبيل إعداد الظروف الملائمة لقرصنة هذه  الباحثة التونسيّة الّتي لا تهمّه أشغالها لأكثر من عقدين من الزمن إلاّ ظاهريا، فلا شيء يضاهي غيابها المحتوم غير حضور مجهودها النّظري المستور، متمثّلا في استدعاء المبخوت و توظيفه لمقولة الهويّة السرديّة في استنطاقه  لنصوص السيرة الذّاتيّةّ على نحو أقلّ ما يقال فيه إنّه استدعاء يبرهن عن سوء فهمه للمقولة ، وهو بصدد التّمويه بأنّه لم يطّلع عليها بل و يوظّفها في السيرة الذّاتيّة معوّلا على مجهوده الخاصّ المتمثّل في استدعاء مقتطف  ل ريكور من هنا و آخر للتزكية من بول فاين من هناك(ص)،              و هي استراتيجيّة  لا يمكن أن تنطلي إلاّ على جاهل، و لكنّها ممّا يفسّر تعاطي الكتابة "النّقديّة المباغتة." المبنية على التموقع المتعجّل في غير الاختصاص، و التّعويل على جهود الآخرين مع تعمّد عدم الإحالة عليهم.

 إنّ جليلة الطريطر الباحثة التونسية الّتي لا تهمّه أشغالها الممتدة على حوالي ثلاثة عقود من الزمن هي أوّل من استدعى فعلا مقولة " الهويّة السّرديّة"  لبول ريكور إلى مجال دراسة السيرة الذاتيّة في الثقافة العربيّة، و قد كان ذلك يمثّل إسهامها الخاصّ منذ أواخر التّسعينات في مباحث السيرة الذّاتيّة داخل اطروحتها المعروفة. و هو ما يعني أنّ جلب المقولة و توظيفها في غير مجالها كان تعبيرا عن قراءة منهجيّة جديدة للمفاهيم السيرذاتيّة السائدة، و جلّها كان واقعا وقتها تحت سلطة المدرسة البنيويّة                      و الدّراسات الشّعريّة الّتي تنزّلت فيها مقولات لوجون و كلّ نماذجه التّطبيقيّة، حتّى  النقّاد الفرنسيون لم يناقشوا فرضياته المنهجيّة الشّعريّة لأنّهم مثل"إمامهم" يتحرّكون داخل الدّائرة الشّعريّة نفسها، و لم تكن خصومة جورج غوسدورف مع لوجون إلاّ مقدّمة انشقاق في مسألة الأصول الأجناسيّة للسيرة الذّاتيّة خاصّة، و في أبعاد هذه الكتابة الأنطولوجيّة عامّة. أمّا البحث في مشكليّة مدى مشروعيّة اعتبار كلّ محكي( وإن كان تاريخيا)  متخيّلا بالضرورة، فهو ما لم يمثّل رهانا يذكر في سياقه الفرنسيّ.إلى وقت قريب جدّا. و توثيقا لما نقول، فإنّه كان ينبغي لنا أن ننتظر إلى ما بعد الألفيّة الثانية  حتّى يصرّح لوجون نفسه فيما يشبه " سيرته الذّاتيّة النّظريّة"Signes de vie, Le pacte autobiographique 2, 2005 أنّه قد أخطأ التّناول، بل و يتراجع في نوع من جلد الذّات. 

هذا الكلام ليس زعما و ليس من باب الامتداح الكاذب للذّات، بل هو موثّق هنا من ناحيتين لا لبس فيهما، الناحية الأولى قائمةّ في متن نصّ مقوّمات السيرة الذاتيّة في الأدب العربي الحديث[16] ذاته. ذلك أنّ الباحثة المذكورة راهنت أساسا على توسيع دائرة النقد اللوجوني بالخروج من فلك الشّعريّة البنيويّة  المنغلق على ذاته إلى رحاب التقريب المرجعيّ الواقعيّ بين كتابة الذات و كتابة التّاريخ. فكان بول ريكور واسطة هذا التّقريب. و هو ما أدّى إلى تأكيد القيمة التعريفيّة للملفوظ السيرذاتي فضلا عن توسيع مرجعيته من دائرة الدلالة الأسطوريّة إلى الدلالة التاريخيّة. صفحات و فصول كاملة حبّرت للغرض اهتدت فيها الباحثة  بعد قراءات متأنيّة وعسيرة لمؤلّفات بول ريكور المتعدّدة في لغتها الفرنسيّة إلى أنّ المسألة التعاقديّة المرجعيّة لدى لوجون[17] غير مقنعة طالما تؤول إلى معاملة النص الّسيرذاتيّ نظريا و تطبيقيا معاملة المتخيّل الرّوائي( باعتباره صوتا ميثيا »Voix mythique/ ). أمّا الحقيقة التّاريخيّة الثانية الّتي لا لبس فيه ايضا فقد جاءتنا اليوم من لوجون نفسه، و هو المولع بالاعتراف و انتقاد الذّات و مراجعة نظريته المستمرّة بما يدلّ على عظمة قدره العلميّ. إنّه الاعتراف الصريح بصحّة التّمشي المنهجي الّذي تمّ  اعتماده و وجاهته المعرفيّة، و بذلك أثبت لوجون نفسه ما بعديا الرؤية النّقديّة الّتي استدللنا عليها في زمن لم تكن فيه دراسات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ قد قطعت أشواطا نقديّة لافتة، فضلا عن تبعيتها النّظريّة المطلقة للعلم المذكور الدّائر في فلك الشّعرية.

هذه قرصنة أولى منافية لأخلاق العلماء، تبعتها ثانية اتّضحت في استحضار الشبكة البلاغيّة متمثّلة في الاستعارة لتوصيف الأنموذج السيرذاتيّ أسلوبيا. هنا بالّذات  عدنا إلى نصّ المبخوت سيرة الغائب سيرة الآتي[18] فتبيّنا بما لا يدعو للشكّ، أنّه عندما فصّل القول فيما أسماه ب" نحت الأنموذج" في السيرة الذاتيّة حلّله على قاعدة دلاليّة صرفة ممثّلة بأنموذج البطولة و تبعاتها المعنويّة. أمّا عندنا فكان توظيف العبارة  يعني شيئا مختلفا، ألا و هو القول بأنّ المسألة التعريفيّة الّتي تنهض بها الهويّة السرديّة تتشكّل أسلوبيا في نسيج بلاغيّ استعاريّ يكشف عن الصورة التمثيليّة للهويّة السرديّة/ السيرذاتيّة[19]. و هذا هو المفهوم الّذي استعاره المبخوت  و عمّمه على تحليله لمدوّنة زكي نجيب محمود دون أيّ إشارة تذكر لجهودنا المنهجيّة و في هذا السياق يعود من جديد إلى استراتيجيّة التمويه محيلا إلى لايكوف و جونسن(أحفاد سارق النار ص ص 87‑ 88) و  معدّدا وجوه الاستعارة لديهما بما لا يفيد شيئا في مستوى التّفطّن إلى إجراء المنهج المذكور في السيرة الذاتيّة على المعنى الّذي ذكرناه. هذا التوجّه الاستعاري كان هو الآخر وجها من وجوه نقل ما عبّر عنه ريكور بال"الرؤبة الاستعاريّةLe voir comme  بمفهومها العرفانيّ إلى مجال السيرة الذّاتيّة لاعتقادنا بأنّ المحكي هنا ليس تخييلا بمعنى هو نصّ أدبيّ قائم على محض الاختلاق.

لقد عمد المبخوت في الحالتين إلى التّمويه و التّعتيم موهما بأنّه يستنبط المقولات و يطبّقها بالعودة مرّة إلى بول ريكور نفسه و بول فاين، و مرّة إلى لايكوف و جونسن مرّة ثانية ، فكيف يتأتى له ذلك بمثل تلك السهولة اوّلا  و مرجعنا متاح  مباح للقراءة قرأه الطلبة فكيف بالأساتذة؟ ، فإن كان لم يقرأه فهذا ممّا لا يؤهله لأن يكون علما داخل نسق محكوم بالتراكم و التطور، و إن كان قرأه( ولا شك في ذلك) فلم المكابرة و نكران جهود الآخرين و التّبجّح بالانتماء إلى المدرسة التّونسيّة الّتّي يعيّن بنفسه من هم أعلامها، هذا إن كان لهذا التّعيين من قيمة تذكر!
كان يكفيه أن يحيل على المرجع المذكور و يمرّ، فضلا عن ضرورة محاورته بل و الإضافة  مبدئيا؟ لعلّه ممن ينطبق عليه قول الآية الكريمة" اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم". و من كان يسير في علمه بهذا الشكل لا يمكن أن نثق فيه مطلقا. و بالفعل ففهم الهويّة السرديّة ظل عنده دائرا على التّعرف الأسطوري للذّات في السرد في حين فرّق ريكور جذريا بين مرجعيّة الحبكة التّخييلية الصرفة            و مرجعيّة الحبكة السرديّة المؤسّسة على الوقائع التاريخيّة Lieutenance بما لا يجيز سقوطها في فهم ينعت بالأسطوري. بل إنّ الدّراسات النّقديّة الغربيّة الأخيرة في الموضوع سائرة بثبات نحو استخلاص الأبعاد الاجتماعيّة و الثّقافيّة و الأخلاقيّة و التّاريخيّة فضلا عن البلاغيّة الكامنة في الهويّة السرديّة متى تعلّقت بمحكيّات الحياة الفرديّة.
 أمّا الدليل الآخر على هذه القرصنة العجلى فهو اختزاله المخلّ لكل الملفوظات التاريخيّة في مقولة الحبكة على رأي بول فاين  وعدم تفطنّه أيضا، لو كان من المطّلعين حقّا على بول ريكور إلى خلافيّة الحبكة التّاريخيّة عنده فضلا عن أنّ مدارس التاريخ الحديثة و على رأسها مدرسة الحوليّات École des annales الّتي بحثت في التّاريخ بما هو مدى طويل، قطعت صلتها بالميتوس نهائيا مثلما فعلت الرواية الجديدة تماما. لذلك فاختزال كتابة الذات سواء كانت كتابة حياة أو فكر في الحبكة القصصية المؤسطرة للحياة محض وهم تجاوزته المحاولات التجريبيّة الأوربيّة تماما بما في ذلك النقد الحديث[20]. بل  تسير حركة النقد التاريخيّة  نحو إعادة استيعاب محكيات الذات ضمن هواجسها المنهجيّة من أجل إيجاد الروابط بين التاريخ منظورا إليه من الداخل، و التاريخ منظورا إليه من الخارج.  و هو ما يبوّئ مقولة الشّهادة اليوم موقعا مركزيا في فهم كتابات الذّات خاصّة  و التاريخ على نحو أعمّ.

و إجمال القول في هذا كلّه هو أنّ البحث عن تحديد منوال واحد للسيرة الذّاتية الفكريّة، سؤال لا يطرح لأنّه ينبع من سوء فهم لجوهر الكتابة الأدبيّة بما هي كتابة سياقيّة متطوّرة و متحوّلة باستمرار. و لا شكّ أن وضعيّات أدب الذّات بما هي كتابات موضوع اهتمام اختصاصات متعدّدة أشدّ تعقيدا على مستويي الإنشاء و المقاربة المفاهيميّة و الوظيفيّة من الرؤية الاختزاليّة الّتي أريد للقارئ أن يقع ضحيّتها. وما تبسيط  هذه الوضعيّة إلاّ نتيجة مباشرة لوقوع الباحث شكري المبخوت خارج هذه السّياقات و تعويله على الحذلقة الأسلوبيّة  و المراوغات، فضلا عن أنّه يشتغل بزاد متهرّئ من معلومات بدائيّة أوّلية  من أجل بناء فرضيات مسقطة و إخضاع حفنة من النصوص لها إخضاعا (آنظر مثلا استبعاده للقيمة الوثائقية دون دراسة من خلال قوله" تسليمنا الضمنيّ بأن السّير الفكريّة من الأدب؟" ص 23. ومنهج المبخوت قائم أساسا على ما يعرف بالمصادرة على إثبات المطلوب، و هو نهج من الاستدلال الدائريّ المبني على المغالطة لأنّ  مقدّماته النظريّة تحتوي ماقبليا على ما يراد إثباته،  بما يجعل النقاش النّظري عنده دائرا في شبه فراغ،  إذ ينتهي إلى حملنا على التّسليم بالمقدّمات المفترضة و كأنّها بديهيّة أو منزّلة تنزيلا بلا أيّ استدلال مثل قوله المذكور أعلاه ب"بتسليمه الضمني بأنّ السّير الفكريّة من الأدب "!)،  و هذه المنهجيّة أضحت في نصّ ظلال الزّعيم  خصيصة ثابتة في تجنيس ما يسمّيه " نصوص السّيرة الذّاتيّة" مثلما سنبيّن لاحقا.

II الزّعيم و ظلاله، السّيرة الذّاتيّة في تونس

راهن المبخوت في هذا النصّ ( وهو يحاكي في العنوان الفرعي من جهة، فيليب لوجون طبعا! و يعوّل من جهة ثانية في العنوان الرّئيس على بلاغة الداهي في فصله المعنون ب" الذّات و ظلالها"، آنظر الحقيقة الملتبسة، 2007 ص.)على إنشاء نصّ بكر يؤسّس‑ بفارق سنة واحدة من كتابته ل  أحفاد سارق النّارل  السّيرة الذّاتيّة في تونس ( عنوان فرعيّ/ غير محدّد تاريخيا).  و هو مبحث تأليفيّ تحليليّ بلا شكّ يتطلّب إلماما واسعا و مدقّقا بالنّصوص الذّاتيّة لا في تونس فحسب بل و في الثّقافة العربيّة عامّة. و نحن لا نعرف أيضا للمؤلّف اهتماما سابقا بتقديمها أو بنقدها. لذا فنحن هنا أيضا أمام  لغز جديد، وعذرنا أنّنا لانزال نعتقد أنّ النّقد علم يتطلّب طول النفس و المتابعة المسترسلة لسنوات طويلة، فضلا عن ضرورة التزوّد بجهاز مفاهيميّ محيّن و دقيق، إذ بات النّقد اليوم خطابا عالميا لا عبرة فيه بتنوّع الثّقافات وحدها إذا كانت أدواته غير محيّنة او غير دقيقة بما يجعلها واقعة خارج المواضعات العالميّة المشتركة. لذا فالسؤال المطروح هو : كيف واجه المبخوت الرّهان في سنة واحدة؟

خضعت دراسة النصّ المعني إلى تقسيم من ثلاثة أبواب : باب أوّل هو بمثابة مدخل إلى ما يسمّيه المؤلّف " الفضاء السّيرذاتيّ بتونس"، و ها هنا مشكلة أولى تمثّلت في أنّ العبارة هي في الأصل ل لوجون قصد منها كيفيّات توظيف السيرة الذاتيّة و أدب الذّات عامّة للوقوف على تقاطع المرجعيّ الذّاتي  مع المتخيّل الرّوائيّ، و لكنّ العبارة المقرصنة هنا حوّلت عن وجهتها الأصليّة باعتراف المحوّل لها لتفيد ببساطة           " سياق السيرة الذّاتيّة التّاريخيّ العامّ"، فيصبح حينئذ السؤال المنهجي قائما على النحو التّالي، ما فائدة هذا التّداخل الاصطلاحيّ الذّي سيعطّل حتما نسق الفهم و يشوّشه بالتساؤل كلّ مرّة أين نحن من المفهومين؟ خاصّة و أنّ كلمة سياق واضحة تفي بالغرض. فلعلّها‑ فيما نرى‑ صورة التّماهي الأولى مع "الإمام"           و قد تهيّأت بتشكّلها في اللّبوس اللّغويّ! . أمّا الباب الثّاني فهو في ما أسماه المؤلّف ب " السّيرة الذّاتيّة السّياسيّة" و فيه اقدم على التّشريع لاعتبار سلسلة المحاضرات الّتي القاها الحبيب بورقيبة أمام طلبة شعبة الصحافة في مدرج كليّة الحقوق 1973‑ 1974 و عددها تسع، أوّل "سيرة ذاتيّة شفويّة" تامّة الشّروط؟(كذا)(على معنى مطابقتها تمام المطابقة لتعريف لوجون؟ هذا التعريف الذّي لم يكن غير استقراء لمنوال اعترافات روسو و هو قياس يثير على الأقل مشكلة الخصوصية الثقافيّة و بالتّالي مشروعيّة القياس ذاته)في تونس، تحدّدت إلى اليوم بالقياس إليها كلّ نصوص السيرة الذّاتيّة التونسيّة الحديثة. و قد جاء  نص البشير بن سلامة، عابرة هي الأيّام، بمثابة سيرة ذاتيّة، مدلّلا في نظر المبخوت على أنّها " سيرة ذاتيّة سياسيّة" يتحرّك صاحبها / العابر في ظلال الزعيم الّذي نجحت أسطورته الذّاتيّة في تقزيم كلّ من سوّلت له نفسه الاقتراب من ناره الحارقة.

أخيرا تعلّق الباب الثالث بمعالجة "سيرتين ذاتيتين" وسمتا هذه المرّة بالأدبيّتين، أولاهما رجع الصّدى ل محمد العروسي المطوي، و ثانيتهما حنّة ل محمد رجب الباردي. و كلتاهما لا تختلف عن سيرة بن سلامة في انضوائهما مابعديا‑ حسب المؤلّف‑ تحت هيمنة ظلال الزّعيم بشكل أو بآخر. و الحاصل من هذا المحتوى المختصر هو أنّ المبخوت يعتبر المحاضرات /الخطب؟ البورقيبيّة بما هي سيرة ذاتيّة معيارا تاريخيا            و مضمونيا أوحد لتقييم أيّ  نصّ تونسيّ كان في السيرة الذّاتيّة.  هنا أيضا – وقبل الدخول في النّقاش المفصّل‑ لا نملك إلاّ التّساؤل في شيء من الاستغراب المحيّر عن وجه الحكمة من تصنيف السيرة الذّاتيّة هنا إلى" سيرة ذاتيّة سياسيّة" و أخرى أدبيّة؟ و نشهد أنّنا على طول فترة تمرّسنا  بأدب الذّات غربيّه             و عربيّه لم نقف  يوما على تصنيف مثل هذا، فكيف تكون السيرة الذاتيّة سياسية ياترى؟ بأيّ  معيار؟             و كيف لها أن تكون أيضا أدبيّة؟ و هل هذا ينفي ذاك؟ بل هل يجوز هذا الوسم أصلا بالنّظر إلى مفهوم السيرة الذاتيّة الّذي وضعه لوجون و أقرّ المبخوت اعتماده؟ أليست أهميّة الهويّة السّرديّة قائمة في كونها معيارا سرديا في إنتاج معرفة بالأنا مادّتها الحكائيّة السطحيّة ليست غير أداة عرضيّة لأنّها متغيّرة من نصّ إلى آخر؟

بداية نشير إلى أنّ السّؤال المشكليّ الأساسيّ الّذي يطرحه رهان هذا الكتاب، قائم في نطاق "الاستدلال" على فرضيّة المؤلّف القاعديّة المتمثّلة في اعتبار محاضرات/ خطب بورقيبة تكوّن بما لا شكّ فيه أوّل سيرة ذاتيّة في تونس الحديثة، بما توفّر لها من سياقات خارجيّة اوّلا، و ما توفّرت عليه من خصائص أجناسيّة تكوينيّة ثانيا تجعلها مستجيبة‑ مع تحويرات قرّرها المؤلّف‑ للمفهوم اللّوجوني للسّيرة الذّاتيّة               ( نحن إزاء السّيرة الذّاتيّة في تونس بما هي الوجه الآخر من السّيرة الذّاتيّة في فرنسا/ الأنموذج التّحليلي            و المفاهيميّ)؟ لذلك فهذا الطرح يقتضي مواجهة إشكاليّات سياقيّة و نظريّة في آن، و كل خلل  في تقديرها يؤول في نظرنا إلى نسف الفرضيّة/ بل لنقل المسلّمة لأنّنا تبيّنا أنّ المبخوت لم يتحرّ في إنشاء فرضيّة            و لم يحاول اختبارها بحثا عن حقيقة معرفيّة بقدر ما عمل على تجميع عدد من المعطيات غير المتجانسة ليصنع من التّرابطات الّتي أخضعها لها ما يشبه الاستدلال على مسلّمته الماقبليّة، ألا وهي اعتبار خطابات بورقيبة أوّل سيرة ذاتيّة شفويّة فريدة من نوعها في تونس سدّت افق الكتابة السيرذاتيّة.

لنبدأ بما يسمّى" الفضاء السيرذاتيّ". لقد عمد المبخوت إلى استعراض جملة من العناصر الممهّدة لتبلور كتابة السيرة الذاتيّة، من أهمّها بلورة جيل الثلاثينات من الكتّاب( جماعة تحت السور خاصّة الدوعاجي، خريّف...) للغة جديدة عصريّة، التبئير على الشّخصيّة التّونسيّة مقابل مفهوم " الأمة العربيّة الإسلاميّة" بما يشي بحدوث شرخ في بنية الثقافة التقليديّة، بروز النّزعة الرومنطقيّة الذّاتيّة متمثّلة في شعر أبي القاسم الشّابي، فضلا عمّا يسمّيه بتأسيس الدولة الوطنيّة لقاعدة تحتيّة تحتضن هذا الحراك و تعزّزه. كلّ هذه المظاهر المستعرضة لا تثير عندنا أيّ جدل يذكر لأنّها ببساطة غدت من الثّوابت الّتي أجلاها عديد النّقاد و الدّارسين للأدب التّونسيّ، و لكنّ السّؤال الجدير بالطرح و لم يطرح هو كيف تمّ الانتقال من هذه الثوابت إلى إنتاج سيرة ذاتيّة شفويّة‑ فرضا‑ تتماهى فيها فرادة الشّخصيّة ووعيها بتاريخها الذّاتي مع سيرة روسو الذّاتيّة الّتي اتّخذها لوجون قاعدة لتنظيره، بما يعني أنّ منواله التّعريفيّ مستمد  من خصائصها التّكوينيّة و سياقاتها التّاريخيّة المخصوصة؟ علما و أنّ فيليب  لوجون  ‑ الّذي لم ينف المبخوت أنّه مرجعه التّعريفيّ رغم أنّه حرّفه باستمرار، و في الواقع لا خيار له غير ذلك‑ أكّد دائما أنّ مفهوم السيرة الذاتيّة الّذي وضعه لا يعني مطلقا أيّ شكل من أشكال الحديث عن الذّات.

نقف هنا بالذّات لنثير إشكاليّات جوهريّة هي عندنا بمثابة مربط الفرس من كلّ ما سيؤول إليه أمر التّنظير للسيرة الذّاتيّة في تونس. هل العوامل السياقيّة المذكورة أعلاه قد أنتجت فعلا في تونس مفهوما للفرديّة ينهض على قاعدة وعي الزّعيم بتاريخ شخصّيته متجانس مع ما يفهم منهما في حالة روسو و سياقه؟ هل يمكن أن نسلّم بأنّ بلورة ما يسمّى بالشّخصيّة التونسيّة ( هويّة وطنيّة)مقابل هويّة جمعيّة عروبيّة أدّى مباشرة( بدون وجود روابط تفسيرية) إلى بلورة هويّة فرديّة نرجسيّة تستبطن تاريخها على النّمط الروسويّةّRousseauiste  بما يبوئها للتّأسيس لأوّل نصّ سيرذاتيّ تونسيّ؟ ثمّ  هل يمكن أن نطمئنّ إلى أنّ التّعبيرة الذاتيّة ممثّلة في شعريّة الشّابي هي من جنس التّعبيرة الذّاتيّة في الشّعريّة الرومانطيقيّة الغربيّة الّتي مهّد لها روسو في فرنسا؟ هذه الأسئلة غير مطروحة بالمرّة لدى من جازف بأن يتبوّأ في وقت قصير جدّا منزلة المنظّر الأوحد!
لا نريد التّسرّع في الإجابة عن كلّ هذا، و إن كانت لنا وجهة نظر فيه أساسيّة لنا حتما إليها عودة في غير هذا السّياق. ما نريده الآن هو الانتقال إلى التّساؤل عن مدى فهم المبخوت منظّرا، لتعريف لوجون،             و كيفيّة محاورته له لتبرير قراره الأجناسيّ الحاسم. فمثل هذا التّساؤل جوهريّ أيضا لأنّ اختبار مثل هذه الوضعيّة لا يدلّ  على مدى تمكّن المبخوت معرفيا من موضوع بحثه فحسب، بل يطرح فضلا عن ذلك مدى ملاءمة هذا التّعريف اصلا لمقتضيات سياقات إنتاج النّصوص التّونسيّة المخصوصة الّتي تساءلنا عنها سابقا؟

بدءا نريد أن نلاحظ أنّ عديد الدّارسين للسّيرة الذّاتيّة و على رأسهم المبخوت يتوهّمون أنّ مسألة تعريف السّيرة الذّاتيّة لدى لوجون مسألة واضحة و بسيطة يطابق ما يفهم من ظاهر القول منها ما هو كامن  في تعريفها الشّهير" قصة ارتجاعيّة نثريّة  يروي خلالها شخص واقعي وجوده الخاصّ مؤكدا حياته الفرديّة و خاصة تاريخ شخصيّته".
 يعنينا بادئ بدء أن نستبعد من هذا التّعريف العناصر الّتي تدخله في باب المشترك المرجعيّ الذّاتي  بما هي غير خلافيّة، و هي : تطابق أعوان السّرد، المنظور الاستعاديّ، الشّكل القصصيّ(إلى حدّ ما، و قد رأينا أنّه ليس سرديا صرفا، بل و ليس بالنّهائيّ أيضا). أمّا ما لا يتوفّر في غير السيرة الذاتيّة من عناصرها غير المشتركة فهو أساسا عنصر " تاريخ الشّخصيّة" بامتياز. فمعنى الفرديّة في السيرة الذّاتيّة هو إنتاجها على قاعدة الوعي بأنّها متلبّسة بشخصيّة لها تاريخ أي متنامية في الزّمان بما يؤهّلها لإفراز هويّة فريدة من نوعها  لا تشبهها أيّ من الهويّات الّتي تقاسمها حتّى الفضاء التّاريخيّ نفسه. لذلك يقوم اتّجاه العمليّة السرديّة المفرزة لمثل هذه الهويّة المسمّاة سيرذاتيّة  لدى لوجون على قاعدة الانسحاب من الخارج( وقائع أحداث  سيريّة مهما كانت بسيطة) نحو ملامسة المركزيّة الذّاتيّة الفريدة، هذه الحركة هي في جوهرها قوّة جاذبة نحو المركز Centripète بخلاف المذكّراتMémoires  تماما الّتي اعتبر فيها التّوجّه السّردي انسحابا من المركز نحو الخارج، أو بصيغة مقاربة، قوّة الاندفاع بعيدا عن المركزيّة الذّاتيّة Centrifuge. نضيف إلى هذه المحدّدات الأساسيّة ثلاث نقاط جوهريّة مترتّبة عنها حصرها لوجون فيعوده على بدء النّظريّ المتواصل في ما عبّر عنه ب" الثلاث نقاط الثّوريّة في مقاربة الهويّة السّيرذاتيّة الروسويّة، و هي كما يلي :

الاكتشاف النّفسانيّ :خصيصة الهويّة السيرذاتيّة العميقة تتمثّل في كونها على وعي بأنّها لا تعي ذاتها،  و لا تعي غيرها، و لا حتّى الفرق بينها و بين غيرها إلاّ في نطاق محدود تنقصه الشّفافيّة. لذلك لا بدّ من أن تكون علامتها في المكتوب هو النّزول إلى أغوارها البعيدة Décente en soiمن أجل هتك أستارها الحاجبة عن الوعي  بحقائقها الباطنة. و من هذا المنطلق كان اعتبار لوجون محكي الطّفولة مركزيا                 و خلافيا في السيرة الذاتية قياسا إلى المذكّرات الّتي تبدأ به و تتخلّى عنه في ابتعادها عن مركزيّة الذّات في حين تستثمر السيرة الذاتية هذا المحكي من أجل الاستعانة بعناصره الأساسيّة لاستجلاء تاريخ الشّخصيّة النّفسانيّ الخفيّ. و بالتّالي فمدار الهويّة السرديّة السيرذاتيّة هو أساسا على طرح سؤال انطولوجيّ  Ontologique  بامتياز من أنا؟ لا من هو الفاعل؟  بما هو أساسا سؤال تاريخيّ. ولهذه الأسباب اعتبر روسو هو أوّل من أوحى بقواعد علم النّفس الأساسيّة و من نهج عمليا نهج التّحليل الذّاتي Autoanalyse في فهم تاريخ الشّخصيّة المفضي إلى التّمركز حول مفهوم الفرادة.
الشّخصيّة السيرذاتيّة الروسووية همّها الأوّل هو معرفة ما أضحى عليه الفرد قياسا إلى ما كان عليه على مستوى الصيرورة النّفسيّة( الحالة) لا على مستوى الوضعيّة العمليّة بما هي اجتماعية أو سياسيّة أو ثقافيّة أو غيرها ممّا قد يشترك في تحصيله الإنسان مع غيره حتما. و هو ما يجعل تصنيف السّير الذاتيّة إلى أدبيّة و سياسيّة و غيرها بدعة من بدع المبخوت الّتي لا تنسجم مطلقا مع كون السيرة الذّاتيّة مشروع استبطان نفسيّ همّه الانسحاب إلى فهم عالم الدّاخل، فما قيمة الأدب او السّياسة في مثل هذا المشروع؟
الاكتشاف السّياسيّ" كلّ السير الذّاتيّة تنشأ حرّة و متساوية" أكّد لوجون هنا أنّ روسو سبق ميثاق حقوق الإنسان المتمحّض عن ثورة 1789 لأنّه  قطع مع المذكّرات الأرستقراطيّة و أسس  لجنس ديمقراطيّ هو السيرة الذاتيّة. بما يعني أنّ البطولة الفرديّة ليست مطلبا سيرذاتيا إذ يقول روسو" تاريخي الجوّاني L’intériorité أهمّ بكثير من تاريخهم" و المقصود التّاريخ البرّاني للعظماء. و يضيف في السياق نفسه أنّ السيرة الذّاتيّة لا تحتفي مطلقا بالمشاعر النبيلة أو العظيمة لأنّها تطلب التّعرف إلى مشاعر النّفس الإنسانيّة الدّفينة و كفى. و هو ما يخالف المذكّرات التي تعنى  بالحيوات الّتي تكتب بالأحرف الكبيرة Vies Majuscules.

‑ ابتكار الشّكل، الحبكة لا تعني التّخييل بما هو اختلاق و ليست مرتهنة بتحقيق الأدبيّة. لقد كان روسو واعيا بأنّ الحبكة السرديّة في سيرته غير الحبكة في رواياته :" كان يتعيّن عليّ ابتكار كلام له من الجدّة ما لمشروعي منها" و هو ما يعني أنّه كان على وعي تامّ بأنّ المسألة الأدبيّة ثانويّة و أنّ كتابة تاريخ الّذات مسألة عرفانيّة أبعد ما تكون عن كونها" قصّة أحداث  و يترتّب عن كلّ ذلك ما تبقى...". لذلك يقرّ لوجون ما بعديا في هذه المراجعة بأنّ أشكال ابتكار الّذات غير مرتهنة نهائيا بالحبكة و منفتحة على أشكال التّجريب الممكنة الّتي من أهمّ علاماتها بعد روسو ليرس Leirisو بيرك Perec.

هذه التّدقيقات الجوهريّة تقودنا إذن إلى تفحّص عنصرين مترابطين : هل كان المبخوت يعي جيّدا و يفهم جيّدا مقوّمات الهويّة السيرذاتيّة  بمثل محدّداتها الجوهريّة المذكورة حتّى نطمئنّ إلى ما جاء في بحثه  و ما آل إليه من نتائج؟ و هل فعلا تستجيب خطابات/خطب بورقيبة و غيرها من النصوص المجنّسة للشّروط الموضوعة باعتبارها  المقولات المضمّنة في تعريف السيرة الذّاتيّة و ما به يفهم اصطلاحها؟

 نقول في الإجابة عن السّؤال الأوّل إنّ المبخوت انطلق من خلط الأوراق و بعثرتها أكثر من انطلاقه من وقفة مفاهميّة عالمة و متأنيّة، فالظاهر من منهجه أنّ الغاية الّتي دفعته لإنشاء  الّزّعيم و ظلاله هي التّفرّد باكتشاف السّيرة الذّاتيّة في تونس متلبّسة بزعامة الزّعيم الّتي أرّقته( راجع ص. 43)، و ربّما لدوافع أخرى لا يعرفها غيره.

يقف المستقصي لرؤية مفهوميّة واضحة للسيرة الذاتيّة في البحث المذكور على شتات من الأحكام العامّة    و الإثباتات Assertions المسقطة، و الاجتهادات الفوضويّة الّتي تفتح منافذ التّخلص اليسير من مآزق حل ّإشكاليات التّجنيس الجدّية في ظل ائتلاف  أجناس الذّات و اختلافها، وكثرة النصوص المستدعاة على تنوّعها، بما لم يؤدّ لغير ترسيخ التّناقضات الصارخة بل و الأخطاء الواضحة في تصنيف هذا الوابل من النّصوص الّتي انفلت حبلها من سيطرة المؤلّف تمام الانفلات.

أمّا قولنا بأنّ المؤلّف يردّ السيرة الذّاتيّة بكلّ بساطة بعد حوالي مائتي صفحة إلى شتات من الأحكام العامّة الفضفاضة الّتي يمكن أن تستوعب  ما لا يمتّ من قريب أو بعيد بصلة إلى مفهوم السيرة الذّاتيّة الحقيقيّ فمن ذلك قوله" لا ريب أنّ السيرة الذّاتيّة  في نهاية المطاف هي سيرة رجل داخل الحكاية أو لنقل هي حكاية رجل يصنعها و يرويها لغرض ما (كذا. نحن نسطّر)!( الزعيم و ظلاله،ص.  223). نهاية المطاف  بهذا الشّكل لا تؤدّي لغير التّطويف و الطوفان المأسويين. و قد سبق له قبل ذلك أن أربك الحدود الأجناسيّة بين السيرة الذّاتيّة و الأجناس القريبة منها و تلك الّتي لا تجمعها بها صلة واضحة على الأقلّ ( المحاضرات)، " و الرأي عندنا أنّنا لا نحتاج إلى إعادة تجنيس هذه المحاضرات بشهادة أو مذكّرات او سيرة ذاتيّة ففيها بحكم التناول الذّاتي البيّن والموضوع المطروق ببعده التاريخي من هذا كلّه بنصيب." ثمّ يواصل  معلّلا تجنسيه السيرذاتيّ بعنصرين ، فرادة الأسلوب، و الصيغة الحكائيّة !!!" و لكنّنا رغم ذلك نزعم أنّنا أمام سيرة ذاتيّة شفويّة تتوفّر لها جميع المقوّمات التي  تسمح لنا بقراءتها على هذا، يكفي لذلك  أن نكشف عن سّر الشعور بفرادة الأسلوب و بالصبغة الحكائية الروائية التي لا تكون دون تخييل."( الزعيم و ظلاله،ص. 101) فهل تكون كل مقومات السّيرة الذاتية هي بحث استقصائيّ في فرادة الأسلوب" و " الصبغة الحكائية"؟ ؟ ؟

أمّا الأحكام المسقطة الّتي تستعيد منهجيا قصّة المصادرة على المطلوب الّتي ذكرناها فمن قبيل قوله :           " لسنا في حاجة إلى تجنيس محاضرات بورقيبة  أمام طلبة معهد الصحافة  و علوم الإخبار أو خطبه حتّى نتأكّد من أنّنا أمام سيرة ذاتيّة كاملة الشّروط" ص 101!( ظلال اّلزعيم ص. 46) إنّه إذن فرمان أصدره المبخوت. و قوله أيضا فيما يتعلق بمحاورات صحافية موضوعها مظاهر متفرقة من حياة اصحابها جامعا بلا أدنى حرج بين الشيء و ضدّه:" و في الحالات جميعا لا يمكننا أن نشكّ في أنّ هذه الحوارات[21] سير ذاتيّة،  و إن لم يدع إليها ما يدعو الكتّاب إلى وضعها ممّا فصّله أهل العلم بالسيرة الذّاتيّة"! ( ظلال الزعيم ن ص. 65) فكيف إذن تكون سيرا ذاتيّة دون توفّر شروطها؟

أمّا عن الاجتهادات الفوضويّة الّتي تفتح أبواب التسامح المضلّل مع النّفس، فقوله مبرّرا مأزق الشفويّة دون تعمّق في استتباعاته" فالحجّة هنا لا تقوم إلاّ إذا تمسكنا بتعريف لوجون بعد أن تخفّف هو نفسه من صرامته الخانقة معتبرا أنّ موضوعها( يعني السيرة الذاتيّة) و خصائصها  يستمدّان من حديث المرء عن حياته و تعبيره عن ذاته و مشاعره" ص. ، 46 بل هو لا يرى فرقا أصلا بين الجمع في تجنيسه لمحاضرات  بورقيبة ب المحاضرات أو الخطب في آن مفترضا أنّها لا تتعارض إلى ذلك مع قيام حبكة سرديّة تنبت في تضاعيفها" لبراعة اسلوب الزعيم القائم على الاستطراد و التمثيل. ص 47. فكيف نلائم بنائيا بين الخطبة والحبكة السّرديّة في آن يا ترى؟ ( المستحيل ممكن لدى المبخوت) و الأمر لا يتعلّق بالسيرة الذاتيّة فحسب، فهو يعمّم الهويّة السّرديّة حتّى على اليوميّات ! في حين أنها نصّ يقوم أساسا على التراكم والتّشظّي ولا يفترض أصلا القيام على وحدة الحبكة المترابطة، و تلك هي خصيصته الأجناسيّة الأولى المقترنة بنهوضه أساسا على نقل اليومي حسب بياتريس ديدياي[22] Béatrice Didier. يقول " الطابع المتقطّع المرتبط بالآتي في اليوميّات لا يمنع من أن نستخلص من يوميّات الشّابي على قصر مدّة كتابتها بناء هويّة سرديّة تشدّ ما انقضى من حياته إلى ما هو عليه زمن الكتابة"! ص 28 فكيف لا يمنع التشظي من استخلاص بناء هوية سرديّة، و هل الهويّة السرديّة بناء فعليّ في النصّ أم استخلاص             و تأويل؟ بل الأغرب أنّ الأمر نفسه يتواصل حتّى مع رسائل الشابي للحليوي مع العلم أنّ للرسائل خصوصيّاتها التواصليّة و ليست وحدة متجانسة لتكوّن حبكة على الإطلاق! ثمّ لم لا نجد و لو تعريفا واحدا للمذكّرات على أهميّة استدعائها في مثل هذا السّياق، و الحال أنّ " إيقاع قصّة حبكة فرديّة  في تاريخ فرديّ" مثلما قال بذلك كرّو يستدعي تدقيقا في الحدود الفاصلة الواصلة بين المذكّرات و السيرة الذاتية في خطابات الزّعيم! باختصار شديد تبعثرت التحاليل الأجناسيّة و تضاربت حدّ التخبّط الذّي أدّى إلى القول بوجود سيرة ذاتيّة لمحمد صالح المزالي سابقة  لسيرة بورقيبة الذاتيّة، فإذا نحن هذه المرّة و يا للعجب إزاء سيرتيين ذاتيتين أوليين" من ذلك أنّ أوّل سيرة ذاتية بالمعنى الأدبيّ الدّقيق وضعها رجل سياسة كان رئيس حكومة  في عهد الباي سنة 1954 و هو في الآن  نفسه رجل علم ارستقراطي اهتمّ منذ الثلاثينات بتاريخ تونس. فقد أصدر محمد صالح المزالي سنة 1972 سيرته الذاتيّة( أي قبل محاضرات الزعيم بسنة1973) بعنوان " على مرّ حياتي، ذكريات تونسي" ص. 44، و إن تجاوزنا هذا السّياق سنجد في انتظارنا مفاجأة ثالثة سارّة ص. 59 إذ نصّب المبخوت نص رجع الصدى للمطوي سيرة ذاتيّة ادبيّة أولى ايضا تصدر بعد خطابات الرئيس بسنوات، و الحال أنّ هذا النص لا يعدو أن يكون في واقع الحال سوى محكي طفولة Récit d’enfance لأنّه لم يستوف شروط تغطيّة مسار حياة كفيل بإظهار تاريخ الشخصيّة، و المعروف أنّ محي الطّفولة هو أحد أجناس كتابات الذّات المعروفة و لا يمكنه أن يتحوّل إلى سيرة ذاتيّة إلاّ بعد استكمال مراحل الحياة اللاّحقة. و ما جاء في تحليل المؤلّف من تحامل مشطّ حدّ الغرابة على نص المطويّ مقابل امتداح حنّة للباردي يجعلنا نتساءل عن مدى وجاهة المآخذ  هنا بل و جدّيتها العلميّة (ما يعتبره تفككا زمنيا على سبيل المثال هنا هو خلط بين ما تستدعيه الحبكة من ترابط                      و مايستدعيه نظام القص في رجع الصدى من ترتيب بالغرض او الموضوع ص.180، بل الأعجب من ذلك وسم هذا النصّ بالكتابة الشذريّة ! و ما أبعده عن مثل هذا المفهوم إذ جاءت بنية الخطاب متكوّنة من وحدات قصّصيّة موضوعاتيّة يحكمها تماما التّرابط السردي الدّاخليّ، فهل يمكن أن يصل الخلط في ما هو بديهي إلى هذا المستوى من التّحليل؟) و الاحتفاء هناك ( الإشادة بتواتر الخطاب الواصف الّذي قد يتحوّل إلى نوع من الحذلقة الكلاميّة الّتي تجترّ شعريّة مستعارة لتأثيث فراغات) سيّما  و أنّ نص المطوي يتناصّ بشكل واضح مع أيّام طه حسين، وهو ما يطرح قضيّة استدعاء مناويل الكتابة السيرذاتيّة في نصوص اللاّحقين  لمن سبقوهم باعتبارها أشكالا ملهمة و رمزيّة.

 واضح من كلّ هذا أنّ الباحث ليست له أيّ دراية و لو كانت أوّليّة بقواعد منظومة الأجناس الّذاتيّة                  و دقائقها الاصطلاحيّة[23] بل و ليس له أدنى فهم واضح لمفهوم السّيرة الذّاتيّة نفسه موضوع اشتغاله الاصطلاحيّ القياسيّ.Analogique ، و إذا ما تجاوزنا هنا مسألة مدى شرعيّة اعتبار المحاضرات/ الخطب إضافة إلى البعد الشّفوي عناصر بنائيّة تلفّظيّة ملائمة لإنتاج حبكة سرديّة مفرزة بدورها لهويّة سرديّة نعتت ب كونها سيرذاتيّة مكتفين بالإشارة إلى بعض تناقضاتها البنائيّة الظّاهرة لأنّها مسألة شائكة تخرج بنا عن حدود الغرض، فإنّ السّؤال الّذي يرتبط رأسا بتجنيس محاضرات الزّعيم هو موضوع مشروعه. أي ما هو  أصل المشروع الّذي عبّر عنه الزّعيم و بنى على أساسه أسطورة زعامته، هل هو فعلا مشروع سيرذاتيّ ( بالمعنى الّذي أوضحناه) مثلما يريد له المبخوت أن يكون؟

هنا أيضا  يخالف المبخوت عددا من الّدارسين التونسيين المشهود لهم بالتميّز و الّذين أظهروا حسّا نقديا مرهفا بمشكليّة النصّ الأجناسيّة (كرّو/ ظلال الزعيم، ص 99) خلال استقرائهم للمشروع البورقيبي              و مساءلته بما دلّ عندهم على انفلاته من معايير التّصنيف السيرذاتيّة التّبسيطيّة و وقوفه في منطقة مابينيّة تتجاذبها السيرة الذاتيّة و المذكّرات في آن.  المؤلّف لم يكلّف نفسه جهد التعمّق في وجهة نظرهم بقدر ما كان يسبح ضدّ التيّار منهمكا في جذب خطابات بورقيبة نحو تجنيس سيرذاتيّ  سمته التّعميم المخلّ‑ مثلما أوضحنا‑ لأنّه مصرّ على أن يكون بورقيبة هو أب السيرة الذاتيّة في تونس!( و هي الزعامة الجديدة الّتي شرّف بها المبخوت بورقيبة بعد وفاته) على اعتبار  الحبكة وحدها، بما آلت إليه من تأسيس لعظمة الزعيم الأسطوربّة. و هو ما نتج عنه تحريف واضح في تجنيس النصوص الذاتيّة المتاخمة، فضلا عن استنتاج هيمنة بورقيبة على هذا الحقل  حتّى لكأنّه انصرف بمفاتيحه كلّها في جيبه. و هذا النّقد أشبه ما يكون ببناء أسطورة الأسطورة لأنّه ألصق بالحكاية منه بالتّفصيل و التدقيق المعرفيين، و لا أدلّ على ذلك من كون المبخوت لا يتفطن لتناقضاته الصارخة من مثل قوله بأنّ محمد صالح المزالي نشر أوّل سيرة ذاتيّة أدبيّة في تونس قبل بورقيبة بسنة! أيّهما المؤسس إذن؟ ما الفرق، أو ما صور التّشابه بين السيرتين؟

لنترك الكلمة إذن للزّعيم يحدّد سؤاله في محاضراته : "... و إنّي لعلى استعداد لأدلي إلى المعنيين بالتّاريخ بتفاصيل حيّة  و بأسباب الأحداث و مسبّباتها ممّا يعسر  أو يتعذّر وجوده  في الوثائق المكتوبة و إنّما  هي متّصلة بهذا الشّخص الّذي صنع التّاريخ و استنبط بنفسه الخطّة الّتي استطعنا بها القضاء على الاستعمار بوسائلنا المتواضعة" ص 6 ثمّ يمضي قدما في التوضيح مستفهما" فهلاّ ترون معي أنّه إذا كان مرادنا أن نتعرّف الحركة الوطنيّة على حقيقتها فإنّ الواجب يقضي منّا أن نبدأ بتعرّف من أوجد تلك الحركة و قاد مسيرتها" ( الزعيم و ظلال، ص 7) لذلك كانت وظيفة محكي طفولة بورقيبة الكشف عن " الأسباب                  و المسبّبات و على التأثيرات التي طبعته" ( الزعيم و ظلاله،ص.7.) بل إنّ بورقيبة يذهب إلى ما هو أبعد عندما يتحوّل بمشروعه من فهم الّذات بما هي إنسان مختلف لا يشبهه  أحد( روسو) إلى القول بأنّ عماد شخصيته هو " الحياة من أجل الغير"( الزعيم و ظلاله،ص.66 ) بما يعني أنّ سؤال مشروعه الرّئيس من الفاعل؟ و ليس سؤال السيرة الذّاتيّة المعروف من أنا؟ و الأغرب من هذا أنّ المبخوت تفطّن إلى هذا السّؤال و أقرّه و لكنّه و يا للعجب جعله  المؤشّر الأجناسيّ على السيرة الذّاتيّة بدلا من المذكّرات مستبعدا كلّ مظاهر الشّهادة على العصر الّتي يقتضيها حتما يقول " لذلك لا نحتاج إلى عين المؤرّخ بالضروررة في حرصه على "الموضوعيّىة" و إنّما يكفينا من ذلك أن نجد إجابة متناسقة عن السؤال المركزي في قصّة الحياة "من الفاعل؟" فقد جاءت رواية بورقيبة حكاية تجمع المتنافر من الأحداث فتمنحه شكلا               و تخترع له وحدة تنصبّ داخلها التّفاصيل كلّها"!( الزعيم و ظلاله،ص 126). فمتى كان سؤال السّيرة الذّاتيّة هو من الفاعل؟؟؟

كيف يمكن إلغاء كلّ ما هو توثيقي بمثل هذه السّهولة، و الدمج بين هذا الخليط من المتنافرات لا لشيء إلاّ من أجل الإيهام بسبق الريادة في التّنظير للسيرة الذّاتيّة في تونس متلبّسة بتلابيب الزّعيم المفرط في النّرجسيّة؟
هل كان طرح بول ريكور للهويّة السرديّة قائما فعلا على قاعدة إثبات أسطوريّة المحكيّات التّاريخيّة؟           و متى كان قول التّاريخ عند ريكور هو مجرّد تشكيلة Configuration و الحال أنه يسمّيها إعادة تشكيل المادّة التّاريخيّة Refiguration و شتّان بين هذه  بتلك!
خاتمة

هذه قراءة علميّة دقيقة متأنيّة لكتابين "دبّرا بليل" إذ كتبا في سريّة مطلقة، و تعتيم مريب لم يترك الفرصة لأهل الاختصاص للإطّلاع عليهما و إبداء الرأي. هذا و قد أقمنا الدّليل على أنّنا بإزاء نزعة نرجسيّة غير مهتمّة بأخلاق البحث و قيمه. و العجب العجاب هو صدور الكتابين في وقت قياسيّ لا يسمح بأيّ تعمق،             و كأنّهما كتبا في سباق مع موعد الجائزة.  و يبقى سؤال ضمنيّ قائما، لم لم يضف المبخوت للّغويّات و هي مجال اختصاصه شيئا يذكر؟

 إنّنا بإزاء حدث غير مسبوق في تاريخ النّقد في الثّقافة العربيّة ، أقلّ ما يقال فيه أنّه يروّج لتصوّر خرافيّ أو إن شئنا أسطوريّ للممارسة النّقديّة يراهن على الغفلة  بعد أن ظننا أنّ زمن الأساطير و الخرافات في العلم قد ولّى بلا رجعة، ولكن يبدو أنّ هامش الخطإ في تقديرنا كبير جدّا، كيف لا و هذه جائزة الملك فيصل رغم ما عرف عنها من جديّة تزكّي في فرعها الأدبيّ لسنة 2018 الأسطورة، و تسوّي بين إحسان عبّاس، أو عائشة عبد الرحمان، و شكري المبخوت! الذي لا يقرّ له – على حدّ علمنا‑ أيّ ناقد عربيّ مطّلع  بقدم راسخة في العلم بكتابات الذّات أو السيرة الذّاتيّة و لا حتّى في الأدب، لأنّه منذ التّسعينات لم ينتج في هذا المجال شيئا يذكر، و ما نصّه الأوّل إلاّ نصّ مدرسيّ جنينيّ، أو هو عابر سبيل تجاوزته الأحداث كليّا.

لقد عهدنا النّقاد الأفذاذ ينفقون الأعوام و السّنوات الطويلة من أجل بناء أنساق نقديّة تدلّ على اجتهاداتهم المضنية المتواصلة في الزّمن، و في ذلك يتجلى شموخهم، و ما إسناد جوائز لهم في مثل هذه الحال إلاّ تأكيد لما هو مؤكّد مكرّس، أمّا أن تتحوّل الجائزة إلى ضرب من حسن الطّالع او البخت او الأحجية الّتي يتبارى المتبارون في فكّ ألغازها إلى آخر لحظة،  فهذا لعمري العجب العجاب نطالعه في الواقع لا في الحلم، و هو ما لا نظنّه يمكن أن يحدث في غير الثّقافة العربيّة. لربّما حصل المبخوت أو غيره ذات يوم آت إن شاء اللّه على جائزة عربيّة على ما لم ينتج بعد، أو على ما يعتزم  القيام به مستقبلا . من يدري كلّ شيء ممكن اليوم! لقد أضحى تهاطل الجوائز على "عبقريّات" المبخوت من فرط "سريالته" مشهدا يثير الفكاهة أكثر من العجب.

 لذا فإنّ عدم تمكّن المبخوت من شروط أدب الذّات عامّة و قواعده الأساسيّة ‑ و هو ما أقمنا عليه الحجج                و البراهين العلميّة‑ يدلّ على أنّه يتعاطى الكتابة النّقديّة في مثل هذا المجال الدّقيق معوّلا على المراوغات الأسلوبيّة و التّعميم المخلّ ، فضلا عن التّلاعب بالعبارات حدّ التّناقض من سياق إلى آخر، و الجهل الواضح للعيان بدقائق هذا الاختصاص، و ليس ذلك من الاجتهاد في شيء، أو من النزاهة المعرفيّة في شيء. لكلّ ذلك و لأنّ المبخوت  دخيل على هذا الاختصاص ليس ممن أضافوا إليه شيئا يذكر، فقد بات من الواجب إجلاء هذه الحقائق الّتي يعدّ الصمت عليها بمثابة التستّر على ما لا يقبله عقل و لا علم. هذا فضلا عن ضرورة التّنبيه إلى مخاطر المتسلّلين إلي هذا الاختصاص في غفلة من أهله، ذلك أنّ  مثل هذه المؤلّفات المتسرّعة الّتي تكتب جريا وراء اصطياد الجوائز هنا و هناك تنتج مرجعيّات محرّفة لما هو متداول في مجال يحتاج إلى تدبّر كبير و إضافات محكمة ناتجة عن متابعة مستمرّة.
الحديث عن قضايا الهويّة هو في صميمه حديث في العمق عن وعي الشعوب الثّقافي برهانات تاريخها الماضي منه و الحاضر و المستقبل[24] على حدّ سواء، و هو أمر جليل لا يعالج بالتلفيق، ولا ينفع فيه التّرويق. وآخر قولنا" فأمّا الزّبد فيذهب جفاء، و أمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض".


                                                                  جليلة الطريطر


                       أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل


















.






[1]  شكري المبخوت، سيرة الغائب سيرة الآتي في كتاب الأيّام لطه حسين، تونس دار الجنوب، 1992.
[2]  صدرت له في 2016 رواية باغندا، و قصص قصيرة السيّدة الرئيسة. يبدو أنّ هذين الإصدارين لم يدعما كثيرا شهرة المبخوت القصصيّة المنتظرة.
‑              ‑       ، أحفاد سارق النّار ، في السّيرة الذّاتيّة الفكريّة، تونس ، مسكلياني 2016.، [3]
‑              ‑          الزّعيم و ظلاله، السّيرة الذّاتيّة في تونس،تونس،  المنشورات الجامعييّة بمنّوبة، سلسلة بحوث، 2017.[4]
4 اميرة غنيم، " هذا التّونسيّ...."، نشريّة افق، مؤسّسة الفكر العربيّ. هذا المقال الألكتروني جاء بمثابة الردّ على موجات الانتقاد الّتي وجّهها عدد من النّقاد الجامعيين ضدّ إسناد جائزة النقد لسنة 2018 لشكري المبخوت باعتباره شبه نكرة في هذا الاختصاص و اعتبر لديهم الأمر سابقة خطيرة غير مقبولة  من القائمين على شأن الجائزة لأنّ الاختصاص العلميّ ليس مفاجأة تحدث في طرفة عين. و يهمّنا هنا أنّ الافكار التّي عبّرت عنها هذه الجامعيّة التونسيّة الشّابة خطيرة لأنّها بمثابة توجّه لا عهد للجامعة التّونسيّة العريقة به، فمتى كان العلم ظاهرة نجوميّة هوليووديّة؟ و هل يصحّ إغراء الشباب بالعلم طلبا للتّكسّب المالي؟ اسئلة محيّرة حقّا لأنّها تمسّ من مصداقيّة البحث العلمي و جدّيته، فالنّجوميّة لا تتلاءم  قطّ مع صعوبات البحث العلميّ و المراجعات المستمرة له فضلا عن أنّ  العلماء الحقيقيين يبنون معرفتهم على مكتسبات سابقة و يطوّرونها ثمّ يهيّئون  آخرين للإضافة إليها فما معنى  النّجوميّة  هنا يا ترى؟ و نحن بإزاء قلم جامعيّ لا بإزاء قلم من أقلام العوام؟[5]  
http://ofoq.arabthought.org/?p=3581#.WngzzPjG-Kc.twitter

[6]  العبارة الأصليّة في تعريف لوجون" تاريخ الشّخصيّة Histoire de la personnalité. نلاحظ هنا أنّ المبخوت يكتفي بنقل تعريبه لحدّ السيرة الذّاتيّة الذّي وضعه لوجون  معتمدا نصّه الأوّل في الموضوع دون مراجعة تذكر على ما هو عليه من تحريف كبير آنظر، سيرة الغائب سيرة الآتي، ص.11.
[7]  الخلط في تجنيس النصوص العربيّة الذّاتيّة و بخاصّة القديمة منها يقتضي إيجاد مسافة منهجيّة نقديّة بالقياس إلى تعريف لوجون الّذي اصبح يحشر في كلّ مقام دون مراعاة خصوصيته السّياقيّة التّاريخية و الأجناسيّة. و هو ما حدا بنا إلى تقديم مراجعة أساسيّة في الغرض مطبّقة على نصّ " التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا". كتبنا هذا البحث باللغة الفرنسيّة إيمانا منّا بأنّ خدمة الثّقافة العربيّة لا تحصل إلاّ بنقل المعرفة خارج دائرة ثقافتنا و تقريبها من الآخر لمحاورته. و بالفعل اطّلع لوجون نفسه على البحث و أبدى بتواضعه الكبير استحسانه  لعلميّة المقاربة                 و "مهارتها".( العبارة له) آنظر
Ibn Haldūn dans Le Tacrīf et le voyage en Occident et en Orient, un nom propre ou un nom d’auteur ?Arabica, n° 56, 2009, p. 95‑ 106.                                                                                                                                                        
قدّمنا بحثا ثانيا بالفرنسية أيضا يتعلق بموضوع كتابات المرأة العربيّة الذّاتيّة في سياق التعريف بالنصوص العربيّة . آنظر :
Jalila Tritar, Femme et pouvoir : Les enjeux des écritures Arabes féminines au 20èmesiècle, in Des lettres et des femmes face aux défis de l’histoire,Espacios literarios en contacto, ELC, p.185‑193.
[8]  راجع الصلة الوثيقة في السيرة الذّاتيّة بين قصّة الحياة و حياة القلم/ الفكر : جليلة الطريطر ، مقوّمات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث، بحث في المرجعيّات، تونس ، مركز النّشر الجامعيّ ، مؤسّسة سعيدان للنّشر، 2004ص. ص 689 692.
[9]  هذه الخصيصة  المزدوجة تطغى  في المنوال السيرذاتيّ السّردي العربيّ و حتّى الأجنبيّ. راجع
Philippe Lejeune, L’autobiographie en France, Armand Colin, 1971, p.22.                                                          
[10] «  L e langage humain connait deux régimes de littérarité : le constitutif et le conditionnel. Selon les catégories traditionnelles, le constitutif régit deux grands types, ou ensembles de pratiques littéraires :la fiction( narrative ou dramatique) et la poésie. », Gérard Genette, Fiction et diction, Paris, Seuil, p. 31.

[11]  المعضلة الحقيقيّة هو كيف ندرج السيرة الذّاتيّة غير القصصيّة في منوال الأدبيّة بما هي قائمة على ادبيّة غير مشروطة؟. و السّؤال الثاني هل سرديّات السيرة الذّاتيّة القصصيّة هي عينها سرديّات الرواية الّتي نظّر لها جونات. هذا مبحث بكر  ف جونات أشار إلى أنّ هذه السرديات لم تكتب بعد( م. سابق ص 66). و قد حاولنا في بحث جنيني المساهمة بمجهود متواضع في إثارة هذه القضيّة و تقديم بعض المقترحات. آنظر، جليلة الطريطر، "كتابة الذّات في السّيرة الذّاتيّة و تجلّياتها لدى لطيفة الزيّات و نوال السعداوي"، حوليّات الجامعة التّونسيّة، ع. 53، 2008، ص ص 161‑ 187.
[12]  عبّاس محمود العقّاد، حياة قلم، بيروت، منشورات المكتبة العصريّة، ص ص 187 – 202.
 درسنا في فترة مبكّرة من اختصاصنا انفجار السرديّة السيرذاتيّة لدى نجيب محفوظ في نصّه الموسوم ب أصداء السّيرة الذّاتيّة، تونس دار سحنون للنّشر/ مكتبة مصر د. ت. بما يدلّ أنّنا إزاء تحوّل جوهري في كتابة الذات. و قد انتبهنا في مثل هذا الزمن المبكّر إلى ضرورة التّفكير في تجنيس هذا النص باعتباره تخييلا سيرذاتيا/ ذاتيا لأنّه يتحرّك على تخوم السيرة الذاتيّة الخطية ذات الحبكة المتماسكة. وقد درسناه في هذا التوجّه النّقدي. راجع جليلة الطريطر، رجع الأصداء في تحليل و نقد أصداء السّيرة الذّاتيّة لنجيب محفوظ، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، سلسلة الكتاب الأوّل، 1997. 170ص.: [13]
[14]  انظر Nathalie Sarraute, Enfance, Gallimard, 1983.                                                                                              
Jacques Derrida, Circonfession,Seuil, 1991.                                                                                                            
[15]انظر مثلا إصراره بعد اكثر من عقدين من الزمن على نصّ الأيام مخاتل أجناسيا لأنّه " ليس برواية و لا بسيرة ذاتيّة". لقد تجاوزنا هذه الإشكالية في تجنيس النص عندما اكتشفنا ميثاقين للأيّام ، ميثاق بأحرف برايل خصّت به طبعة المكفوفين، و ثان  شفاهيّ صرّح به طه حسين لوسائل الإعلام. مقوّمات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربي الحديث " الميثاق الملحق المنفصل" ص 448.
[16]   م. سابق، " وظيفة الملفوظ السّيرذاتيّ أو قضيّة بناء الهويّة السرديّة" ص 235 ، " بنية الهويّة و بنية السّرد" ص 243
 [17]  جاء في نص لوجون ما يلي :
« J’ai sur les rapports de l’autobiographie et de la fiction des formulations brutales qu’aujourd’hui je récuse. Je me relis : » l'autobiographie est un cas particulier du roman, et non pas quelque chose d’extérieur à lui » (p.23) …plus loin «  Nous devrons toujours garder à l’esprit que l’autobiographie n’est qu’une fiction produite dans des conditions particulières »(p.30). Comment ai je  pu écrire des choses pareilles ?... je m’embrouille, j’assimile récit et fiction, erreur grossière. Aujourd’hui je sais que mettre a vie en récit, c’est tout simplement vivre. Nous sommes des êtres –récits… j’ai lu Paul Ricœur (même si j’ai parfois du mal à le comprendre!) je sais que l’identité narrative n’est pas une chimère…Non l’autobiographie n’est pas un cas particulier du roman, ni l’inverse, tous deux sont des cas particulier de la mise en récit. », Signes de vie, p 16‑ 17.
" عندي فيما يخصّ علاقات السيرة الذّاتيّة و المتخيّل عبارات عنيفة أتبرّأ منها اليوم. ها أنا أعيد قراءة ما كتبت"السيرة الذّاتيّة صنف روائيّ،             و ليس بشيء خارج عنها" (ص23)... و في سياق لاحق ورد"ينبغي أن نضع في اعتبارنا على الدّوام أنّ السيرة الذّاتيّة متخيّل أنتج في ظروف خاصّة" (ص30) كيف تسنّى لي أن أكتب مثل هذا الكلام؟ لقد اختلطت عليّ الأشياء، فطابقت بين القصّة و المتخيّل، إنّها غلطة فادحة. اليوم أعرف أنّ صياغة الحياة على نحو قصصّي يعني بكلّ بساطة أن نحيا. إنّنا كائنات‑ قصصيّة... قرأت بول ريكور( حتّى و إن كنت أحيانا أجد صعوبة في فهمه!) أعرف أنّ الهويّة السرديّة ليست خرافة... لا السيرة الذّاتيّة ليست صنفا روائيا مخصوصا، و ليس العكس بصحيح، كلاهما حالتان مخصوصتان من إنتاج حبكة." علامات حياة، ص 16‑ 17.( نحن نعرّب). راجع في اعتراضنا المنهجي لانغلاق  المرجع في ادب الذات عامّة
جليلة الطريطر، ادب البورتريه، الّذظريّة و التّطبيق، الانتشار العربيّ، دار محمد علي الحامي، 2011، ص ص 126‑ 137.
نشير إلى أنّ هذه النّزعة السيرذاتيّة النقديّة الفكريّة  تجلّت ايضا  في مؤّلف لوجون حديث العهد
Du pacte au patrimoine, Mauconduit 2015.
[18]  راجع سيرة الغائب سيرة الآتي "نحت الأنموذج" ص. 189.
[19]  راجع، مقوّمات اليرة الذاتيّة في الأدب العربيّ الحديث،" نحت الأنموذج"... استطاعت  النصوص السيرذاتية بوصفها  ملفوظات تعريفية ادبية تتوسل بالأسلوب الادبي اداة للكشف عن صور المترجمين لذواتهم الشخصية ان تفرز هذه الصور و تسبكها في صيغ تعريفية مجازية موحية قوامها اختزال مقومات الهوية السيرذاتية كما تمثلها الحكاية المطولة و تشكيلها في صورة مجازية موحية يتم انتاجها في الخطاب السيرذاتي... استطاع المترجمون لذواتهم العرب ان يكشفوا عن هوياتهم و يعرفوا بأسمائهم  بأسلوبين متداخلين احدهما تحليلي استقرائي و ثانيهما تكثيفي مجازي"ص693 و هو ما اختزله المبخوت في الحبكة القصصية و اسلوب التمثيل و اعتمده اسا للمقاربة  في النص المذكور اعلاه دون إحالة تذكر على المرجع المذكور.
 السرد و الهويّة ، دراسات في السيرة الذّاتيّة و الذّات الثّقافيّة، تحرير جينز بروكمبير، دونال كربو، تر. عبد المقصود عبد الكريم، القاهرة، المركز القوميّ المصريّ للترجمة 2015.[20]
[21]  الهامش المتعلق بالتعليق على الحوارات بما هي "فضاء سيرذاتي" لدى دراسة لوجون ل اندري جيدAndré Gide  غير مطابق لواقع الحال في النص الفرنسي. قصد فيليب لوجون بالفضاء السيرذاتي  في هذا السياق مجموع نصوص جيد التي تبدو مشدودة  على نحو استثنائي لإنتاج صورته الذاتيّة, و لا علاقة لهذا الأمر بالحوارات مطلقا. راجع Ph. Lejeune, Le pacte autobiographique, p. 165.
[22] Béatrice Didier,Le journal intime,Seuil, p.160.
[23]  يستعمل المبخوت أكثر من مرّة سيرة ذاتيّة مقابل سيرة غيريّة، و الحال أنّ الصحيح سيرة لا غير لأنّ العبارة الأولى منحوتة على أساس سيرة بمعنى حياة يكتبها شخص غير صاحبها.راجع ظلال الزعيم،ص. 81، 95. وهو  لا يفهم معنى سيرة روائيّة ويبذل جهدا لا طائل من ورائه ليفهمنا أنّها في حالة حنّة للبلردي لا تنقض الميثاق. ما كان أغناه عن هذا الجهد الضائع لو أنّه تثبّت من أنّ العبارة تعني السيرةالذاتيّة المكتوبة على أسلوب الرواية لا غير لأنّه مجرد منوال ، و هو ما يختلف عن الرواية السيرذاتيّة القائمة على المشابهة  إذ ليست المطابقة الاسميّة ماثلة فيه.راجع ظلال الزعيم  ص179   187.
آنظر في هذا الصدد، محمد آيت ميهوب، الرواية السيرذاتيّة في الأدب العربيّ المعاصر، دار كنوز، 2016.
[24]  نشير اليوم إلى حصول نقلة نوعيّة في ممارسة كتابة الهويّة متمثّلة  بغزو الثّقافة الرقميّة لعوالم كتابة الذات الافتراضيّة. نحيل في هذا الموضوع على مجهودات المغاربة المتقدّمة في الموضوع، كتابات زهور كرّام و سلسلتها الجديدة، محمد الداهي له مساهمات الكترونية ايضا. و قد قدّمنا بدورنا قراءة في أدب الذّات الرقميّ (غير منشورة بالكامل) ضمن ملتقى أصيلة / المغرب 2016.

تعليقات