في الفن المسرحي : المغالطة المسرحية (2)

بقلم : حسن الزمرلي

وإدراك هاته الحقيقة يستوجب الانتباه إلى أن مؤلف المسرحية يحاول مثل الخطيب التأثير على الجماهير لا على الأفراد مثل مؤلف القصة
فأنت ترى مثلا فتاة صغيرة جميلة لم تتمتع بعد بلذات الحياة المتعلقة بشبابها وجمالها مساقة إلى المذبح إرضاء لوالدها واستعطافا للالهة ليساعدوا أمتها على الانتصار ( رواية ايفيجيني المترجمة إلى العربية تحت عنوان الرجاء بعد اليأس )

فما هي الحقيقة ؟

الحقيقة هي أن تشاهد تلك البنت باكية لفقد شبابها وجمالها وساخطة على الظروف التي فرضت عليها أن تضحي بحياتها وهي أعز مالديها.
وماذا ترى على خشبة المسرح ؟

ترى الفتاة ذاهبة إلى المذبح باسمة مسرورة كأنها ذاهبة لملاقاة عشيقها أو زوجها. 
هذه مغالطة لا يقبلها العقل وإنما تلذ مشاهدتها ولذا ترى الناس يطربون ويهتزون اعجابا لهذه التضحية القاسية يصفقون استحسانا بالمؤلف.
وهذا موضوع رواية أخرى حظيت عند تمثيلها باستحسان لاعليه من مزيد وهي رواية " تيراز اوبير " من تأليف الروائي الفرنسي " إدوارد بلوفيه " .
" بلغ الشاب  (ارماند ) الرابعة والعشرين من عمره وهو يجهل عن أمه حتى اسمها. فبلغه يوما عرضا أن أمه هي "فلورا " الدعرة المشهورة " .
فما هو الاحساس الحقيقي ؟ إن يحترم الولد أمه وان يقوم ازاءها بواجب الابن وان يكتم سره ويحتفظ بألمه.
وماذا ترى على خشبة المسرح؟  ترى ( ارماند) على إثر تعرفه بأمه يصرخ وينادي "أمي!  امي!  هذه امي!  إني أحب أمي!  إني احترم امي! "
ثم تأتي أن صديقا (لارماند) يدعى (جورج) ويجهل صلة صديقه  (بفلورا ) جره الحديث في شأنها فوصفها بأشنع الأوصاف وصرح بأنها هي التي تسببت في إفلاس والده "

فما كان على ( ارماند) إلا أن يأخذ صديقه من يده وأن يقول له في انزواء بين الغضب والملاطفة 'هذه امي فارجوك يا صديقي
لا تعود إلى الكلام في شأنها بهذه اللهجة "

ولكنك ترى ( ارماند) في الرواية يرتمي على صديقه  فيصفعه على وجهه قائلا له "هي أمي يا سيدي " وترى الجمهور يهتز لهذه الاريحية لأنه وجد في موقف ارماند المغالطة التي يفضلها الف مرة على الحقيقة .
وهاته المأساة التي ابتدأت بمغالطة سوف تستمر إلى النهاية في نفس المغالطة . "فيتفق الشابان على أن يتلاقيا في مكان مقرر للمبارزة واذاك يعلمان أن المركيز والد (جورج ) هو في نفس الوقت والد ارماند وتصرح بذلك (فلورا ) بنفسها "

"فلورا: اني أخبرتك بالأمر يوم ولادة (ارماند ) فأبيت أن تصدقني.  اني اقسم لك بحقيقة ما اقول على راسي وعلى رأسه "
ويصدق المركيز ذلك

آه كذا يقع في الحياة ؟ وهل يقبل رجل بعد هفوة ارتكبها منذ ربع قرن ولدا لم يعترف به منذ ولادته؟  ولكن هكذا أراد المؤلف وعلى ذلك  صادقه الجمهور! 
وبعد ما كانت المبارزة شيئا طبيعيا وافق عليه جميع المتفرجين صارت بعد حين شيئا منكرا تنزعج منه قلوبهم حيث أصبحت تدور بين اخوين  ( عن فرانسيسك سارسي)
ويظهر من هذه الرواية البون العظيم بين الاحساس الحقيقي والمغالطة المسرحية.  لأن عواطف الابن نحو والديه ليست غريزية ناشئة عن الرابطة الدموية فحسب بل هي مرتكزة اولا وبالذات على التضحيات التي يتكبدها الوالدان لتربية الطفل الذي يتمثل فيه روحهما وشبابهما والذي يريان فيه إعادة حياتهما.  ومن تعلق الابن بوالديه اعتباره لتلك التضحيات وتقديره لها.

وقد رأينا غير ما مرة في الحياة الواقعية كيف تضعف تلك العاطفة اذا عاش الولد بعيدا عن والديه.

ونحن آتينا بهذا المثال وان كان بعيد الوقوع في اوساطنا العربية الإسلامية لأننا رأيناه من أفصح الأمثلة لبيان المغالطات المسرحية التي يستعملها المؤلفون الروائيون والتي يقبلها الجمهور بارتياح واستحسان كحقيقة واقعية لأنها تلائم احساسه وشهواته.

تعليقات