معجم بورديو : تاريخانية


تاريخانية Historicisme                                                                                            
تعريب : الدكتورة الزهرة براهيم
   

      يُجري التحليل السوسيولوجي إعادة وضع البنيات الاجتماعية والبنيات الذهنية في سياقها الجينيالوجي الذي تحدرت منه، فهي الوسيلة الوحيدة التي يتم بها رد دعوى الفاعلين لبناء العالم الاجتماعي كما يبدو لهم (يعني كمسلمة). إن لحظة التاريخانية هذه  تضبط ما هو اعتباطي، يعني الأساس المطلق لمختلف عوالم الهيمنة الرمزية وتأثيراتها (مؤسسات، قيم، قسمة مختلف أنواع الرأسمال، أنظمة التفكير، إلخ)، فإن: «علوما دون أسس، وإكراهات القبول بأنها تاريخية من جانب إلى آخر، فالعلوم الاجتماعية تدمر كل طموح مؤسِّس وتلزم بقبول الأشياء كما هي، يعني كما لو كانت كلها متحدرة من التاريخ».1.

وضدا عن كل فلسفات التاريخ، معترف بها أولا، مدنسة أو متدينة، والتي تطرح عنصرا مطلقا: الله، والعقل، والذات، إلخ، في مبدأ التاريخ، ومنكرة التاريخ على هذا النحو، فإن علم الاجتماع، الذي يدافع عنه بورديو، يعيد توجيه الأنظار نحو الفضاء الاجتماعي والعناصر التي تكوِّن تركيبه لكي: «(...) يعيد إلى التاريخ وإلى المجتمع ما تم إعطاؤه لتعال ما أو لذات متعالية» وأن نرغم أولئك الذين يدفعهم «التفكير الوراثي» إلى أن يقبلوا بكون "الفاعل" الحقيقي للأعمال الإنسانية الأتمِّ إنجازا ما هو إلا الحقل، أي الذي يتحققون بفضله».2

إن التاريخانية السوسيولوجية تعيد الدينامية إلى العالم الاجتماعي في رؤية دياكرونية، الدينامية التي تسلِّم  تأثير الوهم الخاص بالعالم الاجتماعي، والفاعلين إلى اعتباطية المصادفات التاريخية، وذلك من غير مقاومة الاحتجاب والجهل. إنه «وحده النقد التاريخي، السلاح الأكبر للانعكاسية، يستطيع أن يحرر الفكر من الإكراهات التي تمارس عليه حين يستسلم إلى رتابة الآلية، فتعالجها كأشياء لتشييدات تاريخية مشيَّأة. معناه القول إلى أي درجة يمكن أن يصير رفض التاريخانية منذرا بالموت، والذي بالنسبة إلى عدد من المفكرين، يكون مؤلِّفا حتى للقصدية الفلسفية، حيث تفسح المجال واسعا للميكانيزمات التاريخية التي يتظاهر بجهلها».3

     يقيم المسعى السوسيولوجي إبعادا جذريا للبداهات الاجتماعية بالكشف من هنا حتى عن صيغتي التسجيل في التاريخ، الواحد في أنساق الاستعدادات، والآخر في الفضاء الاجتماعي، إنه: «قطيعة فاصلة مع الرؤية العادية للفضاء الاجتماعي التي يحددها فعل استبدال العلاقة الساذجة بين الفرد والمجتمع بعلاقة مبنية بين صيغتي وجود للاجتماعي، الهابيتوس والحقل، التاريخ الملتحم بالأجساد والتاريخ الملتصق بالأشياء».4

        إن طمس هذا التسجيل المضاعف للتاريخ في الأجساد وفي الأشياء يشكل اللاوعي الاجتماعي الفردي والجماعي. كما ينوه بورديو مستعيدا دوركهايم، «اللاوعي هو نسيان التاريخ».5 اللاوعي الذي ينتج تأثيرات، سواء على مستوى مقولات إدراك وتحليل استعدادات الفاعلين الذين ينكرون أصلها الاجتماعي تماما («اللاوعي الإبيستيمي، هو تاريخ الحقل»6..)، أو على مستوى إدراك الطبيعة الواقعية للمؤسسات المكونة والباطنية تاريخيا (بمعنى قريب أوسع من التعريف الذي يعطيه موس) والتي تصوغ هذا الهابيتوس وترسخه في الذهن: « اللاوعي هو التاريخ -التاريخ الجمعي الذي ينتج مقولات فكرنا، والتاريخ الفردي الذي من خلاله تم ترسيخه لدينا: على سبيل المثال، من التاريخ الاجتماعي لمؤسسات التعليم (تافه بين الجميع، وغائب من تاريخ الأفكار الفلسفية أو غيرها.) ومن التاريخ (المنسي أو المردود) لعلاقتنا الفريدة من نوعها مع هذه المؤسسات التي يمكننا أن ننتظر منها بعض اعترافات حقيقية حول البنيات الموضوعية والذاتية (تصنيفات، تراتبيات، إشكاليات، إلخ.) والتي توجه تفكيرنا دائما بالرغم عنا».7

          إن الوهم التأسيسي لكل صلة مستشركة للعالم تقدم ما هو في الواقع صلة مبنية اجتماعيا عبر الزمن كما لو أنه معطى طبيعي، هذا البناء الذي يبرز الوضع الراهن كطريق ممكن ووحيد لأسباب جوهرية لرهانات الهيمنة في الفضاء الاجتماعي: «(...) إن التصور التاريخي الذي يسعى إلى نقض التاريخ، على الخصوص عبر إعادة الممكنات الجانبية، التي وجدت نفسها مقصية، إلى الماضي، يعني إلى اللاوعي (...)».8 فاللجوء إلى التحليل الوراثي في الوقت الذي يكشف فيه هذا الأخير خداع «جبرية طبيعية»، يفتح من جديد إمكانية توقع ممكنات أخرى «الخاص في الحقائق التاريخية أنه يمكننا دائما البرهنة على أنه قد كان بمستطاعه أن يكون في مكان آخر، وبوجه آخر، وفي ظروف أخرى». وبصيغة أخرى، «عبر تاريخانية علم الاجتماع غير المؤقلم وغير الجبري».9

         إن مقاومة التصورات الثباتية والمؤقلِمة للعالم الاجتماعي لا تستلزم السقوط في النسبية الجذرية. إن اللاوهم النسبي للعالم الاجتماعي يسمح، على العكس من ذلك، بقياس المكتسبات والموجودات بالقوة الخاصة بعقلانية العالم الحديث بقيمتها الصحيحة («تنزع من التاريخ حقائق لا يختزلها التاريخ»10..) ونستل منها كل المصالح، وخصوصا بصدد السياسة، من وجهة نظر هندسة الاجتماعي: «بمجرد أن نتوقف عن إنكار البداهة التاريخية، فإننا نقبل أن العقل ليس متجذرا في طبيعة لا تاريخية، ثم إن الابتكار الإنساني لا يمكنه أن يتأكد إلا في علاقة باللعب الاجتماعي الخاص الذي يساعد على بروزه وممارسته، ونستطيع أن نتسلح بعلم تاريخي للشروط التاريخية لانبثاقه، حتى نحاول تقوية كل ما هو، موجود في مختلف الحقول، من طبيعة تساعد على السيادة من غير أن يتقاسم منطقه الخاص، يعني الاستقلال إزاء كل أنواع السلطة أو السيادة الظاهرة- عادة- دين- دولة، قوى السوق».11

هوامش تاريخانية

1-Méditations pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997. P. 137.
2-Ibid- P. 137.
3- Ibid-  P. 218.
4-Leçon sur la leçon, Éd. de Minuit, Paris, 1982. P. 38.
5-Questions de sociologie, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1980. P. 81.
6-Méditations Pascaliennes, ibid, p.
7- Ibid- P. 21.
8- Ibid- P. 208.
9-Choses dites, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit ; Paris, 1987. P. 25.
10-Méditations pascaliennes,  ibid, p. 130.
11- Ibid- P. 149-150.

تعليقات