الأمين ساسي : شاعرية الرسم وشعريّة العاطفة

الأمين ساسي
شاعريّة الرسم وشعريّة العاطفة

يقول فكتور إيغو "بعض الأفكار صلوات! هناك لحظات تكون فيها النفس جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد" هذه النفس التي تحدّث عنها الشاعر هي ذاتها التي  تجعل من الأثر الفنيّ للأمين ساسي يدور حول العاطفة الإنسانيّة في ذروة تجلياته، أو ما يسميه الشعراء بالـ"ـالحدس". ينطلق الفنّان من الواقع لخلق أساطيره الشخصية المصوّرة، حول الطبيعة اللّونيّة وحول الصورة الأنثويّة، أسطورة الورود وحكاية الرسم الذي يغني واللوحة التي تنشد على الدوام، فالرسم بالنسبة إليه هو الحلّ لكلّ كآبة الحياة أو كما يقول هو ذاته "لأن الفنان يهبُ أسمى أحاسيسه للآخر من دون حسابات هذا في حد ذاته حلاًّ"، ثمة رنين روحي يسكن اللوحات، رنينا لصدى الحياة الداخليّة للفنّان، تلك العوالم المبهرة، عوالم الأحلام الرومانسيّة والغنائيّة، أين نخوض تجربة "متعة التأمّل" وسعادة التخيّل.

يحمّل الفنّان رسوماته غنائيّة شعريّة استثنائيّة، إذ هناك الكثير من المشاكسات التصويريّة في رسم الطبيعة التي تثير الكثير من الأسئلة وتقترح النظر إلى المشهد من زاوية مختلفة، فالصورة غالبا ما تكون متمايلة وإيقاعيّة عبر تقنية الشفافيّة التي تسيطر على أعمال الفنّان. هناك خشونة رومانسيّة قصديّة يلبسها الفنّان لمواضيعه يريد بواسطتها إيصال رؤيته الجماليّة للعمل الفنّي الذي يعتمد على التنسيق  والحذق والدهاء والمهارة والتنويع والتشويق والخداع البصري والعلاقات الداخليّة التي يقترحها بواسطة أطاريحه الشكلانيّة المستوحاة من الطبيعة المشعّة.

وقد جاءت هذه الإنشاءات، في الغالب، على أرضيات مضيئة تغلب عليها الألوان المشعّة التي توحي بلانهائية هذا العالم، حيث تحررت خطوطه من  الشكل المباشر، فورد الخطي غير قادر على ضبط حدود الشكل بوضوح وإنما كان يكتفي بالإيحاء بتواجده خاصة في رسم الأجساد، هناك تآلف بين شاعرية الخط وتلوّن المساحات، وبين غنائية الأجساد وحرارة الفضاء. المشهد ليس توكيدا للذات من خلال الحلم، بل حلم عميق وغزير في أشكال سلسة وعناصر كونيّة تمازجت بفعل الخيال الأسطوري أين يمزج الحيواني والإنساني والنباتي في صياغة تشوّش نظام الكون وتبث فيه اللّانظام، فالشجرة والأوراق والورود تُنبت بفعل كيمياء المخيّلة الإيروسية للفنّان أجسادا متوالدة من التصوير وفي اللّون ومع الطبيعة.

هذا العالم الخيالي الذي يآلف بين الزهرة والشجرة والمرأة في صياغة حلميّة ونفس طفولي، هو بالذات ما يولّد صورة تخييليّة تربط لحظة الولادة بالمصير الفاني للجسد، ذلك أنّ الوردة بشكل عام أكثر الرموز النباتيّة التي تحيل إلى معنيين متناقضين، "فإزهارها وإثمارها وسقوط أوراقها يشكّل دافعا للتأمّل بالمصير المأساوي". لكنّها في الوقت ذاته تعاود النموّ والإثمار كتعبير على ديمومة الحياة وصيرورتها اللانهائيّة. فالطبيعة مبنيّة على التكرار اللّانهائي لنموذج الحياة ودورته الدائريّة. وتشترك الوردة مع الأنثى كذلك في دلالة الخصوبة والإثمار والولادة الدوريّة، إنّه تعميق لمعنى الحياة عن طريق الإخصاب والإغواء. والأنثى بما هي رمز للجمال الخطّاء فهي التي تتحكّم برموز الحياة الدوريّة مثل القمر والشمس والأنهار التي تُخصب النباتات بلونها الأخضر كرمز للخصب والحياة والحماية والخير.

إنّ السعادة التي يرفض الواقع أن يهبه له أحياناً تحملُه على أن ينشدها في الطبيعة نفسها، ولربما بدت المرأة والطبيعة متماثلتين، إذ يتعامل لمين ساسي مع انطباعات شكليّة متكرّرة،  موظّفة توظيفا يبدو في تجلّياته التشكيلية إخصابا وتوليدا للصورة واللّون، فأن تكون الأنثى جليّة ومرئيّة في الصورة التي يرسمها الفنّان فذلك مثال حيّ لما يتخيّله وتقوله رغبته فــلحظة البدء برسم وجه أنثويّ، أو جانب منه، أو جسد أنثويّ، وفي وضعيّة منه، فهو لا ينسى أن يمنح الجسد الأنثوي، تلك النفحة الأنثويّة المداد اللاّمرئي، للمرسوم، وربما لأنّه، بالطريقة هذه، يستعيد توازنه، أي على أنّه ذكر، لا بل على أنّه مشبع بالشبقيّة، وليست الحركات التي تميّزه حركة، وحتى سكونا، وطريقة تواصله مع محيطه التصويريّ، إلاّ قيمة مستولدة، من ذات الأنثى، فالمرسوم في الجسد، هو طيف فنّان، هو وجهة نظره في الجسد كنموذج مُقترح.. في المُضمر جنسانيّا، عندما يتلوى الجسد،.. يمتد أو يستلقي.

إذن، الفنّان هو نفسه، داخل نفسه، خلق ذاتي متواصل، واللامرئي هو الّذي يضيئه لكي يحسن رؤية ما يراه، مثل ما يفعله الشعر، فهو يقضة تقذف به خارج فراش المرئي... وشغله الحلم بوصفه إفلاتا من ثقل الواقع وقبضته، عزاء أو أملا، وكما يقول شارل نودييه Charles Nodier في كتابه أحلام اليقظة "المنامات والأحلام، هي مادّة الجمال، حيث إنّ آدم وجد حواء وهو خارج من الحلم"ومع الإلتزام بنفس العناصر التشكيلية الشفافية في طريقة رسم عناصر التصوير الوردة الأنثى/المرأة والمرئي/ اللامرئي يكون فنّانا حالة وجدانية نفسانية تأملية ويصبح العمل تعبير عن الحياة الداخلية، وكأن ثمة حاجة تجذبه- تسوقه- بحماس لسبر أغوار ما اختبره، وهذا يذكّرنا بقول "مونيه" بأن" مشاهدة الواقع لا تقتصر على الانطباع الناتج عن عدسة العين، وإنما بشحن الأثر الفني بحساسية، للوصول والسيطرة على القوى الباطنية والسرية، والتي يمكن أن أتسرّب داخلها عن طريق الإبداع الفني".

في أعمال لمين ساسي إذن، حكاية أعمق من الصورة الظاهريّة، فاللوحة تفتح مجالا للخيال لن ينتهي لأنّ الصورة، دائما، ما تأخذنا إلى فضاء المدهش والعجائبي، في محاولة لإكتساح المساحة في حركة لانهائيّة. إنّها رؤية شذريّة للكون أو كما يصف جورج باطاي "حقل الذرّة" الذي رسمه الفنّان الهولاندي فان جوج  هو"التعبير عن شساعة الكون ولانهائيّته... وجب تكثيفه في لحظة الإبداع وتحويله إلى مادة حميميّة أليفة، تؤثّث الفضاء بحركاتها، وإسترخائها، وتأهبها للفعل في الفضاء، وتأتي الألوان الصارخة، مثل الأخضر والأصفر لتعطيها طابعها السرمدي والرمزي، ومن هنا أيضا كان غنى هذه البنية وتلاقيها الطبيعي مع جوهر الخيال الذي هو قبل كلّ شيء تصوّر للنسق الديناميكي للحركة". 

نجاة الذهبي
6/04/2018

تعليقات