معجم بورديو : تخطيطية

تخطيطية  Schématisme                                                                

     
تعريب الدكتورة : الزهرة براهيم

يعتبر مفهوم النظام أو المنهج مفتاحا مهما للولوج إلى فكر نظرية الممارسة. فالأنظمة، حسب  بورديو، هي مبادئ إدراك وحكم، وهي في أغلب الأحيان مضمرة، حيث تفرض النظام داخل الفعل. إنها في الوقت نفسه، مبادئ تصنيف وتراتبية، وتؤسس «مبادئ رؤية وقسمة» تسمح بالقيام بتمييزات انتخابية بين أشياء، يمكنها من وجهة نظر مغايرة أن تظل ملتبسة. هذه السلطة الرمزية هي علامة للغاية، والتي «من الاستمرارية التي تتعذر قسمتها تؤدي إلى بروز وحدات منفصلة»1 وذلك بفصل ما هو مهم عن الذي ليس كذلك، وما هو مركز عما هو ثانوي، وما هو فعلي عما هو غير فعلي، إنه مدرَك حسب المبدأ البنيوي للفارق التفاضلي. وكما فعل سوسير، فإن بورديو يضع المعنى والقيمة مثل أثر للفارق، لكن خلافا له، فهو لا يحدد التعارض المميِّز لبعده الإدراكي: في الممارسة، فإن النظام يتحقق بوصفه استعدادا مدمَجا وموجَّها نحو الممارسة، وإذن، فهو يرهن القيم حتما («فبمجرد أن نقول أبيض أو أسود، فإننا نقول حسن أو سيء».2) ينبغي إذن أن نقطع مع الإدراك المثالي ذي النزعة النظرية للنظام، وأن نرفض فصل العقلي عن الجسدي وعن الوجداني. فالنظام المنطقي ينبغي أن يرتقب  إصلاحه ليكون كـ «نظام عملي» يتم ترسيخه في النظام الجسدي، ويحمل، على الدوام، بعدا أكسيولوجيا. وهكذا فإن أنظمة الهابيتوس يتم تقديمها من طرف بورديو كمبادئ إداراك وتقدير، وفي نفس الوقت كعلاقة نظام. إنها تؤسس  بالفعل من وجهة نظره، تراتبية للشرعية دائما.

      ومنذ تعريفاته الأولى، فإن تصور الهابيتوس قد تم ربطه بتصور النظام، وعلى هذا النحو يتم تقديمه في ملحق L’Architecture scolastique et pensée gothique. مثل «نسق لأنظمة مستبطنة تسمح بتوليد كل الأفكار والإدراكات والأفعال المميِّزة لثقافة ما». 3ومن خلال هذا التحديد للهابيتوس كفكرةeidos ، أعني كنسق أنظمة منطقية، ومبدأ بناء خاص للواقع4، يترجم الطموح إلى مراجعة نقدية وتجاوز للمقاربات الكانطية الجديدة. فإشراك الهابيتوس بالسجل الإدراكي لفعل ما، يعلن أن النظام يعود إلى أن ندمج نواته العقلانية، أي إدراك البنيات الذهنية، والمشتركة بين مختلف المنظورات المنبثقة عن هذا التقليد الذي يتضمن إعدادا للمعنى مثل انبناء لمعطى ما، وتشكيلا لمادة تحت حماية مبادئ منظمة. ومن وجهة النظر هاته، يعتبر بورديو، على هذا النحو، تعابير لنفس المكسب الأساس الذي يمكن أن نجعل مفاهيمه النظرية المختلفة نسبية، «الشكل البدائي للتصنيف» عند دوركهايم وموس، و«الأشكال الرمزية» عند كاسرير وبانوفسكي، أو «الأنظمة المصنِّفة» عند ليفي شتروس.5

      غير أنه لا يوجد تباعد بين فلسفة الأشكال الرمزية والأنثروبولوجيا البنيوية التي تسترعي انتباه عالم الاجتماع بشكل خاص. وعلى العكس من الأولى، فإن الثانية تمنح امتيازا للنسق المنبني على حساب السلطة البانية، L’opus operatumعلى حساب Modus operandi لتستأنف تمييزا، سيكون من الآن فصاعدا، غير قابل للانفصال عن الفلسفة العملية المنسوبة إلى بورديو. ومع الموضوعانية البنيوية، فإن الفاعل قد تم اختزاله، على الأقل بشكل مضمر، حتى إنه لا يصير سوى دعامة للبنية، ومسحوقا من طرف التقديس الذي يرخِّص له مفهوم عقليا خالصا للوعي، وللأنساق الرمزية المشيَّأة. إن واحدا من الرهانات الرئيسية لإعداد تصور للهابيتوس يكمن في إرادة القطيعة مع هذا النموذج، ثم رد الاعتبار إلى القدرة على بناء الواقع الاجتماعي التي يتوفر عليها الفاعلون، كل ذلك مع البرهنة على أن مبدأ هذا النشاط الباني ليس كما تفهمه الفلسفة الاستعلائية، «نسق أشكال ومقولات كلية، ولكن نسق أنظمة مندمجة بصفتها قد تكونت على مر التاريخ الجماعي، حيث تم اكتسابها على مدى التاريخ الفردي، ثم إنها تشتغل في الحالة العملية ومن أجل الممارسة (وليس لغايات معرفية)».6

   فالنظام الذي يشتغل من أجل الممارسة التي تزود مبدأ ملاءمة ومعقولية التخطيطية، هو إذاً، حسب بورديو، نظام في حالة إجرائية، فهو «نظام مدمَج». إن مفهوم «نظام مدمَج» يركز مجموعة أبعاد مبهمة للمعنى، كلها مرتبطة بفكرة تحقق توليف تخطيطي وترتيبي في الحالة العملية، إنه يحيل طبعا، في مستوى أول إلى سيرورة اكتساب النظام. فمبادئ الرؤية والقسمة التي يشغِّلها الفاعلون لمعرفة العالم الاجتماعي بشكل عملي - وعلى وجه الخصوص تلك التي نجدها مسقَطة في الاعتراضات الكبرى التي تنقلها اللغة: أعلى/أسفل، نادر/مبتذل، روحي/مادي، إلخ. - أي بنيات اجتماعية مدمَجة، بهذا المعنى، بحيث إنها استبطان للتوزيعات الموضوعية والقسمات الرمزية للعالم الاجتماعي. إلا أن هذا الاستبطان يسير على المستوى نفسه مع كيفية حيازة مضمرة تتجسد في «معرفة من دون تصور»، أو لنستعمل مصطلح  تأملات باسكالية «المعرفة بالجسد». فنسق الأنظمة هو مدمج، ليس فقط لأنه مستوعب ولكن لأنه أيضا ملتحم بالفاعل الذي يرهنه داخل الممارسة ومن أجلها على شكل حس للتوجيه الاجتماعي الذي يسمح له بالتموضع في الغالب الأعم، كما لو أنه يتحكم نظريا في البنيات الموضوعية المفروضة عليه، في حين أنه لا يملك إلا تحكما عمليا، أي تقريبيا وقَبَانْعِكاسيًّا.

        إن «العلم العملي» المتعلق بالمراتب هو علم قد تم ترسيخه في الجسد، ولا علاقة له بالمعرفة العقلية التي تنطوي على مرجعية واعية بالقِسْمات المنطقية التي يتم تشغيلها: «فنسق الأنظمة الاصطلاحية يتعارض مع نسق المراتب المؤسس على مبادئ مظهرة ومركَّزة بشكل مضمر كاستعدادات جوهرية للذوق أو الإيثوس (بمعنى الطبع الاعتيادي أو صيغة وجود إنسان ما، ethos)، التي تعتبر أبعادا له، وتتعارض مع علم الجمال أو علم الأخلاق».7 وباعتباره أداة للقطيعة مع الإدراك العقلي للنظام، فإن تصور «النظام العملي» قد تم بناؤه للتعبير عن عدم الاستمرارية الأساسية التي تفصل هذين النسقين («العقلنة هي (...) تغيير القانون الأنطولوجي».8 فالأمر بالنسبة إلى بورديو، لا يتعلق إذن بإنكار وجود أنظمة متماسكة المعايير والاعتقادات أو التمثلات (الحقوق، الأنحاء، الإيديولوجيات، الاتباعيات، إلخ.) بشكل قصدي، بل هو دعم ضدا عن «الوهم القانوني» الذي تم إسقاط قناعه منذ أعماله الإثنولوجية، التي هي وحدها فرضية نسق أنظمة مندمجة توجه المنطق الجزئي للحس العملي، وتسمح في نفس الوقت بتحليل العقلانية العملية ومساءلة الشروط الاجتماعية التي تجعل العقلنة ممكنة، أعني إنتاج أنظمة رمزية مظهَرة. ذلك أن الأنظمة المدمجة تدير دائما تأليف أنظمة مشفَّرة: «حتى ما هو أكثر تشفيرا (...) لا يوجد كمبدأ له مبادئ مظهَرة ومسقَطة، فهي نفسها مشفرة إذن، بل أنظمة عملية».9 ويوضح بورديو هذه الأطروحة، على وجه الخصوص، وذلك عن طريق اتخاذ مثال بالطريقة التي تسمح بتبرير الحق المعتاد لدى القبائل الجزائرية: «(...)

يمكننا أن نولِّد ثانية جميع أفعال القضاء الملموسة والمسجَّلة في الأعراف انطلاقا من عدد صغير من مبادئ بسيطة، أي انطلاقا من معارضات أساس تنظم كل رؤية إلى العالم، ليل/نهار، داخل/خارج، إلخ. : فالجريمة المرتكبة ليلا أشد خطورة من تلك المرتكبة نهارا، وإذا ارتكبت في البيت، فهي أشد خطورة إذا تمت خارجه، إلخ. وبمجرد أن نفهم هذه المبادئ، يمكننا أن نتنبأ بأن من ارتكب خطأ مشابها، سيؤدي غرامة كذا، أو في جميع الأحوال، فإنه سيتوصل بغرامة أشد أو أخف عن ذلك الذي يقترف خطأ آخر كهذا».10 فأولية الأنظمة العملية ليست تاريخية فقط، بل إنها منطقية أيضا. إن التحكم الرمزي الذي يؤمنه فعل الإسقاط والتقعيد والترسيخ المنهجي لا يصبح له معنى إلا بصفته متجذرا في الهابيتوس، الذي يستطيع مع ذلك، توليد أنظمة مشفَّرة مختلفة، بل متباعدة حتى. وعلاوة على هذا، ينبغي له أن يعُدَّ دائما مع إعادة إدماجه وترسبه داخل النظام العملي. إذا كانت العسكرية تعلم كيفية المشي بالخطو، فمن الواضح، ينوه بورديو، إلى أننا لن نستطيع المشي أبدا إذا كنا مجبرين على الامتثال لنظرية العسكر حتى نتمشى.11

         ومع ذلك، يجب أن نحترز من تأويل منطق الفعل كتطبيق آلي لوصفة مستبطنة. وإذا كان بورديو يقرِّب، في صياغته الأولى، التخطيطية التي يرتقبها من «النحو التوليدي» لنعوم تشومسكي، فلأن الأمر يتعلق بالنسبة إليه بالإبانة عن القدرات الإبداعية للهابيتوس، بخلاف العديد من الإدراكات التي تجعل من العادة مكانا للسلوكات الآلية. وانطلاقا من الأنظمة الأساس التي تكون الهابيتوس تتولد كما يفسر بورديو«وفق فن إبداع مماثل لذلك الخاص بالكتابة الموسيقية، وعدد لا يحصى من التخطيطات الخاصة المطبَّقة مباشرة على وضعيات خاصة».12 فالأنظمة العملية ليست مبادئ تشريعية ولكنها مبادئ مولِّدة، وهذه السلطة المولدة لا تتأكد إلا في «المواجهة المرتجلة» مع وضعيات جديدة باستمرار.

يجب التنويه هنا بالدور الذي يلعبه هذا المفهوم المنسوب إلى بياجي، حول «نظام الفعل»، في تهييء إدراك التخطيطية هذا. فالنظام العملي لبورديو ليس شبيها فقط بنظام العالِم النفسي، بحيث إنه مؤلف بواسطة الاستبطان الجدلي (يتحدث بياجي عن الاستيعاب والملاءمة)، بل لأن سلطته المولِّدة ترتكز، مثله، على كونه قابلا لتغيير محله وللتعميم وللمفاضلة من وضعية إلى أخرى. فالمنطق الذي يشتغل بعلاقة عادية بالعالم هو بالفعل منطق تحديد نسبي وتناصي، وهو منطقي «إلى الحدود التي يتوقف المنطق فيها على أن يكون عمليا».13 فالأنظمة التي تقود معظم سلوكاتنا تشتغل بطريقة مرنة، ومحدَّدة ومشروطة، لأن الحس العملي الذي يجسدها يرجع دائما إلى الوضعية المتميزة التي ينبغي له فيها أن يوجه ممارساته.

         وحتى نفهم الكيفية التي يستطيع أن يظهر بها النظام في الحالة العملية مولِّدا للممارسة، يجب تمحيص الطموح المتعدد الأبعاد لتصور الهابيتوس، وبدقة أكثر حول المحدِّد بين إيدوس وإيتوس، بين نسق أنظمة إدراكية ونسق استعدادات علم الأخلاق. إن الفلسفة الترتيبية لبورديو ترث من نظريات الانبناء الإدراكي «مواقف الروح» بقدر ما ترث من الفلسفة الأخلاقية. فالإشارة النظرية لبورديو تقتضي أن نرخص نموذجية الفلسفة التقليدية لتأكيد الضرورة النظرية للممارسة قصد إدراك ترتيبية موسعة تتجاوز القِسمات العقلية بين المقولات المنطقية والميولات الأخلاقية والوجدانية للجسد. فجهد الإدماج هذا تتم ترجمته في النصوص عبر استعمال عبارات تصورية من قبيل «الاستعدادات الإدراكية» أو «البنيات المحفزة» أو أيضا «الأنظمة الأخلاقية». فالأنظمة الإعلامية ينبغي أن تكون مدركة مثل استعدادات مدمجة، فالترسيخ الإدراكي للهابيتوس لا يأخذ معناه بشكل مكتمل إلا بوصفه يُنقَش في المنظور العملي والتحفيزي لجسد مستشرك ومستثمر داخل الحقول  التي تورطه.

فالنشاط الباني مدمَج على هذا النحو في حقل تصور الاستعدادات، إنه الحقل الذي يحتوي، بالخصوص، مبادئ التكوُّن، والاعتيادية والتكوينية والنزوعية. إلا أنه يجب أن نسجل أنه في مقابل التخطيطية، لم يفته أن يشكل الترتيبية. ذلك لأن الاستعدادات الجسدية والوجدانية للهابيتوس تكون دائما مرتبطة بالسلطة المنسِّقة للأنظمة المدمَجة. فنسق العادات والأماني والاستباقات، هو بالفعل وظيفة إدراكنا للممكن والمستحيل، للمفكر واللامفكر فيه، والحال إن هذا ينتج عن استبطان إكراهات فضاء الممكنات المنبنية قبلا من طرف الفعل الإعلامي للتخطيطية وبكيفية دائمة. ففي تأملات باسكالية، يعمل بورديو بشكل صريح على شكل من النزعة الطبيعية الاجتماعية المؤسسة على قراءة ثانية براغماتية لفينومينولوجيا الجسد الخاص. لقد يحصل أن الجسد الترتيبي، جسد الهابيتوس له سلطة النظام الباني وقدرة الولوج إلى عمومية العالم عبر التعميم، ثم إعارة العالم عموميته الخاصة.  

هوامش  تخطيطية

1-La Distinction. Critique sociale du jugement, coll. »Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1979. P. 559.

2-Questions de sociologie, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1980. P.133.

3-«Postface» dans E. Panofsky, Architecture gothique et pensée scolastique, coll. « Le sens commun » , Éd. de Minuit, Paris, 1967.p. 152.

4- Questions de sociologie, ibid, p. 133, et Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997. p. 120.

5- La Distinction. Critique sociale du jugement, ibid, p. 545-546 et Méditations Pascaliennes, ibid, p. 209-210.

6- La Distinction. Critique sociale du jugement, ibid, p.545.

7-Ibid- P. 550.

8-Choses dites, coll. «Le sens commun» ; Éd . de Minuit, Paris, 1987. P. 96.

9- Ibid- P. 95.

10- Ibid- P. 95.

11- Ibid- P. 98.

12- «Postface» dans E. Panofsky, Architecture gothique et pensée scolastique, ibid, p. 152.

13- Ibid- P. 98.

تعليقات