في حضرة تجربة لمين ساسي

بقلم : محمد المي

الحديث عن التجربة الإبداعية للفنان التشكيلي الكبير محمد لمين ساسي تعد مغامرة وربما لو لم تتح لي فرصة مصاحبته والجلوس إليه في مرسمه وفي جلسات أخرى متعددة لما جازفت بالتحدث عنه ومحاولة مقاربة تجربته الفنية. 

ذلك أن لمين ساسي عصي وعوالمه تتطلب معرفة  واسعة وثقافة عميقة حتى نستطيع  الأطلال على خفايا تجربته العجيبة والبديعة في أن.

قلت أتيحت لي فرصة معاينة طريقته في الرسم والتلوين وقد خرجت بجملة من الملاحظات :
أولها : أن لمين ساسي يقارب الخامة بغير تهيب فيلقي لطخات لونية  عليها كما اتفق وقد لا تفهم سبب اختياره لالوان داكنة عادة لا تتجاوز الثلاثة .
ثانيا : أن التشكيل عند لمين هو بحث في الألوان وداخلها أذ يبدأ بمحو فضاءات  لونية بواسطة خرقة قماش كمن ندم عن توظيف تلك الألوان التي ألقى بها على فضاء الخامة.

هذا يعني أن تشكيل الأجسام والصور هو بحث داخل الألوان وليس هناك أي نموذج جاهز ينطلق منه فلا يستعمل الأقلام ولا يخط الرسوم ولا يهيء الخطوط الكبرى لتصوير خامته.

انطلاقا من الأشكال الأولى يعاود لمين ساسي التدخل بالفرشاة لتشذيب وتهذيب الرسم والإضافة إليه أو التنقيص منه أو زيادة تأكيد بعض التواءاته أو انحناءاته أو التكثيف من الضوء لإعطاء فرصة لظلال الألوان حتى تؤكد حضورها.

ذلك بعض ماعاينته أثناء  اقتحام لمين فضاء اللوحة. ..قد تحركه أغنية وقد يوقفه مزاج. . قد يتوقف عن الرسم يوما أو أياما. ..حتى يشتهي العودة إلى اللوحة. ..فتاتي الفكرة كالفيض تنثال عليه وتغمره لتحرك الرغبة داخله حتى يرسم ويلون ويبتكر المواضيع التي يقاربها بشاعرية مفرطة وبخلفيات تعكس نفسيته وتصور هشاشته.

لمين ساسي فنان منفلت من قيود المؤسسة ومن قيود اللوحة ومن قيود الفكرة ومن قيود الألوان والأدوات التي يرسم بها. ..بخرقة قماش أو باصبعه أو بورق سميك أو بفرشاة. ..الخ المهم انه يحقق الرسم المتخيل في ذهنه والسيطر عليه فيسارع إلى تنفيذه بل إنه أحيانا يستعمل الخمر لملء مساحة رسمها بقلم.

إذا طرب لمين وغنى وتمايل  مع لحن ..تهيج احاسيسه وتفيض مشاعره فيسعى إلى التلوين سعيا. ..فالرسم عنده كالحال الصوفي أو كالنوبة التي تغمر الصوفي فيلقي بنفسه في خضمها مرددا :
                          
                          لا تسألوني عما كان فقد كان ماكان

تنظر إلى شخوص لمين ساسي فلا تكاد ترى غير الشخوص الأنثوية في أغلب رسومه حتى تتساءل فيما بينك وبين نفسك :

مامشكلته مع الأنثى؟

نوال السعداوي تقول : الأنثى هي الأصل

وفي حياة لمين نساء متعددات : امال وياسمين وسندة وتفاصيل عن شقيقته الكبرى الراوية والمحدثة التي تحمله على ظهرها عندما كان صغيرا ولا ينام إلا بعد الإنصات إلى خرافاتها.

لمين حيي أمام المرآة ولبق وكيس

والمرأة التي غالبا ماتحضر في رسومه هي امرأة موزعة بين الحياء والحزن. .نظرتها باهتة،  حائرة،  مستغربة،  مستنكرة،  تقول وتوحي وتحدد  وتفتح شهية التساؤل والبحث عن المعنى.

لا معنى خارج اللوحة. .عليك بالنظر ثم إعادة النظر. ..الاقتراب ثم الابتعاد عن اللوحة. .. أعمال الخيال والتصور  حتى تدرك مدخلا من المداخل لقراءة مايريد الفنان قوله.

الإبداع عند لمين ساسي شكل من أشكال الاقامة في العالم يؤكد رؤية الفنان للموجودات والمحسوسات. ..هو عملا بقول جون كوهين في كتابه : بنية اللغة الشعرية :
ليست وظيفة الفنان رسم الشيء بل رسم مايحدثه الشيء في النفس

لمين لا يرسم الموجودات والمحسوسات بل يرسم ماتحدثه تلك الموجودات والمحسوسات في نفسه فتعتمل في ذاكرته وتراود فكره وخياله فإذا تمثلها أخرجها دفعة أولى فثانية وربما ثالثة ورابعة. .حتى تستوي فكرة كما تمثلها في ذهنه

ذلك هو لمين وتلك هي حقيقته الراهنة التي لا مراء لك من الأخذ باسبابها حتى تحسن القبض عليه ولن تستطيع لأنه كالزئبق مهما حاولت الإمساك به ينفلت من بين يديك،  ألم نقل منذ البداية انه فنان منفلت؟

تعليقات