معجم بورديو: تبرير

تبرير   Justification                                                                            

تعريب : الدكتورة الزهرة براهيم

         لأنه ينبغي أن يتم اتخاذ إجراءات فاصلة لفهم اللعب الاجتماعي، والبداهات الخاصة بالأنثروبولوجيا الوضعية، فإن علم الاجتماع عليه أن يجابه بعض الأسئلة التجريدية الفائقة التي لا يمكن أن يتقاعس عن مواجهتها. إن عملا مثل تأملات باسكالية، وخصوصا في فصوله الثلاثة الأخيرة، يستجيب بوضوح لهذا الهدف. يتعلق الأمر، بالنسبة إلى بورديو، بتفسير المبادئ التي يعيّنها باعتبارها «فلسفته السالبة».1 إن تصور التبرير يمثل شكل قيمة في هذا المشروع، لأنه يحمل على عاتقه مسألة التأسيس النهائي للقيمة وللمعنى.

فمعرفة العالم الاجتماعي لا يمكن أن تخلق مأزقا للخاصيات الكلية لسؤال مثل هذا. ويقول بورديو موضحا، بأنه في إطار تفكير يتحمل مسؤولية حواره لفكر هيدغر: ينبغي: «(...) من غير أن نضحي للحماس الوجودي لموته "Sein.-zume-tode"، أن ننشئ رابطا ضروريا بين ثلاثة وقائع أنثروبولوجية لا تقبل الجدل ولا التفكك: الإنسان الذي يدرك بأنه فان، وأنه سوف يموت، فكرة لا يطيقها أو هي مستحيلة، لكونه منذورا للموت كنهاية (بمعنى الكلمة) لا يمكن فهمها كغاية (بمعنى هدف)، لأنها تمثل، حسب عبارة هيدغر، «إمكانية الاستحالة»، إنه كائن من غير علة وجود، ومسكون بالتبرير، وجعل الاعتراف به شرعيا».2 فالتبرير مفهوم «غير منفصل أخرويا واجتماعيا»3، ليس معتبرا إذاً، من لدن بورديو، من وجهة النظر الخاصة بالميتافيزيقا الكلاسيكية، أي من وجهة نظر الإنسانية وقدَرها. ويتم إدراكها  انطلاقا من البحث عن الاعتراف والشرعية لكل إنسان خاص ولكل وجود فردي. لا أحد يستطيع أن يفلت من هذا البحث، ومن هذه الحاجة «ليحس نفسه مبرَّر الوجود كما هو موجود» و«لا أحد يمكنه أن يعلن حقا، لا أمام الآخرين، ولا أمام نفسه، بأنه يمكن أن يستغني عن أي تبرير».4

          إن سؤال الشرعية هذا، عند بورديو، يجد نفسه مطروحا على الوجود الفردي، لا على الوعي الخالص. وحتى نفلت من غياب علة الوجود، فلا حاجة لنا بصياغة الغايات النهائية لوجودنا، لأنه في علاقتنا العادية بالعالم، ليس الوعي هو من يمنحنا علل الوجود، ولكنه الرأسمال الرمزي. فنجد تبريرنا في ذلك الرضى عن وجودنا، والذي يجلبه إلينا امتلاكنا لهذا الرأسمال من الاعتراف الذي ينجم من انتمائنا إلى حقل أو إلى مجموع حقول معطاة، بالفعل، يمنح الرأسمال الرمزي أكثر قليلا من المكافآت وعلامات العرفان، إنه يغذي الوهم الحيوي، الوهم بصفته التزاما في لعبة الحياة: «(...) من خلال اللعب الاجتماعي الذي تقترحه، فالعالم الاجتماعي يزود الفاعلين بأكثر من ذلك، وبشيء آخر غير الرهانات الجلية. فالغايات الواضحة للفعل: المطاردة ذات أهمية بهذا المقدار وربما أكثر من الغنيمة، كما توجد مصلحة في الفعل الذي يفوق المصالح المتعقَّبة صراحة، فالراتب والجائزة والتعويض واللقب والشهادة والوظيفة، التي تتوقف على الخروج من اللامبالاة، بحيث يثبت نفسه كفاعل مؤثر، مشغول باللعب، ومنشغل، وساكن في العالَم المسكون بالعالَم، ومختط باتجاه غايات، ثم ممنوح، بشكل موضوعي، إذن ذاتيا، بمهمة اجتماعية».5

          أن تكون مطلوبا بإلحاح، ومشغولا بالتزامات مهنية وعائلية، وغيرها... معناه أن تستغل ما يشبه استفتاء شعبيا يوميا، وأن تستفيد من «نوع من التبرير المستمر للوجود».6  ويؤكد بورديو على البعد الزمني لهذه التجربة. فاليقين بالذات هو إيمان عملي غير قابل للتفكك عن حاضر مهيأ باستباقات الحس العملي. إنه يقين بالأشياء التي يجب فعلها وقولها، وبالخصائص التي تُفرَض من تلقاء نفسها، بانتظارات يجب إرضاؤها من دون إبطاء، إلخ... إنها هذه البداهات التي تتهاوى في حالة القطيعة القاسية للعادات، فمثلا، في الوضعية الغالبة في عصرنا، هي فقدان منصب للعمل: «لقد فقد العاطلون بعملهم آلاف الأشياء التي تتحقق فيها وتظهر عبرها ، بشكل ملموس، الوظيفة المعروفة والمعترف بها اجتماعيا، يعني مجموع الغايات الموضوعة قبلا، خارج كل مشروع واع، على شكل إلزامات واستعجالات (- مواعيد "هامة"، تسليم أشغال، إرسال شيكات، تحضير كشوفات، وكل المستقبل المعطى قبلا في الحاضر الفوري على شكل آجال وتواريخ ومواقيت ينبغي احترامها-) حافلات ينبغي ركوبها وإيقاعات يجب التمسك بها، وأعمال من المفروض إتمامها.

إنهم محرومون من هذا العالم الموضوعي بالإغراءات وبالإرشادات التي توجه الفعل وتشحذه، ومن جراء هذا توجه وتشحذ كل الحياة الاجتماعية، فلا يمكنهم أن يعيشوا وقتا حرا أصبح متروكا لهم كوقت ميت، وقت لا يصلح لشيء، وخال من المعنى».7 فـ «قطيعة النشاط» لا يمكنها إلا أن تصب في أزمات هوية حقيقية، بل في ضيق رمزي شديد، لأن تجربة البطالة تعيد إقحام الوهم الحيوي في القضية، الوهم المؤسَّس جيدا لأنه ذو وظيفة أو مهمة. توجد في الحقيقة فلسفة للبؤس، ويثير بورديو الانتباه، ضدا عن ماركس إلى أنه: «ينبغي اتخاذ الوسائل لفهم بؤس البشر المبعدين من اللعب، دون سبب، ودون خاصية اجتماعية، سواء تعلق الأمر بعجزة متروكين للموت الاجتماعي في المستشفيات والمآوي، والخضوع الصامت الذي يتجرعه العاطلون، أو العنف اليائس لهؤلاء المراهقين الذين يبحثون في الفعل المختزل في المخالفة وسيلة للولوج إلى صيغة وجود اجتماعي معترف بها».7

           ولأنه ينبغي استخلاص نتائج فلسفية من خبرة هذه التجارب المتعلقة بشعور الإنسان بالضياع في العالم، فإن بورديو يعود مجددا للتفكير في الحكم الباسكالي الشهير: «بؤس الإنسا ن من غير إله، يقول باسكال، بؤس الإنسان من غير مهمة ولا تكريس اجتماعي. بالفعل، من غير أن نصل إلى القول مع دوركهايم، "المجتمع هو الإله"، أقول: الإله، أبدا ليس هو المجتمع فقط. ما ننتظره من الإله، لا يمكننا أن نناله أبدا إلا من المجتمع الذي يملك وحده سلطة النذر والانتزاع من التصنع ومن عدم لزوم الوجود ومن العبث (...)».8 فعلم الإنسان، كما يفهمه كاتب تأملات باسكالية، يبدو أنه يقوم مقام علم اللاهوت إذاً، لكن في الواقع، إذا كان علم الاجتماع يسجل لديه في التقليد الطويل للأفكار التي تكابد حتى تنقل أسئلة المعنى والقيمة من السماء إلى الأرض، فهي تختلف بشكل عميق عن المنظور الديني، وذلك من حيث إنها لا تملك أي أساس ينبغي كشفه. فالحكم الأخير، ذلك الذي يبحث عن شخصية جوزيف. ك في المحاكمة لكافكا، لا يوجد بصفة على هذا النحو.9 فلا يوجد ما فوق السلطة القائمة والتعسفية للمؤسسات. بطبيعة الحال، فإن مؤسسة الدولة تشتغل، بمعنى ما، كحكم نهائي وذلك «بصفتها بنكا مركزيا للرأسمال الرمزي». ولكن أيضا كمؤسسة بنكية تسترعيبها هذه القوة الزمنية التي ليست إلا في مستوى الحكم بإصدار نفوذ رمزي للرأسمال الرمزي، «هذا الشكل للرأسمال الذي يتميز بإخفاء حكم التبرير، ليس له مبدأ أسمى سواء كان متعاليا على العالم أو ثابتا فيه»

        هذا لا يعني فقط أن العالم الاجتماعي مكتف بنفسه، وأنه يتجشم وحده بأس الانتزاع من اللامبالاة والتفاهة، ولكن لأنه أيضا مكان مواجهة لقيم الخصوم التي لا يمكن تقليصها: «فالوجود الاجتماعي هو هذه المواجهة للمنظورات التي لا يمكن التوفيق بينها، لوجهات النظر المختزَلة، ولأحكام خاصة تطمع في الكلي (...)، هذا النزاع الرمزي بين الكل ضد الكل، والذي يراهن على سلطة التسمية، بأن يقول كل واحد من يكون، ويجبره داخل كيانه بسحر الالتصاق بالحقيقة، وبالحكم. (...) إن السؤال العادي جدا حول معنى العالم الاجتماعي والهوية الاجتماعية يأخذ شكل بحث عن وجهة النظر المطلقة، قضية الشرعية القادرة على جعل الأحكام شرعية، إنها واحدة من بين الأسباب التي تجعل علم الاجتماع، إذا لم نحترس منه، ينتهي دائما إلى علم اللاهوت».10 لا يملك العلم، مع ذلك، قابلية للتنظيم، من أجل تعيين غايات، وغايات أخيرة أيضا. لذلك فإن الفلسفة التي يتبناها بورديو هي مادية ومصارِعة. فلا يوجد بديل عن المواجهة الرمزية. وأكيد أن العالم الاجتماعي يملك «سلطة النذر والانتزاع من التصنع ومن عدم لزوم الوجود ومن العبث، لكن، - فهنا، من دون ريب، يوجد التناقض الأساس- فقط بطريقة تفاضلية ومتميزة: كل مقدس له مكمِّله المدنس، وكل تميز ينتج ابتذاله، ثم إن منافسة الوجود الاجتماعي المعروف والمعترف به، الذي ينتزع من اللامعنى هو نزاع إلى الأبد من أجل الحياة والموت الرمزي».11

           إن علم الاجتماع هو علم حقيقة الأشياء، وليس له أن يحدد طرق الخلاص الروحي أو الدنيوي. لكن هذا لا يعني أنه لا يستطيع أن يتبوأ وظيفة سياسية بواسطة التصرف بالعلم، إن وصف الواقع الاجتماعي كما هو، يقتضي دائما بأن يتم إظهاره كذلك، وإنه يمكن أن يكون مختلفا عن الأشياء التي لا تعرض الخاصية الطبيعية التي يبدو أنها تملكها. وبإدراكه علل الوجود انطلاقا من تصور الرأسمال الرمزي، فإن بورديو يحقق حركة نظرية عالمة وسياسية. إن قياس مكانيزمات حيازة وتوزيع الرأسمال الذي يبرر الوجود، ويبرز كيف تساهم في صنع النظام الاجتماعي يمكن أن يكون أثرا سياسيا، بحيث يشك بورديو في أن هذا قد يحوز واحدا «من كل التوزيعات، واحدا من أكثرها لا مساواة، ومن دون شك، في جميع الحالات، فإن أشدها قسوة هو تقسيم الرأسمال الرمزي، أعني الأهمية الاجتماعية ودوافع العيش».12  فأن يحمل علم الاجتماع على عاتقه قضية التبرير، فإنه يسمح لعالم الاجتماع، بالإضافة إلى ذلك، بأن يدرك ما يؤسس واحدا من بين الحوافز الأساس لكل هيمنة رمزية: إن فعل وجود المهيمَن عليه يبدو منزوع الحيازة من التحكم فيما يحقق معناه (أي في هذه الحالة، دلالته واتجاهه في الآن ذاته)، وتبرير وجوده. لأنه مغترب، فهذا الأخير منذور للتصرف في وقت لا يملك التحكم فيه: «فالمسيطر عليهم مدانون بعجزهم النظري والعملي ليعيشوا في زمن موجَّه من طرف الآخرين، ومختطَفين من طرف الآخرين ومغتربين.

إن المقتدرين هم أولائك الذين ننتظر منهم فعل شيء، والذين يملكون بهذا الفعل القدرة على جعلنا ننتظر ونأمل. وحيث إنهم يحوزون وسائل التأثير على المعدل الموضوعي والذاتي للربح الممنوح من طرف اللعب، فهم يستطيعون اللعب عن رضى بالضيق المتولد لا محالة من الضغط بين حدة الانتظار واستبعاد الإرضاء».13 فالعنف الرمزي هو أحرى غير مقبول لكي يرهن التركيب الزمني للأجساد المسيطر عليها وانفعالاتها ونزواتها وانتظاراتها، وقصارى الأمر، لرغباتها وطموحاتها.

إن هاجس الموضوعية العلمية هو دائما متوائم، عند بورديو، مع مشروع توضيح الإجراءات التي تجعل هذا العنف وهذا الحرمان ممكنا. ومما لا ريب فيه فإن التلفظ بهذه الطموحات يفسر ما هو جوهري في الشيء، ويجعل الإغراء الذي يمارسه فكره نوعيا. ولقد استطاع جاك بوفريس أن يعرضها بدقة كبيرة، في هذه العبارات: «(...) افترض أن أولائك الذين يحبون بورديو هم أشخاص توصلوا، لسبب أو لآخر، وأحيانا مقابل جهد خاص، للحفاظ على نوع من الإدراك ظل يشتغل باله بالدرجة الأولى، والذي يشكل التحفيز الجوهري والنابض الأساس في فكره وفي فعله، يعني، على سبيل العد لا الحصر، المعاناة الاجتماعية واللامساواة القصوى أمام دوافع العيش التي يكون مصدرها، كما يقول، ذا طبيعة اجتماعية، ولو أننا نفضل عموما أن نبحث عنها في أي مكان ما عدا في المجتمع».14
      
هوامش تبرير:

1-Méditations pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du seuil, Paris, 1997, p. 15.
2-Ibid, p. 282.
3-Ibid, p. 280.
4- Leçon sur la leçon, Éd, de Minuit, paris, 1982, p. 49.
5- Méditations pascaliennes, ibid, p. 283.
6-«Préface» dans P. Lazarsfeld, M. Jahoda, H. Zeisel, Les Chômeurs de Marienthal, Paris, Éd. de Minuit, Paris, 1981, p.
7- Leçon sur la leçon, ibid, p. 53.
8-Ibid, p. 52.
9- Méditations pascaliennes, ibid, p. 280.
10-«La dernière instance» dans Le Siècle de Kafka, coll. «Le sens commun», Éd. de Minuit, Paris, 1967, p.135-167, p.268.
11- Leçon sur la leçon, ibid, p. 52.
12- Méditations pascaliennes, ibid, p. 284.
13- « La dernière instance» dans Le Siècle de Kafka, ibid, p. 270.
14-Bouveresse. J. Bourdieu, Savant  & politique, coll. « Banc d’essai », Agone, Marseille, 2003, p. 13.


تعليقات