البياض

علامات    17 افريل 2018                                       بقلم رياض المرزوقي

***
( العلامات روح الطريق )

***
85 - البياض                                    " أضعت البصر 
                                                                        لأن البصيرة ماتت بهذا الزمان " ر . م

من التعابير المجازية في العامية " البياض " كناية عن العمى .
ولعلّ عمى الشاعر أو الكاتب يتجلّى في الصفحة البيضاء .
لقد ارتعبت طيلة حياتي ومازال قلبي يخفق هلعا من أن أمسك القلم , ولا أكتب شيئا . وأعتقد جازما أن هذا النوع من الخوف منتشر بين الكتّاب جميعا .
قال أحد كبار الشعراء الفرنسيين

" نحن الشعراء , تمنحنا الآلهة مطلع القصيد , ويكون عينا أن نتمّ الباقي " .
وذكر " الشابي " أنه كان يستيقظ من نومه , ليجد القصيدة مكتوبة في لا وعيه , فينقلها على الورق , فإن نسي كلمة أو عبارة أو بيتا , أبقى مكانه فراغا أو بياضا...
وأصارحكم القول إني عجزت وأعجز حتى اليوم من الكتابة في موضوع مقترح , وقد لا أكون مشغولا بالكتابة , فتكتسحني موجة عاتية , وإذا بي أكتب . وفي أكثر الأحيان لا أعلم مسبقا بما سأكتب , ولم أكتب .

أخاف بياض الورقة إذن , وأخاف كلّما برمجت في ملتقى , أو ندوة , أو أمسية
شعرية , العجز عن الكلام , وهو ما يسميه العرب قديما " بالعيّ " , وما أنعته
شخصيّا " بالسكتة " , حتى ولو كانت أمامي ورقة مكتوبة .
وقد امتدت بي هذه الرهبة الى الميكرفون زمن اشتغالي بالإذاعة , حتى أني كنت كالمريض المعتلّ قبل تسجيل برامجي . وإذا علمتم أنني سجّلت مئات الحلقات , أدركتم حجم المعاناة النفسية الكامنة في إنجازها .

ومن الصدف الغريبة أن الصمت في التسجيل يسمّى أيضا " بياضا " .
أذكر واقعة حدثت لي في حفلة نظمها مهرجان قرطاج في التسعينات , ودعي
إليها طيوفا من شعراء المشرق , ومن التونسيين . وكانت المدارج حافلة ليلها
بجمهور " كرويّ " , وعلمت بعد الحفلة أن بعض المشاركين  دعوا " جمهورهم "
بأعداد كبيرة للتصفيق لهم , والتصفير لغيرهم .
والمهم انني لم اقدر على اتمام قصيدتي ( وكانت من أجمل ما نظمت ) , لأني
عجزت عن الكلام , وحتى التنفّس !

لقد كانت تلك الليلة من المناسبات الأخيرة التي شاركت فيها في حفل شعريّ .
يقول أحد الأمثال الشعبية ( كن سابقا ونل نصيبك حتى في ضرب العصا )
والحقّ أني لا أؤمن بقبول الضرب حتى من أجل الرتبة الأولى !






 

تعليقات