معجم بورديو





تميز     Distinction                                                                           

   تعريب الدكتورة الزهرة ابراهيم  


  لا يحتاج تصور التميز أن يكون مردودا إلى واحد من مؤلفات بورديو الرئيسة: "التميز، النقد الاجتماعي للحكم". إن "التميز" هو بمعنى ما، بالنسبة إلى بورديو، بمثابه "الرأسمال" لماركس. وهو نتيجة لعمل تجريبي ونظري جبار، إن هذا المؤلَّف يتعهد بتطبيق طريقة تفكير علائقية خاصة ببنيوية النظرية التطبيقية، والمهيأة تدريجيا من طرف عالم الاجتماع طيلة سنوات الستينيات والسبعينيات، من أجل الانكشاف النقدي للعالم الاجتماعي. يتعلق الأمر بتوضيع التمفصل، من جهة، بين شروط الوجود والمواقع داخل بنية شروط الوجود، ومن جهة أخرى، أخذ المواقع داخل بنية أساليب العيش، أو لِنَقُلْ ذاك بصيغة مغايرة، من جهة أولى، بين الطبقات الاجتماعية، ومن جهة ثانية، أنظمة التصنيفات: «المصنِّفون المصنَّفون بواسطة تصنيفهم، فالذوات الاجتماعية تتميز بالتمييزات التي تحدثها - بين اللذيذ والمليخ، وبين الجميل والقبيح، وبين الراقي والمتصنع، وبين المتميز والمبتذل- وحيث تعبر عن نفسها مواقعهم، أو يخون بعضها البعض داخل التصنيفات الموضوعية. إن تحليل العلاقات بين أنظمة التصنيف (الذوق) وشروط الوجود (الطبقة الاجتماعية) التي يعيدون ترجمتها بصيغة يتغير وجهها في اختيارات منسقة موضوعيا (الـ "طبقة") تؤدي، على هذا النحو، إلى نقد اجتماعي للحكم الذي هو، بشكل غير منفصل، مشهد للطبقات الاجتماعية ولأساليب العيش».1 إنه مسجل في قلب هذا المشروع. فمفهوم التميز عصي، وقد كان مصدر سوء تفاهم كبير. فما نسميه «تميز» في الحياة الاجتماعية يطابق عند عالم الاجتماع نتيجة استراتيجية تميز عالم البورجوازية التي تهذب أدب السلوك «المتميز» أي كممارسة حكم ما على ذوق موجَّه يرفض «الابتذال» الملازم لإنسان «المشترَك»، ولكن أيضا «حديث النعمة». ويولد الالتباس هنا من كون تحليل الظاهرة مقود انطلاقا من «استراتيجية التميز». إن عددا من التفسيرات المبتسرة تم فيها استعادتها وتعميمها على جميع السلوكات الاجتماعية في بحث عن التميز المدرَك تماما. إن عدم فهم التصور البنيوي بفارق تمييزي، حليف لآلية إنكار إعادة تعريف تصور الاستراتيجية المنسوب إلى بورديو، قد قاد، على هذا النحو، بعض المفسرين إلى اختزال تصور التميز المنسوب إلى بورديو لتكون سوى استعادة مزيفة لنظرية «الاستهلاك المتباهي» (conspicious consumption) لصاحبه De Veblen.2

            إن الفكرة التي ستكون مقصدا للتميز الذي يحرك القضايا الإنسانية، تظهر مع ذلك من اللامعنى بالنسبة إلى بورديو. ففي أغلب الأحيان، تكون التصرفات مميزة من غير أن تسعى حقيقة إلى أن تكون كذلك. ينبغي من أجل فهم «استراتيجيات التميز» أن ندع جانبا إشكالية سكولائية الوعي واللاوعي وقبول فكرة أنه يمكن حصوله من تواطؤ وجودي بين الهابيتوس والعالم الاجتماعي الذي هو نتاج أشكال قصدية من دون قصد.3 فالممارسات التي نقول عنها إنها «متميزة» تمثل، من جهة، شهرة تامة: «(...) لا يبدو المسيطرون كمميَّزين إلا لكونهم، بكيفية ما قد ولدوا في وضع مميز إيجابا، فالهابيتوس الخاص بهم، طبيعة مكونة اجتماعيا، وتكون مضبوطة على الفور على مستلزمات ثابتة للعب، والتي يمكن أن تثبت كذلك اختلافها دون حاجة إلى هذه الرغبة. أي بواسطة الطبيعي تكون دمغة التميز المسماة «طبيعية»: يكفيهم ما هم عليه ليصيروا ما ينبغي أن يكونوا عليه، يعني مميزين طبيعيا عن أولائك الذين لا يستطيعون تدبير البحث عن التميز».4 من جهة أخرى، فإن نية الظهور «متميزا» غالبا ما لا تجعل الفاعل الحريص على امتلاك دمغات التميز أهلا لذلك. «هؤلاء الذين نعتبرهم متميزين يملكون امتياز أنهم يحق لهم أن يقلقوا على تميزهم».5 هنا حيث البورجوازية الصغيرة أو البورجوازية الحديثة العهد، ضحايا العنف الرمزي والنوعي الذي يمارس على المواقع الوسطى أو الانتقالية للفضاء الاجتماعي، يظهر ميلا «أكثر من اللازم»، «في هذه الأنماط، يفسر بورديو، بأن الاسترلتيجيات المكلِّفة أكثر هي تلك التي لا تعاش كاستراتيجيات. تلك التي تقتضي أن نحب أو أيضا أن «نكتشف» في كل لحظة، مصادفة، ما ينبغي أن نحب».6

          وحتى نتخذ الاحتياط مما يستوفيه حقيقة تصور التميز المنسوب إلى بورديو، ينبغي العودة إلى النموذج البنيوي المبني في كتاب "التميز". يوجد في أصل المثال البنيوي للنظرية السوسيرية حول قيمة الفارق التي تضع قيمة ألفاظ اللغة كأثر لاختلافها، ولتعارضها وسط نظام لغوي. هكذا يفسر سوسير، مثلا، إنه «داخل نفس اللغة جميع الألفاظ التي تعبر عن أفكار متجاورة تتحدد تبادليا: «المرادفات مثل: هاب، خشي، خاف، فزع، ارتعب، ليست لها قيمة خاصة إلا في تعارضها.(...) وهكذا فإن قيمة أي لفظ هي محددة بما يحيطه، حيث لا يوجد في حدود اللفظ الدال "شمس" الذي لا يمكن أن نثبت قيمته على الفور إذا لم نعتبر ما يحيطه: توجد لغات يستحيل أن نقول فيها: S’asseoir au soleil’’». إن إخلاص بورديو لنظام الأفكار البنيوية هذا والذي نال به ليفي شتروس، في نظره، استحقاقا كبيرا يفرض استعماله في العلوم الاجتماعية، لن يُكَذَّب أبدا. إذن، فإن علم الاجتماع في زمنه الموضوعي، حسب رأيه، كان يجب عليه أن يكون طوبولوجيا اجتماعية، وتحليلا للوضعيات Analysis situs».7 معناه أن الحس الاجتماعي يذعن لمبدأ الفارق الخلافي ويبقى مبهما ما دمنا نجهد لفهمه انطلاقا من صيغة تفكير جوهري.. إن ذكاء السلوكات المدرَكة بصفتها «متميزة»، يشهرها بشكل فيه من الكمال ما يجعلها كذلك، ومن جهة أخرى، فإن : «ما نسميه عادة تميزا، أعني نوعا معينا، هو في الغالب الأعم معتبَرا مثل فطري (نتكلم عن "تميز طبيعي")، من الصيانة ومن الكيفيات، ليس بالفعل إلا  اختلافا، وفارقا، وعلامة مميزة. وباختصار، فهو ملكية علائقية لا توجد إلا في العلاقة مع ملكيات أخرى وبواسطتها».8 لهذا السبب ينبغي للحقيقة الاجتماعية أن يتم التفكير فيها انطلاقا من تصور الفضاء. إنها تقتضي حقا مجموع علاقات، «هذه نفسها هي التي تكوّن فضاء مواقع خارجية محددة الواحدة بالنسبة إلى الأخرى، بواسطة القرب، والجوار، أو بواسطة المسافة، وكذلك بالموقع النسبي، فوق أو تحت، أو أيضا فوق أو وسط».9 ونجد في أساس مفهوم الفضاء هذا فكرة الاختلاف إذن، والفارق المميِّز: «أن توجد في فضاء، أن تكون نقطة، فردا في فضاء، معناه أن تختلف، وأن تكون مختلفا، إلا أنه حسب الصيغة المنسوبة إلى بورديو، والتي تتحدث عن الكلام: "أن تكون متميزا، أن تكون دالا، يعني نفس الشيء"».10 في كل مجتمع، فإن نظام الفارق التفاضلي الذي يحدد فضاء المواقع الاجتماعية، يترجم ثانية عبر وساطة الهابيتوس، داخل نظام فارق تفاضلي بين أخذ المواقع، أي بين ممارسات وكيفيات، وثروات ممتلكة، وآراء معبر عنها، التي هي كذلك علامات مميِّزة والتي تكُون، حسب بورديو، لغة حقيقية.11

         فالبنيوية كما يفهمها بورديو، هي بنيوية الممارسة، غير أنها تُخضِع المثال البنيوي الأرثودوكسي إلى سلسلة تشوهات، حيث إن أكثرها أهمية بالنسبة إلى نظرية بورديو هو الفارق التفاضلي، ذلك المدرج، بكل تأكيد، عبر تدخل مفاهيم الهابيتوس والسلطة الرمزية. إن أول هذه التدخلات تتمسك بالبنائية وبفلسفة بورديو النفعية، وتترجَم بالوظيفة المحدِّدة التي يمنحها عالم الاجتماع للهابيتوس في نظرية التميز. وفي حضن هذه الأخيرة، فإن الهابيتوس ليس تفاضليا فحسب، إنه محرك ممارسات متمايزة، ويتحمل أيضا مسؤولية الدور الرئيس لمدير آلة التميز. حقا، يلفت بورديو نظرنا إلى اتخاذ مواقع لا تؤلف كلاما إلا لمن كان قادرا على أن يدرك فيه أنظمته، أي أن ينشئ منه الخاصية الدالة: «اختلاف ما، خاصية مميزة، لون بشرة بيضاء أو سوداء، نحافة أو بدانة، فولفو أو سيارة بقوة حصانين، خمر أحمر أو شامبانيا، برنود أو ويسكي، الغولف أو كرة القدم، (...) لا تصير اختلافا واضحا، ولا تصير اختلافا مرئيا وممكنا إدراكه، وذا بال ومناسب اجتماعيا إلا إذا تم إدراكه من لدن (هابيتوس) قادر على تمييز الفرق -لأنه باعتباره مسجلا في الفضاء قيد المساءلة، فهو ليس غير ذي أهمية- وهو منعَم عليه بمقولات الإدراك وبأنظمة تصنيفية  للذوق التي تتيح له أن يضع الأصبع على الاختلافات، وأن يتبين ويميز».12 فالاختلاف لا يصبح علامة مميِّزة إلا بوساطة مؤوِّل، والقائم بفعل هذا التأويل في بنيوية الممارسة، هو الهابيتوس. إن المنطق التصنيفي البنيوي يجد نفسه في هذا متشعبا بشكل عميق. ويتعلق الأمر، بالنسبة إلى بورديو، بإعادة إدماج التحكم العملي للرمزية في التحليل البنيوي، الذي كان قد تم تجاهله من طرف التصور العقلاني والتنظيري للتخطيطية البنيوية. فالمنطق الحقيقي للتخطيطية، المنطق العملي، هو في الحقيقة منطق تناصّي ووضعي. فكل أفراد المجتمع لا يقومون باجتراح نفس التمييزات، ولا يمنحون نفس المعنى إلى الأنساق الرمزية المشتركة: فالهابيتوس (بصيغة الجمع) «يشغِّل مبادئ التمايزات المختلفة أو يستعمل، بشكل مغاير، مبادئ التمايزات المشتركة (...) إنه يجعل اختلافات بين ما هو حسن وما هو سيء، وبين ما هو خيّر وما هو شرير، وبين ما هو متميز وما هو مبتذل، إلخ..، ولكنها ليست متشابهة. وعلى هذا النحو، مثلا، فإن نفس السلوك قد يبدو متميزا بالنسبة إلى شخص، ومتكلفا بالنسبة إلى الثاني بينما يراه الثالث مبتذلا».13

          ولكن، كما تلمّح بوضوح إلى ذلك هذه القولة، إذا لم تكن التصنيفات الاجتماعية أحادية وتنتهي بنا إلى ممارسة أحادية المعنى، فهي ليست بالنسبة إلى عالم الاجتماع إدراكية بشكل خالص. فالأنساق الرمزية ليس لها كوظيفة وحيدة المعرفة والتواصل، رهان صراعات عنيفة بين مختلف الجماعات، إنها تملك، على الدوام، بعدا أكسيولوجيا وإجرائيا حتى تقر بشرعية علاقة النظام، وإعادة تأسيسها. فالنظرية العامة للفارق المعدِّة من طرف سوسير قد تم تصحيحها حقا بكيفية تسمح بإدماج فكرة الفارق المميز فيها، والذي يطابق دائما حكم القيمة. «فالمنطق العملي، يكتب بورديو، باعتباره محوَّلا نحو الممارسة، فإنه يرهن حتما قيما ما».14 فمن المعارضة المميزة تنبثق السلطة الرمزية، أي إقرار شرعية معارضة تراتبية بين ما هو ذو قيمة وبين ما تم رفضه ورده إلى اللاقيمة، وما هو دال مما هو غير دال، في مختلف معاني الكلمة.

      ويكون مناسبا، مع ذلك، التنويه إلى أن تصور التميز عند بورديو لا يمكن أن يكون مماثلا للفارق التفاضلي، ولو أنه قد تم إصلاحه. وإذا كان هذا الأخير يشكل سر المعقولية، فإن التميز يتميز بما يؤهل. ومن الأكيد أن التمايز هو تراتبية ما، ولكنه أيضا انتخاب، يعني إثبات لقيمة إيجابية مكونة داخل رفض تلك التي تتعارض معها. إن علامة مميزة يمكن أن تكون منتخَبة أولا. ثم إن علامة التميز لا يمكن أن تدل إلا على تقييم مجترح بشكل جوهري يتعارض مع علامات الابتذال.15 هذا التصور حول التميز يجد تبريره مما يبدو أن الفضاء الاجتماعي يقوم ببنائه في النقد السوسيولوجي، وذلك بواسطة السلطة الرمزية للمسيطرين، وبواسطة الهاجس الذي يحملونه من أجل وضع حدود فاصلة، وخلق تمايزات انطلاقا مما هو غير مميز: «إن مصلحة التميز، يكتب بورديو، هي المصلحة التي تزود اختلاف الفارق الذي يفصل بين ما هو مشترك».16

       
هوامش تميز:
1-La Distinction. Critique sociale du jugement, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit ; Paris, 1979, (4e de couverture)
2- Raisons pratiques. Sur la théorie de l’action, Éd. du Seuil, Paris, 1994, p. 24.
3-Choses dites, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1987, p. 22.
4-Ibid, p. 21-22.
5- La Distinction. Critique sociale du jugement, ibid, p.278.
6-Questions de sociologie, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1980, p. 10.
7-Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, paris, 1997, p. 158.
8-Raisons pratiques. Sur la théorie de l’action- Ibid, p. 20.
9- Choses dites, ibid, p. 150.
10 - Raisons pratiques. Sur la théorie de l’action, ibid, p. 24.
11 -Ibidem, p. 24.
12- Ibidem, p. 24.
13 Ibid, p. 23.
14 - Questions de sociologie, ibid, p. 133.
15 - Raisons pratiques. Sur la théorie de l’action, ibid, p. 25.
16 - Questions de sociologie, ibid, p. 10.


تعليقات