الأدب والتواصل : بيداغوجية التلقي والإنتاج

قراءة في كتاب: الأدب والتواصل، بيداغوجية التلقي والإنتاج

للدكتور علي آيت أوشان

من التصور النظري إلى الاستثمار الديداكتيكي

د. الزهرة براهيم- شعبة اللغة العربية

تبرز كتابات الدكتور علي آيت أوشان في مجال الديداكتيك مساهمة جادة في إرساء تدريسية معقلنة قائمة على أسس نظرية معروفة وضرورية لخلق مداخل جاذبة لإنجاز وضعيات بيداغوجية مريحة تترسخ بها وخلالها علاقات التواصل، والتبادل، والتفاعل المطلوبة في كل فعل ديداكتيكي غايته جعل المتعلم معنيا، ومتجاوبا، ومشاركا، ليس فقط في تشييد معمار معرفي يحصنه من مغبة الجهل، والبياضات المريبة في زمن تتحكم فيه المعلومة، بل مسؤولا عن بلورة كيانه الشخصي على مستوى مجموع الكفايات التي تؤهله ليصبح فردا مستقلا في رؤاه وقراراته، لكن في الآن ذاته، مرتبطا بمحيطه، فاعلا فيه، منفتحا على معطيات واقعه بشكل نقدي بناء، ومنفعلا بشروطه بكيفية موجبة تنزع نحو  البناء، والتعاون، والمحبة، والتفاؤل... لأن الغاية الكبرى للمدرسة هي خلق إنسان متوافق مع نفسه، صالح لوطنه، وللإنسانية كافة.

في هذا الإطار، تندرج جهود الكاتب للارتقاء بالممارسة الديداكتيكية داخل المدرسة المغربية. فحين نستعرض منجزاته التالية:

اللسانيات والبيداغوجيا. نموذج النحو الوظيفي، الأسس المعرفية والديداكتيكية. الصادر في طبعتين (1998- 2006)،

السياق الشعري من البنية إلى القراءة، الصادر سنة 2000،

ومساهمته بدراسة في المؤلف الجماعي: اللسانيات وتعليم اللغة العربية وتعلمها، الصادر سنة 2002،

اللسانيات والديداكتيك، نموذج النحو الوظيفي، من المعرفة العلمية إلى المعرفة المدرسية. الصادر سنة 2005

الأدب والتواصل. بيداغوجية التلقي والإنتاج. الصادر سنة 2009.

نستشعر الهم التربوي والتعليمي الذي يحمله الأستاذ الباحث على عاتقه من موقع كممارس ومقوم ومقيم للفعل التدريسي خاصة، والتربوي عامة تأسيسا على تجربته المعتبرة في القسم وفي مهام تأطير أساتذة اللغة العربية. ويتأكد، من خلال هذه العناوين، أنه يفكر من داخل الفعل، ومن صميم المكابدة اليومية لقضايا ديداكتيكية، ومن تجربة رصينة، وتبصرية في، مجموع مثبطات درس اللغة العربية، والحيثيات التي تحكمه، وتقدمه، كلما يحصل تقويمه، عاجزا عن الارتقاء بتعلم هذه اللغة القوية التي ما صار حظها من متعلميها سوى النفور والازورار.

يهجس الباحث بمعيقات نجاح الدرس اللغوي والأدبي معا، ويتحسس قصورا وأعطابا في سيرورات تدريس هذين المكونين. وحيث يوطئ في مقدمة هذا الكتاب لما يُفترض اكتسابه من درس اللغة العربية كمهارات وكفايات، فإن واقع حال هذا الدرس لا يستجيب للرهان المرصود له بسبب كوابح يخلقها مجموع الشركاء في الفعل التربوي بما فيهم مدرس اللغة العربية، الذي يبدو في عدد من الحالات غير مقنع في أدائه، على هذا المستوى من حيث:

إنه يقدم للمتعلم معرفة بسيطة وسطحية، فما أكثر المدرسين الذين يعتمدون في بناء جذاذاتهم على ما يوجد في &كتاب التلميذ& فقط، وهذه الحالة مستشرية بين من يمتهنون التعليم عن غير رضا، ومن دون إخلاص لهذه المهمة الجسيمة والنبيلة في الآن ذاته،

إنه يقدم للمتعلم خامات معرفية لا تناسب مستواه، وهذه الحالة موجودة على وجه الخصوص عند أصحاب التوظيف المباشر،

من تم، يتحمل صاحب كتاب &الأدب والتواصل، بيداغوجية التلقي والإنتاج& مهمة نظر نقدي يسعى به إلى تقديم بدائل إجرائية، واقتراحات عملية مضبوطة الخطوات  لتحرير درس الأدب في اللغة العربية من عثرات لا يفتأ يكررها. وإذ يعتبر الظاهرة اللسانية محدِّدة في التواصل مع النص الأدبي، والتجاذب مع طاقاته اللغوية والبلاغية، فقد شاد تصوره لتناول هذا الموضوع على ثلاثة مباحث، نستعرضها كالآتي:

ضمن المبحث الأول الذي عنونه بـ: اللسانيات التواصلية، يتناول في:

الفصل الأول: تداولية أفعال الكلام،

الفصل الثاني: علم النص،

الفصل الثالث: جمالية التلقي،

الفصل الرابع: اللسانيات الوظيفية.

وفي المبحث الثاني الذي أفرده لـ: ديداكتيك درس الأدب، يبني فصولا أربعا كما يلي:

الفصل الأول: درس الأدب والنقل الديداكتيكي،

الفصل الثاني: درس الأدب واستراتيجيات التعلم،

درس الأدب والأنشطة التعليمية التعلمية،

درس الأدب والقراءة المؤسسية.

ثم أخيرا، المبحث الثالث الذي خصصه لـ: بيداغوجية النص الشعري، ويضم فصلين:

الفصل الأول: نظام النص الشعري،

الفصل الثاني: قراءة في قصيدة &في الليل& لبدر شاكر السياب.

وانتهى الباحث إلى خاتمة، اتبعها بملاحق الدراسة، وكذا المراجع المعتمدة في هذا المشروع.

يؤمن الباحث بجدوى بناء عدد من الكفايات التي تنطلق من الدرس اللساني باتجاه تدريسية النص الأدبي بشكل يتجاوز التلقي العقيم الذي طالما فرضته طريقة التدريس التقليدية، تلك التي توجه إمكانات النص نحو معنى مسدود: وحيد ومنته، في حين يظل النص الأدبي، أيا كان- لا سيما النص الشعري- كتله خامات تَعِدُ بالتكاثر، والتحويل، والتفريع، والتشذير (والتشذير هنا بمعنيين اثنين: أولهما، التزيين والتزويق كقولنا: شَذَّر الشاعر كلامه، وثانيهما، الاختلاف والتفريق، في إشارة إلى تعدد واختلاف إمكانات الفهم، والتفسير، والتأويل) حيث تحولها عمليات التأويل المنظمة إلى نصوص جديدة تحيا باستمرار. فهي تظل قابلة للبوح بالمعنى وبظلال المعنى الكائنة والممكنة وفق سياقات تتنوع وتتطور بفعل حركية التاريخ وتحول الحضارة.

ومن أجل أن تحصل عملية تلقي النص الأدبي بشكل صحيح، ما أمكن، يُعَوِّل الأستاذ الباحث، من أجل تمكين المتعلم قدرة التأويل، على كفايتين اثنتين: أولاهما، كفاية التلقي التي بواسطتها يكون المتعلم قادرا على:

معرفة موضوع النص،

معرفة العلاقات النصية المكونة له،

معرفة البنيات الكبرى للنص،

معرفة مكوناته الأدبية.

وثانيهماّ، كفاية الإنتاج التي تعني قدرة المتعلم على:

تحديد السياق العام للنص،

تحديد الربط بين مكوناته وعناصره،

ممارسة التأويل،

تجريب إمكانات التعبير الأدبي.

واستجابة لقصدية الدراسة المتمثلة في ضبط مسألتي تلقي وإنتاج النص الشعري، يولي د. علي آيت أوشان أهمية خاصة لعدد من مستويات السياق، وأعتقد أنه لا يستعمل كلمة سياق هنا كيفما اتفق، ولكنه يوظفه على أنه « يفترض فيه (السياق) أنه يعطي دلالة دقيقة عن العلامة- الخبر- الإنتاج. ومن هنا جاء إطلاق (السياق الموضعي) على حالة شيء- مرسل- متلقي... وقد يكون (السياق الموضعي)، هو السياق الوحيد أحيانا، بل و(السياق الضروري) غالبا، لرفع الإبهام، حيث لا يكفي (السياق العادي) وحده لرفع هذا الإبهام»، وهذه السياقات،كما تناولها فن ديك، هي السياق التداولي، الذي يوجه تعامل القارئ- المتلقي مع النص الشعري- تحديدا- كفعل كلامي، متجاوزا بذلك مفاهيم البلاغة القديمة الخاصة بعلم المعاني في باب الأساليب من طلب وإنشاء إذ «يقوم السياق التداولي على تأويل النص كفعل كلامي، أو كسلسلة أفعال كلامية، فالوعود والتهديدات والتأكيدات والأسئلة والأوامر... هي أمثلة على الأفعال الكلامية، ونقوم بفعل كلامي معين حين ننطق بجملة أو عدة جمل في سياق ملائم لها، ومهمة التداولية هي أن تحدد الشروط التي يجب أن تتوفر في كل فعل كلامي حتى يكون ملائما لسياق معين»

على مستوى آخر، يأتي السياق الإدراكي الذي يوجه المستمع القارئ إلى فهم النص وفق مخطط ذهني يسترفد السجلات اللغوية التي سبق استعمالها لتوظيفها ثانية، كما يستعين بمعرفته للعالم المخزنة في الذاكرة ليستثمرها في منجزات لغوية جديدة. أما السياق النفسي الاجتماعي، والسياق الاجتماعي فلا يقلان أهمية في عملية فهم النص من خلال علاقات التأثير والتأثر التي تصوغ الأفكار، وتبلور المواقف، وتفرز الرؤى. ويختتم هذه المستويات بالسياق الثقافي الذي يبقى خلفية أكيدة ومرجعا مؤطرا للسياقات السابقة، ذلك أن «تحليل النصوص يتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تفرض الربط بين مختلف المستويات»

تحضر مدرسة كونستانس الألمانية بعلميها وولف غانغ إيزر وهانس روبير ياوس بقوة في خلفية تصور الباحث لعمليات تلقي النص الأدبي، وذلك باعتبارها توجها جديدا في التعامل مع النص الأدبي، وفي تجاوز الحدود المسدودة التي طوقت بها البنيوية تفاعل القارئ معه. إنها نظرية تركز على العلاقة التفاعلية بينهما، فهذا الأخير هو الذي يمنح النص تحققه وراهنيته، وذلك انطلاقا من مخزون  نصي سابق يصير بمثابة مرجع لتلقي نص جديد وخلق أفق أنتظار له، وبالتالي إنتاج نص جديد.

يستعرض الباحث أنواعا من القراء نظرا لما تكتسيه القراءة من أهمية. فهناك القارئ النموذجي l’archilecteur كما يسميه ريفاتير، والقارئ الخبير، والقارئ المقصود، والقارئ المعاصر، والقارئ المثالي، والقارئ الضمني.

وإذا كان أصحاب اللسانيات الوظيفية يرون أن «الوظيفة الأساس للغة هي التواصل ويربطون بين النظام اللغوي وكيفية استعمال هذا النظام»، فإن فعل قراءة النص الأدبي وتلقيه والإبداع انطلاقا من مقدراته، ومن امتداداته، فإن معرفة هذا القارئ باللغة، ووعيه بوضعياتها التواصلية، وتمييزه بين وظائفها يؤهله أكثر لإنجاز تلق علمي للنص الأدبي.

يشتغل الباحث على ديداكتيك درس الأدب بعدة مفاهيمية شادتها نظرية التلقي أو ما يجري على لسان كثيرين بجمالية التلقي الأدبي، مستحضرا مسألة التنازع بين حقلين متمايزين لكنهما متداخلين: حقل المعرفة العالمة أو الأكاديمية المتسمة بالتخصص، ثم المعرفة المدرسية التي تنزع نحو التبسيط والاختزال، وربما الحذف والقطع، حتى يحصل تكييفها وإخراجها في صيغة ميسرة وجذابة، وذلك بما يتماشى وقدرات المتعلمين، وكذا المطالب العلمية والمنهجية المرصودة لكل مرحلة من مراحل تعليمهم وتعلمهم.

وتجسيدا لهذا التصور، يقدم الباحث نموذجا لتلقي وقراءة نص شعري، خاص بالسنة الثانية باكالوريا، لبدر شاكر السياب تحت عنوان: &في الليل& بطريقة منهجية تشتغل بأدوات ديداكتيكية تراوح اشتغالها بين اللسانيات الوظيفية، والسيميائيات، وجمالية التلقي، متدرجا في ذلك عبر المقاطع البيداغوجية من تشخيص مكتسبات، واستثمارها، وملاحظة النص، وفهمه، وتحليله، وتركيبه.

أثار انتباهي، حين تصفحت ملاحق الكتاب، نموذجٌ لتدريسية النص الشعري في الصفحات 172- 173- 174 أعار خانة التقويم ما تقتضي من قياس تحقق الكفايات من عدمه، لكن من دون إدراج أدوات البرهنة على هذا المطلب، وأعتبر أن في صياغة الباحث سيرورات التقويم على هذا النحو مسوغات أفترضها منطلق مساءلة، وأرضية نقاش لتبادل زوايا النظر حول هذه الكفاية الأساس لدى المدرس.

بالرغم من كون هذا الكتاب موجها، على وجه الخصوص لمدرسي التعليم الثانوي التأهيلي، أجده مرجعا لا محيد عنه في بناء تصور نظري حول تدريس النص الشعري في مسلك الثانوي الإعدادي. فتجربة الباحث الميدانية أنتجت عددا من الدراسات انطلاقا من واقع المدرسة المغربية بكل شروطها الموجبة والسالبة، ومن ثمة، جاءت معززة ببدائل عملية للارتقاء بديداكتيك النص الأدبي، وبأداء المتعلم المغربي حتى لا يظل محض مستهلك يكرر معطيات جاهزة ويلوكها ويعيد رسمها على ورقة الامتحان، بل يتحول، بفعل الكفايات التي تبنيها هذه الطريقة، إلى متعلم منتج، وشخصية مبدعة تشحن ديناميتها داخل المدرسة لتتبلور في مجال الحياة الاجتماعية، وتنزع نحو مستقبل مغاير يتأكد فيه دور التربية والتعليم في تشييد الإنسان الكفء في وظائفه الاجتماعية، والمقنع في مبادئه الوجودية.

تعليقات