معجم بورديو / جسد



جسد                                                                       Corps        
     
تعريب الدكتورة الزهرة براهيم




   تعتبر فلسفة بورديو فلسفة الجسد، وأنثروبولوجيا للوجود الإنساني «الاجتماعي يصنع الجسد»1. وبما أن فيه ما يكفي من الفضول، فقليل من مفسري الكتاب المقدس الذين استطاعوا حقيقة أن يُمَوْضِعوا الرهان التصوُّري المعتبر الذي يكسو فكرة الجسد عند بورديو (يفسر بورديو، بكل تأكيد في جزء منه، نفوره من العروض الفلسفية). وبالطبع، فلا يغرب عن بال أحد أن الجسد يشغل في الكتاب حيزا محدِّدا، والذي من خلال الاعتبارات حول إدماج البنيات (وبالأحرى حول إنشاء الهكسيس الجسدي Hexis corporel)2، وحول الحس العملي أو حول السيطرة الرمزية («الإكراه بالجسد» في  تأملات باسكالية) تجري عند عالم الاجتماع إعادة تقييم حاسمة للبعد المجسَّد للوجود الاجتماعي. بيد أنه، خلف استراتيجية البحث هاته، والتي تجلت مثمرة للغاية بالنسبة إلى علم الاجتماع (وللإثنولوجيا)، يرتسم، جانبيا واحدا من بين ثلاثة أو أربعة أسئلة فلسفية بانية، غياب تأملها التصوري إلى آخر حياتها. ويكون من المناسب اتخاذ تدابير فيما يدين به المؤلَّف النظري لكاتب الحس العملي لإعداد هذا التأمل. إن تصور الجسد الاجتماعي الذي ينجم عنه، يؤسس، من غير شك، بتوافق مع ذلك التأمل المتعلق بالزمانية هابيتوسا يكون متعالقا معها. فالقالب الأساس لما يمكن أن نجازف باستدعائه مع التذرع بعدد من الفقرات الفلسفية جدا لـ تأملات باسكالية، الفلسفة الوضعية لبورديو (في المعنى الذي لا تكتفي فيه بأن تكون فلسفة نفي).3
     

 إن رد الفعل لثنائية العقلي والميكانيكي، خاصية العقلانية في الفلسفات ما بعد العقلية، هو مبدأ تكوين نظرية الهابيتوس والحس العملي.4 يعني نظرية الجسد الاعتيادية التي تطمح إلى تجاوز هذه القسمة الثنائية التصورية وكل تلك التي هي مشاركة لها: داخل وخارج، عقلي ومادي، فردي واجتماعي إلخ. فالدافع قديم عند بورديو، إنه يعود إلى مخالطة كتاب أمثال ليبنتز وهيدغر وميرلوبونتي، طيلة سنوات التكوين الفلسفي، ولكنه لا يظهره جهارا إلا في الفصل الرابع من تأملات باسكالية: «إن الرؤية "العقلانية"، التي هي لصيقة بالاعتقاد في ثنائية الروح والجسد، العقل والمادة، تتحدر من وجهة نظر شبه تشريحية، إذن سكولائية على نحو نموذجي، حول الجسد خارجيا (...). هذا الجسد الشيء، معروف من الخارج كآلية بسيطة، حيث إن حدوده هي الجثة المسلمة للتشريح، وللتفكيك الآلي، أو الجمجمة ذات المحجرين الفارغين للبهرجة التصويرية، والذي يتعارض مع الجسد المسكون والمنسي، والممتحن من الداخل كانفتاح، واندفاع، وضغط أو رغبة، وأيضا كفعالية، وتواطؤ وألفة، فهو نتاج توسيع للجسد بعلاقة مع عالم المتفرجين»5. إن وضعية المتفرج (انحراف السكولائية) يميل إلى نسيان حقيقة الجسد والممارسة. فالإنسان لا يستطيع مع ذلك أن يختزل وأن لا يكون سوى جمعا بين العقل والبهيمية الآلية، إن جسده المستشرَك هو الفاعل الحقيقي في المعرفة العملية للعالم. وفضلا عن ذلك، فهذه الصياغة هي أيضا ملتبسة، لأن بورديو، في ميل تام إلى ميرلو بونتي،: «فما هو ملقَّن بواسطة الجسد، ليس شيئا نحوزه، مثل معرفة يمكننا أن نمسكها بين أيدينا، ولكنه شيء نكونه»6. فالإنسان هو قبل كل شيء طريقة ما ليكون جسدا، طريقة ما ليكون في العالم ويكون معتبَرا من طرفه. إن القرب من ميرلو بونتي ليس مصادفة، ما دام أنه يجعل من الجسد المورَّط في العالم المكان الذي لا يمكن الإحاطة به لكل أنثروبولوجيا تريد أن تتحرر من الثنائية السكولائية. فبورديو لا يمكنه أن يقصر في واجبه إزاء تحمل مسؤولية تقارب معين مع النظرية الظاهراتية للجسد الخاص. إلا أنه يتميز فيها في الحد الذي لا يفهم بناء الممارسة كنتيجة لنشاط متعال لــ أنا خالص أو لــ وعي خالص، ولكن كذلك الخاصة بجسد باني ومبني. إلى حد ما، فنظرية الهابيتوس تجد علة وجودها في البديل الذي تقترحه على المقاربة الظاهراتية للجسد الخاص. يتعلق الأمر بإعطاء «الجسد المسكون والمنسي، والممتحن من الداخل كانفتاح، واندفاع، وتوتر أو رغبة» بعده كنتاج للتحديد الاجتماعي للوجود الاجتماعي المتعالق بالتزامه داخل فضاء مبني بمواقع ودلالات اجتماعية.
    
    إلا أنه لا ينبغي أن نخطئ فيه، فنظرية استشراك الجسد التي يقترحها تصور الهابيتوس هي، على الأقل، نظرية الجسد الخاص، ومن حيث مبدأه، فإن التحديد الاجتماعي لا يتدخل كترويض للجسد، أي كفرض لمعايير خارجية على الجسد. فالهابيتوس يأتي على الأقل لتأهيل اندفاع وتوتر أو رغبة الجسد المسكون، لأثر وجود مسبق لسلوكات إنسانية محض طبيعية على الاستشراك، ولا وجود لطبيعة بيولوجية معطاة سلفا لتوجه كليا ومباشرة الانفتاح على العالم قبل أي استشراك اجتماعي. إن العلاقة مع حيازة الذات، التي تمر عبر التجربة الجسدية، ليس لها معنى إذن إلا كعلاقة مع ذات مستشرَكة:«(...) بحيازة الملكية (البيولوجية) ليكون منفتحا على العالم، إذن معروضا على العالم، ومن هنا، قابلا لأن يكون مكيَّفا من طرف العالم، ومصوغا بالشروط المادية والثقافية للوجود الذي هو مصوغ فيها منذ الأصل، فإن [الجسد] خاضع لسيرورة استشراك حيث إن التفرد هو نفسه نتاج فذاذة الــ "أنا" المصوغ داخل العلاقات الاجتماعية وبواسطتها»7. هنا يوجد شكل للمذهب الطبيعي عند بورديو، الذي يضع في الحسبان، وبانفتاح، مسألة وجود خاصيات طبيعية وعلِّيَّة للجسد 8. بيد أنه يتعلق بالعلامات التي لا تفرض أي جواب سلوكي معطى، والتي ينبغي دائما أن تكون موسَّطة بانحراف لإدماج الاستعدادات الاجتماعية النوعية: «العلاقة بالجسد الخاص هي دائما موسَّطة (...) التجارب الجسدية الأساسية جدا، إذن الأكثر شمولية، في هذا المعنى وفي هذا المعنى فقط الذي لا يوجد مجتمع عليه أن ينحاز لقصدها، هي مؤهلة اجتماعيا، ومن هنا فهي معدَّلة»9. فالبيان الرسمي منذ   L’Esquisseمن الاستشهاد السابق الذي استمدت منه هذه الفكرة البنيوية (يظل بورديو، في الحقيقة، مخلصا تماما لدرس ليفي شتروس) سوى اللاتحديد النسبي للخبرات الطبيعية التي تهيء سرير اللاتحديد الثقافي، كما يبدو كذلك بوضوح كلي في تأملات باسكالية: «(...) إن الكلام عن الاستعدادات، بكل بساطة، هو أن ندوِّن (نعلم مسبقا) باستعداد قبلي طبيعي للأجساد البشرية، (...) فالتكيف كقدرة طبيعية لاكتساب قدرات غير طبيعية واعتباطية. فإنكار وجود استعدادات مكتسبة يوجد عندما يتعلق الأمر بالكائنات الحية، إنكار وجود التعلم كتحويل انتقائي ودائم للجسد الذي يحدث عبر تعزيز أو إضعاف الاتصالات التماسية»10. إن مفهوم الجسد الذي يرتسم هنا هو مثل مفهوم شكل الحياة عند فتجينشتين، مفهوم بيو-أنثروبولوجي. فالرابط بين الطبيعة والاستعدادات ينبغي أن يكون مفكرا فيه كداخل، إن مسألة تمفصل المخططين ينفك، حتى قبل أن يصير منفكا حقيقة، في مستوى «المعرفة بالجسد». إن الطبيعة لا تمنح وسائل وجود إنساني، يعني وجودا اجتماعيا. فشرط الجسد البيولوجي لا يفتأ يفرض لعمل البناء الاجتماعي حقول تدخلاته. فموقف المذهب الطبيعي هو، في هذا الاتجاه، وهْم على الدوام، فالعالم الاجتماعي قد أنجز مسبقا عمله لتغيير الموضع الرمزي، لقد انحاز دائما فيما مضى: «فالمتغيرات التي يمكن أن تكون مسجلة في حيازة المواقع لدى مختلف التكوينات الاجتماعية (...) تُدرَج حصريا على الأوضاع المفروضة كليا على حيازة المواقع هاته، بمعنى العدد القليل للمشاعر الأساس المرتبطة بالوظائف الجسدية الكبيرة»11.

 إن هذا الانحياز يندمغ أيضا في صلب الممارساتّ، فلا يعترف بورديو بأي من الممارسات سوى الاجتماعية منها، بمعنى المتغيِّرة التي تجد مرجعيتها في فضاء المواقع 12. في الحد الذي تجعل من التجربة الجسدية بؤرة نظريته حول الممارسة، فالأجساد التي تجد نفسها هكذا مُمَوْضَعَة اجتماعيا (وفي نفس الوقت فيزيقيا)، والجسد الخاص مدمَج في فضاء الممارسات عبر تدخل البناء الاجتماعي التي يخلق الانفصال بإعادة ربط الجسد إلى موقع مادي ورمزي معين في العالم. إن الجسد ينضبط مع الموقع الذي هو ملك له في وضع ما للعالم الاجتماعي، وفي نفس الوقت، يمتلكه لنفسه بصفته جسدا مموقَعا13. فالتمايز أصلي إذن ولا يُختزل، لأنه متعالق بالتقاء الأجساد بعالم سبق تركيبه اجتماعيا. وتأتي الممارسة لتسبغ الغرابة على عالم التحديدات الطبيعية التي ليست لها سيطرة عليه. وعبر انحيازه، فإن المجتمع ينتج الضرورة التالية: أن تكون للجسد وضعية، أن يكون للجسد مكان. إلا أن ضرورة مثل هاته ليس إلا عكس احتمال ميلاد جسد مسكون في موقع معطى من العالم الاجتماعي. لأنه إذا جاء الهابيتوس ليغمر، في سياق الممارسة، فراغ الجسد الذي هم من دون مكان،  أتوبوسAtopos   14، فإنه يأتي أيضا ليخفي اعتباطية هذا التحالف في موقع معطى، لهذا الصنيع، فإنه يندمج ويصوغ الأجساد، إنه يسم «الجسد، يكتب بورديو، في عمقه الأقصى وفي لاشعوره الأعمق، أي النظام الجسدي بما أنه مؤتمن على رؤية عامة للعالم الاجتماعي، وعلى فلسفة عامة للشخص وللجسد الخاص»15. لا يوجد جسد خاص حقيقي سوى الجسد الذي أدمج في الهابيتوس أنماط للفعل وللتفكير فأخذت موقعها اجتماعيا. إن التحديدات الاجتماعية المدمجة على هذا النحو هي استعدادات (منافع- مواقف- أذواق- رغبات- معارف عملية إلخ..) مكوَّنة تاريخيا، وثابتة على مدى فترة طويلة، ومنظمة في مجموعات متماسكة تقسِّم جماعيا الأفراد الذين أنجزوا تجربة بنفس شروط الاعتياد. وبوصف التجربة الطبيعية للجسد محددة جزئيا، فالتجربة الأولى هي صلة الاعتياد بالعالم الاجتماعي، صلة لا تنفك داخلها الجدلية الجسدية للاعتياد تعمل في حركة مضاعفة لاستبطان الخارج وإظهار الباطن. إن الخاص ليس ممنوحا أبدا سوى في العلاقة الجدلية بين الاستعدادات والمواقع.
  
     يبقى أن هذه الجدلية، التي تمثل مركز الزلزال السطحي للأنثروبولوجيا الفلسفية الخاصة ببورديو، تثير عددا من المشاكل التصورية. فالطريق الأيسر للاجتهاد من أجل تجاوزها يقتضي الاعتماد (كما يمكننا أن نؤكد أن بورديو قد فعل ذلك على الأقل بانفتاح) على بعض التحليلات الظاهراتية للتجربة الجسدية،  وخصوصا، على تمديد ميرلو بونتي لنظرية التصميم الجسدي لشيلدر. إن أساس التكوين يقوم في الواقع على تصور الجسد الذي ينبعث من هذا الإدراك، أي سلطة إدماج وتعميم تماثلي للجسد الإنساني. فالجسد ،على كل حال، معروض صراحة فيL’Esquisse d’une théorie pratique  بمثل مزوّد بنظام مرجعيات من أجل بناء الفضاء: «نلاحظ تقريبا أن أغلب التميُّزات الفضائية هي قائمة كليا بتماثل مع الجسد الإنساني الذي ينشئ نظام مرجعيات بالنسبة إليه يستطيع العالم أن يرتب نفسه، في الوقت نفسه تصادف البنيات الأولية للتجربة الجسدية مبادئ بناء الفضاء الموضوعي: الداخل والخارج، الأعلى والأسفل، اليمين واليسار يمكنها أن تصير معيَّنة بواسطة عبارات مساوية لأجزاء الجسد الإنساني (...) أو لحركات جسدية مؤهلة اجتماعيا كطرح أو ابتلاع، دخول أو خروج، إلخ...»16. يملك الجسد الطبيعي سلطة منح العالم بنيته، وهذا في صلب نفس سيرورة الإدماج. يتعلق الأمر هنا بدرس فينومينولوجيا التلقي: للجسد مقدرة على الوصول إلى شمولية العالم بأن يصير شموليا وأن يعير العالم شموليته الخاصة. ومثل الجدلية الخاصة التي يصفها بورديو «الجسد كائن في العالم الاجتماعي ولكن العالم الاجتماعي كائن في الجسد»17، شمولية الجسد عند ميرلو بونتي هي مفهوم دائري، بمقتضى تبادلية الاندماج أيضا، «فالجسد يكرس نفسه حيث يحمل نظامه في ذاته (...)»18. ومثلما يسترعي انتباهنا برونو كارسنتيBruno Karsenti  في تحليلاته لنظرية العمل، ينبغي، لكي نفهم هذه المصادفة، أن نقبل الدائرة: الــ "ميلاد المشترك" للجسد ولعالمه هو على الدوام حاصل مسبقا. التعبير الجسدي لا معنى له إلا داخل نظام العالم، فالجسد لا يمكنه أن يدعي إلا خارج ذاته، لا يكون له إدراك لذاته من دون بناء العالم هذا الذي هو بالنسبة إليه كيفية لامتحان نفسه وإتمام بناء الحاضر. ثم يلتقي في الممارسة، بما أنه لا يملك داخلا، ولا موطنا آخر سوى عالم العادة وعادات العالم.

هوامش جسد:
1-Réponses. Pour une anthropologie réflexive, (avec L.J.D Waquant). Coll. « Libre examen », Éd. du Seuil, Paris, 1992, p. 103.
2- الهكسيس الجسديhexis corporel ، يصف القواعد التي تسير السلوك الجسدي للأفراد.
3-Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997, p. 15.
4- Réponses. Pour une anthropologie réflexive, ibid, p. 96-98.
5- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 160.
6-Le Sens pratique, coll. « Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1980, p. 123.
7- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 161.
8-Ibid, p. 186.
9-Esquisse d’une théorie de la pratique. Précédée de : Trois études d’ethnologie kabyle (1972), « Point Essais » Éd. du Seuil, Paris 2000, p. 289.
10- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 163.
11- Esquisse d’une théorie de la pratique, ibid, p 289.
12- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 161 -162.
13-Ibid, p. 157.
14-Ibid, p. 158.
-                    Atopos، أي ليس في مكانه المناسب.
15-La Distinction. Critique sociale du jugement, coll. -« Le sens commun », Éd. de Minuit, Paris, 1979, p. 240.
16- Esquisse d’une théorie de la pratique, ibid, p. 289-290.
17- Méditations Pascaliennes, ibid, p 180.
18-La prose du monde. Paris, Gallimard. coll. « Tel », p. 110.


                               

تعليقات