معجم بورديو : تخلفية

تخلفية Hysteresis                                                                  

تعريب : الدكتورة الزهرة براهيم

يستعمل بورديو هذا التصور ليعبر عن زَيَحَانِ الاستعدادات بالنسبة إلى الأوضاع التي تصادفها، إن تصور التخلفية1  Hysteresis (من الكلمة الإغريقية، Husterein «أن تكون متخلفا»)، يشهد على أهمية «مثال الدون كي شوت» في إعداد نظرية الهابيتوس. وكمثال على الارتباك الشهير لشخصية سيرفانتيس، المنطلقة في بحث عنيد عن عالم فروسيّ بائد، فإن الهابيتوس يستطيع أن يسبب، بنزوعه إلى مرافقة البنيات التي طبعت تكوّنه، إزالة ضبط الفاعل، الذي يحمله، بالنسبة إلى تحول البنيات الموضوعية التي تسيّر الاشتغال الراهن لمحيطها الاجتماعي. ومن أجل تأهيل فتور الهابيتوس وتنافره إزاء البنيات  الاجتماعية التي ينتج عنها، فإن بورديو يختار، في محفل حديثه عن التخلفية، أن يغير موضع تصور مستعمل في الفيزياء للتعبير عن تخلف الأثر عن السبب في تصرف جسد ما، وذلك نتيجة لفعل مطاطيّ ومغناطيسي. وبطريقة مماثلة، فإن تخلفية الهابيتوس تسجل تخلفية في الاستعدادت التي تشتغل في غير أوانها، مضبوطة لشروط متقادمة العهد. إنها تبدو موضوعيا غير متكيفة مع الشروط المعمول بها:

«(...) يوجد فتور أو تخلفية، فالهابيتوس ذو النزوع العفوي (المحفور في البيولوجيا) ليؤبد بنيات موافقة لشروط إنتاجها».2 فالفاعل يؤبد الاستعدادات التي تدور في فراغ. إنه ضحية ارتباط باطني بالجسد الترتيبي إلى حالة متجاوَزة في النظام الاجتماعي، ثم إنه لا يملك البنيات الذاتية التي تتيح له تقدير أو تجاوز تأخره، وتخلفيته. ولكي يُشهر «تأثير الدون كيشوت» هذا، يقارنه بورديو، في حديث له مع روجيه شارتييه Roger chartier، «بتذمر العجزة»: «يوجد بغرابة الدون كيشوت لدى كل عجوز (...) إنه الحنين إلى نظام مضمحل كان فيه الهابيتوس بمثابة سمكة في الماء، وبالعكس، فإن أوقات السعادة والشعور بالغبطة هي لحظات تحدث فيها صدفة بين الهابيتوس والعالم، حين يستجيب العالم إلى ربع دورة انتظارات الهابيتوس».3

          ومهما أنه لم يتكلم بعد عن التخلفية، وأن تصور الهابيتوس بصفته هكذا، لم يصبح بعد مُعَدّاً، فإن بورديو يصل إلى تحليل حالة الزيحان، وعدم الضبط منذ أعماله الأولى في الجزائر وفي بيرنBéarn .4، لقد واجه بالفعل، في ميداني التحقيق هذين، هابيتوس ما قبل الرأسمالية غير الموجهة لأنها تكون، بشكل حَرْفِيّ، «ملقاة داخل كون رأسمالي».5 فالقرويون الجزائريون الذين يدرسهم مثل نظرائهم البيرنيينBéarnais ، لا يتوفرون على بنيات مدمجة تسعفهم بوسائل لفهم وقبول التحولات العنيفة التي تؤثر على محيطهم بفعل الفرض المتسرع للمعايير الرأسمالية. وتستبيح التجربةُ اليومية الطلاق الأليم بين مطامحهم الذاتية والحظوظ الموضوعية الناجمة عن واقع ظروفهم. إن تكوّن تصور الهابيتوس هو، بلا مراء، مطبوع بسمة هذه الأبحاث الأولى، وهكذا يدمج بورديو مبدأ  التخلفية الكامنة للاستعدادات منذ بدء عرضه النسقي لهذا التصور في L’Esquisse d’une théorie de la pratiqueإنه:

«بدافع تأثير التخلفية التي هي متواطئة لا محالة داخل منطق تكوين الهابيتوس، تتعرض الممارسات دائما لتلقي عقوبات سالبة، إذاً & تعزيزا ثانويا سالبا&، عندما يكون المحيط مبعَدا جدا عن ذلك الذي تم فيه ضبطها موضوعيا».6 يجازف الهابيتوس أن يكون دائما متخلفا على مستوى البنيات الموضوعية التي تحدد الهيئة الراهنة للعب الاجتماعي الذي يشارك فيه. إن ديمومة الاستعدادات الجسدية والأخلاقية التي ترسبت على توالي استشراك الفاعل يمكن أن تكون في أصل التكيف من عدمه. فهي تستطيع أن تتحول إلى شيخوخة، وثباتية، حيث إن الفاعلين يسعون إلى تلافي عرض استعداداتهم الإدراكية والتحفيزية الأكثر رسوخا، ثم إعادتها إلى بساط البحث. كذلك، هل إن التزايد العام والمستمر لطلب التعليم، مثلا، في عقد الستينيات بفرنسا يقود إلى تضخم الشهادات الدراسية: إن«تخلفية أنماط الإدراك والتقدير تجعل الحائزين على شهادات ناقصة القيمة نوعا ما متواطئين ضالعين في خداعهم الخاص، لأنه بتأثير نوعي للألودوكسيا (بمعنى أخذ شيء مكان شيء آخر) allodoxiaفإنهم يمنحون الشهادات الناقصة القيمة، التي أُنعِم بها عليهم، قيمة لا يتم الاعتراف لهم بها موضوعيا».7 ويحاصر الهابيتوس إدراكيا ونزَويّا العالم الذي يكوّنه، وعندما يجد الفاعل نفسه مرهونا، على الدوام، داخل اللعب الاجتماعي، وأنه سيشارك بوهمه، فإن الهابيتوس الخاص يحمل البصمة العميقة والدائمة لهذا الحصار الشامل:

إنه متمسك باللعب الذي يملك فيه خبرة. هكذا هي اللاعقلانية المنسوبة للألودوكسيا، هذا الخطأ الذي نرتكبه عندما نكون بانتظار شيء ما، فإننا نكون على استعداد بأن نعترف بأي شيء يبدو كذلك الذي نحن بانتظاره من ضحايا تضخم الدبلومات، هذا التضخم هو نتيجة وهمها، واعتقادها الترتيبي في القيمة الدائمة للعب الاجتماعي ورهاناته.

إن الأخذ الأولي للتخلفية بعين الاعتبار هو إذن تهديد بالزيحان والتنافر والإخفاق، في تعريف الهابيتوس يبدو أنه لا يؤهل للتقدم في عرض، قط بقدر ما هو عنيد- لنظرية التطبيق كنظرية لسَجنٍ شبه وظيفي للفاعل وللعَالم الاجتماعي. إلا أن عالم الاجتماع لم يتوقف قط عن تحليل ذاتي، منذ Le Déracinement إلى  L’Esquisse، مرورا بــ La misère du monde ، وذلك لإلقاء الضوء على الاغترابات، وعلم الأمراض الاجتماعية الناجمة عن عجز الفاعلين في تجاوز المسافة الفاصلة بين أنماط إدراكهم للواقع المندمجة بعمق أكبر، وبين القواعد والانتظامات الموضوعية التي تحدد اشتعال هذا الواقع.

           إن جزءا من تفسير إصرار هذا التأويل الخاطئ يأتي مع ذلك، ومما لا شك فيه، من استراتيجية العرض التي يحتفظ بها بورديو في عدد مهم من فقرات نصوصه النظرية أكثر، وعلى الأخص، في الصورة المشوهة التي قد خلفتها مرجعيته الفينومينولوجية للحس العملي. ومما لا ريب فيه، فإن  نظرية الهابيتوس تملك ترسيخا فينومينولوجيا أكبر، بحيث تعتمد تحديدا على التصور الأثير عند ميرلو بونتي، حول المادية الجوهرية للاتصال قبل الموضوعي بين الذات والعالم، إلا أن ربطها بفكرة «وحدة قبإسنادية antéprédicative للعالم ولحياتنا» يمكن أن تبدو مضلِّلة على وجه خاص. إن فكرة تواطؤ أنطولوجي بين الذات والعالم («الصدفة» في تأملات باسكالية) التي يحدث أن يستعيدها بورديو لحسابه، ليحض على إدراك اقتران الهابيتوس والعالم كمماثل لذلك الخاص باالجسد والمحيط.

منذ ذلك الوقت، فتناسب البنيات المبنية مع البنيات البانية يمكن أن يَظهر، باستثناء ذلك، كما لو أنه تلقائي. إلا أن بورديو يدافع عن نفسه «بما أن الأجوبة التي يولِّدها الهابيتوس من دون حساب ولا مشروع، تظهر في الغالب الأعم، كأنها مكيفة ومتماسكة ومعقولة على الفور، فلا ينبغي أن يقود إلى أن نجعل منها نوعا من الغريزة المعصومة من الخطأ، وقادرة في كل مرة على إنتاج أجوبة مضبوطة بمعجزة لكل الأوضاع. إن ضبط الهابيتوس المسبق للشروط الموضوعية هو حالة خاصة، وشاقة بلا ريب، لا سيما (داخل العوالم المألوفة لدينا)، لكن يجب أن نحتاط من تعميمه».8 في الحقيقة، فمثال الهابيتوس هو ترتيبي أكثر منه ظاهراتي: فالصلة القصدية هي ثلاثية ودينامية عند بورديو، ليس فقط لعدم وجود صدفة طبيعية بين الجسد والعالم، إنها المكان الاجتماعي الذي يسمح بإمكانية تأسيس استمرارية اليومي، لكن الجسد المبني هو جسد ترتيبي، جسد قادر على استباق عادات العالم، نظامه ومؤسساته وأحكامه. بيد أنه إذا كان هناك استباق للهابيتوس، فلأن الجسد المستشرك مطالب بأن ينضبط، مع أنه، كُمُونِيًّا، في حالة زيحان دائما إزاء الوضعيات التي يجابهها. وتأتي تخلفية الهابيتوس لتذكر بأن التاريخ الملتحم بالأجساد والتاريخ الملتصق بالأشياء لا يعملان بنفس المدة الزمنية. إن فضيلة دينامية التعود تتمثل في أنها تسمح بإيواء نظام الأشياء وضبطها بانتظام، لكنها لا تملك سلطة إبطال الخطر البنيوي على الارتباك الذي يولد من الفتور والتخلف الأصلي للجسد عن الوجود الإنساني.

انتهى

هوامش تخلفية:

1-تخلفية، معناها هو تخلف الأثر عن السبب.

2-Méditations Pascaliennes, coll. «Liber», Éd. du Seuil, Paris, 1997. P. 190.

3-Entretien avec Roger Chartier à l’occasion de la publication des Méditations, dans «Les lundi de l’histoire», France Culture, Mai 1997.

4-cf. Le Déracinement. La crise de l’agriculture traditionnelle en Algérie, Paris, Minuit, 1964, noue. Ed., 1996 (avec A.Sayad) ; Algérie 60, structures économiques et structures temporelles, paris, Minuit, 1977 ; « Célibat et condition paysanne », Etudes rurales, 5-6, avril-septembre 1962, p. 32-136 ; repris dans Le Bal des célibataires, crise de la société en Béarn, Paris, Éd. du Seuil, coll. «Point Essais»2002, p. 15-66.

5-Réponses. Pour une anthropologie réflexive, (avec L.J.D. Wacquant), coll. «Libre Examen», Éd. du Seuil, Paris, 1992. P.106.

6-Esquisse pour une théorie de la pratique. Précédée de : Trois études d’ethnologie Kabyle (1972),coll. «Points Essais», Éd. du Seuil, Paris, 2000, p. 260.

7-La Distinction. Critique sociale du jugement, coll. «Le sens commun», Éd. de Minuit, Paris, 1979, p.158.

8-Méditations pascaliennes, ibid, p. 189.

تعليقات