يوسف ذو القعدة

يوسف ذو القعدة

محمود الماجري

ليس ليوسف هذا علاقة بيوسف الذي نسمع عنه في الكتب المقدسة، مُفكّك لغز السبع العجاف والسبع السمان، وما أبعد يوسف ذو القعدة عن زليخا، امرأة العزيز، وعن بوتيفار، العزيز ذاته. يوسف هذا ما زال لحما ودما ينام ويصحو، بل يُكثر من المشي في الأسواق. في الأصل ليس لذي القعدة، في سياقنا هذا، صلة بالشهر الدوّار، غير المستقرّ على فصل واحد حتى وإن كانت تحلو فيه القعدة لدى عرب زمان في كل الفصول. قيل أنهم كانوا يقعدون عن القتال والترحال. هل كانوا يقعدون فقط؟ ألا يفعلون أشياء أخرى؟ ألا يختبؤون عمن يعرفون لغايات يعرفونها هم وحدهم؟ ألا ينظّمون قعدات كما نفعل نحن الآن؟

في الحقيقة لم أشأ استعمال عبارة "صاحب" عوضا عن "ذو" لأني لا أريد ليوسف الذي بدأتم تتعرفون عليه أن يستأثر بالقعدة ليكون صاحبها هو فقط ونكون نحن من متمماتها. رأيت في "ذو"  أقل دلالة على معنى التملّك من " "صاحب" . هذه مسألة لغوية قد يقتات منها جماعة من الشيوخ طيلة حياتهم الفقهية، بل إن ورد واستفتاهم فيها أحد المهووسين بشواذ اللغة (على فكرة هذه فصيلة بصدد الانقراض لأن اللغة ذاتها بصدد الاضمحلال) فسيعدّون من أجلها البرامج التلفزيونية التي سيُعاد بثها دون شك في الصباح الموالي والناس نيام.

عرفت يوسف فيما عرفت من الناس لما كان طالبا قادما من بعيد. ما فوق العشرين بقليل. طويل جدا. قرابة المتر وتسعين سنتمتر. في ملامحه خشونة. لا هوّ بالقمحي ولا بالأسمر الداكن. يتوفّر على مشاريع تجاعيد مستقبلية على الجبين، تظهر أيضا خطوطها الملتوية على الخدين وحتى في مستوى الحنجرة. تراه قادما من بعيد مثل شاحنة بين العربات الصغيرة. يوسف قليل التفاعل مع ما يعرض عليه، فكرة كانت أو موقفا أو حتى نكتة فالتة. لا تدري هل استوعب ما قيل أمامه أم هو يتظاهر بعدم الفهم، لكن يحدث أحيانا أن يفتح عينيه أكثر من اللازم.

كان وقتها على حداثة عهده بأجواء العاصمة. حتى الحافلة لا يحسن ركوبها. قيل أنه لا يعرف من أي باب يدخلها. صادف مرة أن كنت محشورا فيها فاستمعت إلى أصوات تتمازج لتصبح صوتا واحدا: من تالي، من تالي يا بهيم. لقد كان يوسف هو ذاته بعينين مفتوحتين أكثر من اللزوم. منذ تلك الحادثة عدلت نهائيا عن ركوب الحافلة مخافة أن أُنال ما ناله يوسف. ثم إني لا أحسن فتح العينين مثله. فضّلت التنقل على الرجلين حتى تحوّلت إلى داعية لرياضة المشي. أحمد الله أني لم أتحوّل إلى داعية في تخصصات أخرى. في ذلك الحين لم نكن نتمتّع بالديمقراطية كما ننعم بها الآن أمام أنظار العالم. الخصام بين الركاب ومع بائع التذاكر كان يمثل لوحده تعبيرا عن الذات وإثباتا للرأي المخالف حتى وإن كان عنادا مقصودا.

لم يكن يوسف، وذاك ما أخمّنه، على بيّنة من  ترتيبات الحافلات وإلا لما صعد من الأمام ولما كان سببا في ما خاض فيه الركاب. كانوا يتحسرون على الأيام الخوالي. قال أحدهم: لم يبق أحد، كل العائلات الأصيلة هربت إلى الأحياء الجديدة. لم أقترب من يوسف ما يجعلني أعرف عنه الكثير. لم أر واحدة من الطالبات تعمدت الظهور معه أكثر من مرة كما كان يحدث في تلك الأيام. ضمان علاقة واحدة هو شعار تلك المرحلة. طقس العبور إلى الفضيلة يمر حتما آنذاك عبر مسلك يؤدي إما إلى عقد الزواج أو إلى لا شيء. لم ألحظ أنه ينتمي إلى مجموعة من المجموعات التي تتشكل حسب الانتماءات الجهوية أو العقائدية. كان في ظنّي أنه يمشي رويدا ثم يقف ليمشي من جديد بخطى مترددة. مولود جديد في عالم جديد. عدد من زملاء الكلية كانوا ينسبون إليه غباء أو بلاهة لم أرها فيه. في الحقيقة لم أكن لأهتم به كثيرا. كنت أسمع بعض الزملاء يقولون عنه إنه يميني، تحريفي، بوليس للنظام، دستوري. لم يكن يعنيني تصديق ما يقال ولا تكذيبه. من لا يعرف الطريق إلى داخل الحافلة كيف له أن يكون يمينيا أو يساريا أو حتى بوليسا للنظام؟

إذا صادف أن اعترضني يوسف فلا أتجنبه ولا أشرح له صدري كما تعوّدت أن أفعل مع من اصطفيت من القوم. لا أعتقد أنه كان ينشغل بتفسير سلوكي معه. كان يردّ على تحيتي بكلام لا يصل إلى الأذن اعتبرته كافيا لعدم التورط في علاقة قد تسيء أكثر مما تنفع. غاب عني مدة تجاوزت عشر سنوات أو أكثر. انشغلت خلالها بما جلب لي ضغط الدم ومشتقاته. رأيت يوسف صبيحة يوم بفندق يكاد يلامس البحر تعوّد عمّالنا بالخارج، والخارج هنا لا يعني سوى ثلاثة مدن فرنسية كبيرة، أن يجعلوا منه حلبة يمارسون فيها رياضة من يشرب أكثر. فندق تتنافس فيه البطون. فُتوّة كُروش تنتفخ وتنتفخ أكثر لتنتهي إلى سُبات خمري عميق. كنت أتأمل ذلك العالم ولا أفهم لماذا يتهافت هؤلاء على تعجّل تحقيق تلك الغيبوبة. لماذا يرمون بما ادّخروا عاما كاملا ليكونوا في أقل من يوم على تلك الحالة؟ كان يحلو ليونس الاختلاط بهم. رأيته يعبّ البستيس عبّا، والبستيس هذا مشروب روحي بطعم العرق يصعد إلى الدماغ بعد الكأس الثانية. تجنّبت مجالسة يوسف في تلك المناخات، لم أكن أحييه أو أتبادل معه أحاديثهم عن الإسمنت والتراخيص البلدية وأسعار السيارات والأجبان واللحم الحلال. لم تكن تستهويني نكاتهم البذيئة. علمت فيما بعد أن يوسف تخرج أستاذا. درّس مدة طويلة إلى أن صار مديرا لمعهد ثانوي كبير. قيل أنه سئم هذه المهنة فعاد إلى الجامعة ليعدّ أطروحة دكتوراه  أملا في الالتحاق بالكلية التي تخرّج منها. أكيد أنه لم يعد يركب الحافلة لا من الأمام ولا من الخلف. قد يكون اغتاظ من عدم اهتمامي به لما ألمحه في الفندق جاءني يوما قائلا: أراك أحيانا هنا وأشعر أنك تتجنبني. لم يكن ينتظر جوابا. صافحته بحرارة. قلت له: أفضل مشاهدة البحر على أن أبقى حيث أنت. أضاف أنا كل يوم في هذا المكان من العاشرة إلى الواحدة ما عدا يوم الجمعة. لم أسأله لماذا يتغيب في هذا اليوم بالذات. علمت فيما بعد أنه اشتهر لدى كل رواد الفندق بيوسف بستيس. كان فيما بلغني أنه لا يكتفي بنصف قنينة. يطلب كأسا أخرى أطلق عليها اسم كأس الطريق. يردد في كل جلسة أنه يقطع يوميا ستين ألف متر ذهابا وإيابا من أجل هذه الكأس الأخيرة. لا أحد يصدقه لكنهم تعودوا أن يقولوا له والله أنت هو الرجل. يبتسم ويحيي الجميع رافعا يديه إلى مستوى  جبينه وقد كسته التجاعيد.

التقيت به صدفة في سوق مدينته يتنقل مثل عمود كهربائي بين الخضر والغلال. يحملق في وجوه الباعة. يتفرس في وجوه النساء. ليس بيده سلة مثل أكثر الزبائن. لما رآني ابتسم وهلل كما لم يعتد من قبل. أقبل علي معانقا. حضنني بذراعيه الغليظتين ثم قال ماذا تفعل هنا؟ قلت له تعودت أن أتجول في أسواق المدن المجاورة تجديدا لسروجي. قال: أنا من السروج القديمة. ضحكت وقلت له لكنك  اختفيت مدة طويلة جدا. لما شرعت في تذكيره بصولاته مع البستيس قال دعك من النظريات. أتبعني، كل شيء تمام. رأيته يمتطي سيارة رباعية الدفع سوداء مشيرا إلينا باقتفائه. توقف بعد خمس دقائق. اشترى من الخبز المستدير أربعة. من الماء ست قنينات. دعانا للنزول من سيارة صديقي غير الرباعية. فتح الباب الخلفي لسيارته وقال هذا هو بيتي الحقيقي أخذه معي حيث شئت، كل لوازم الارتجال متوفرة. طاولة تنطوي على نفسها. ملاعق. سكاكين. صحون وما يتبعها، مناديل، أواني للبهارات والزيت. ثلاجة متصلة بشاحن الكهرباء ومثبتة على الدوام وراء المقعدين الخلفيين. ختم الفرجة بأن قال هل أعجبكما مطبخي المتنقل؟. أضاف هذه القرى الزراعية تنام قبل أن ينام الدجاج. لا شيء فيها غير الذين يكنزون الذهب والفضة ويُحصون البيوت وقطع الأرض التي سيشترونها لأبنائهم وأحفادهم. كيف يمكن أن تكون ديكا والدجاج نيام؟ قالها ضاحكا. أهرب منهم لأعود إليهم وهم في شخيرهم غارقون. وأنا أسير خلفه لاحظت أنه لا يأبه بالمارة، يسير وكأن كل الطريق على ملك سيارته وحده. رن هاتفي لأسمعه يقول انتظراني قليلا أمامي المقهى وكنا غير بعيدين عنه. قال: الفيلتر هنا لا مثيل لها خاصة مع شيشة تفاح. انعرجت سيارته لتختفي عنا. لم  أعر اهتماما لحكاية القهوة والشيشة. أوقف صديقي سيارته. قال وهو يشعل سيجارة من أخرى وينفث دخانها من النافذة المفتوحة: لا فائدة من القهوة الآن فسيأتي يونس بما سنمزجه بالماء. أليس كذلك؟

مرت عشرون دقيقة. بدأت أشعر بطول الانتظار. الجالسون في المقهى صاروا أكثر انتباها لبقائنا في السيارة. نادل المقهى يتصنع تنظيف الطاولات القريبة منا حتى يتثبت مما نفعل. بائع المكسرات المقابل احتار من توقف السيارة ولا أحد نزل منها. المهم بالنسبة له أن يبيع شيئا حتى وإن كان سيجارة واحدة. حتى سيارة الشرطة خفضت من سرعتها لما وصلت إلى مستوى سيارتنا. سائق بجانبه ضابط ذو نجوم ثلاثة نظرا إلينا في نفس الوقت. تفرسا فينا ثم واصلا طريقهما متمتمين بكلام لم يصل إلى مسامعنا. قلت من الضروري الاتصال بيوسف لعل في الأمر مكروها؟ لا يمكن الحصول على مخاطبكم. أعدت الطلب فعاد صوت جديد ليقول نفس الشيء بفرنسية رقيقة.

قلنا ننتظر مدة أخرى لعله يكون خارج التغطية أو نفد من جواله الشحن كما نفد صبرنا. لم أتجرأ على البحث عن بيته. كان بإمكاني أن أستجيب لفضول النادل وبائع المكسّرات بأن أقول لهما أني أنتظر يوسف وإني في حيرة من غيابه المفاجئ. كنت سأقول لكل من كانوا بالمقهى لم أتعود منه كذبا أو تسويفا. كيف لمن لا يعرف ركوب الحافلة أن يكذب؟ طلبت من صديقي أن يشغّل المحرك حتى نلتحق بقواعدنا سالمين. سالمين مما كان سيمزجه لنا يوسف بالماء الذي اشتراه أمامنا أعيننا. فعلها صديقي وهو يشعل كعادته سيجارة وراء أخرى دون اعتراض.

منذ اختفاء يوسف وأنا كلما أذهب إلى تلك السوق إلا وأتفحّص وجوه كل الزبائن. أقول قد يكون تنكر حتى لا أعرفه. لم أشأ أن أسأل عنه. لكن قررت يوما أن أعود إلى أمام المقهى حيث توقفت سيارة صديقي منذ أكثر من خمس سنوات. سألت عنه النادل وقد ابيض شعره. قال: عم يوسف، أكيد أنه في وكالة الأسفار. وكالته في الحي التجاري الجديد يداوم فيها كل أيام الأسبوع. وكالة أسفار؟ هل حول سيارته رباعية الدفع إلى وكالة أسفار؟

لم أطلب من صديقي التحرك لكنه انطلق بسيارته إلى الحي الجديد. حركت رأسي موافقا. في أقل من ربع ساعة كنا أمام لافتة زرقاء كبيرة كتب عليها بالأحرف الغليظة: وكالة يوسف للعمرة والحج. نظرنا إلى بعضنا البعض. أنا لم أجد ما أقول. كاد صديقي ينطق بالكلمة الأخيرة من الجملة التالية: صار جديرا بلقب يوسف ذو.....قلت له لا فائدة في أن تخلق لنفسك متاعب إضافية. أنت متهم على الدوام. لكنه أصر على القول: كان عليه أن  يمر مباشرة إلى الشهر الذي يلي ذي القعدة. قلت ضاحكا بأعلى صوتي لا تورطنا في ما لا تُحمد عقباه.

ولأننا لا نمل معا من تغيير الأسواق كنا كلما ذهبنا إلى مدينة يوسف التي ينام أهلها على مواقيت الدجاج يهمّ صديقي بنطق يوسف " ذو الح....." أضع سبابتي على شفتيّ وأنظر إليه. ننطلق في هستيريا من الضحك ونهرب بعيدا عن ضجيج الباعة وتلهّف الزبائن وتدافعهم على خبز الطابونة.

تعليقات

  1. نص جميل يأخذنا الى كل تفاصيل الحكاية لنرى صورها عن كثب و نسمع اصواتها و نشم روائحها...نص جميل فعلا.

    ردحذف

إرسال تعليق