غنام يرقص بيننا مذبوحا من الألم

غنام يرقص بيننا مذبوحًا من الألم

اشتققنا هذا العنوان من بيت شعر عربي يقول:

ولا تحسبنّ رقصي فرحًا فالطير يرقص مذبوحًا من الألم

حضرنا عرضًا للفنان الفلسطيني غنام غنام في مدينة الثقافة يوم الجمعة 4 ماي 2018 وكان يومًا متشائلًا بالنسبة إليّ على حدّ تعبير المرحوم إميل حبيبي. لقد كنت متفائلًا بإنجاز مدينة الثقافة، ذلك الفضاء الّذي أدخله لأول مرّة ووجدته إنجازًا رائعًا ونزل على قلبي بردًا وسلامًا. وأما التشاؤم فقد انتابني وأنا أحضر عرض الفنان الأستاذ غنام غنام الموسوم بـ«سأموت في المنفى».

وظف الفلسطينيون قضيتهم في العديد من الأعمال الإبداعية: شعرًا ورواية وقصة ومسرحية وفنونًا تشكيلية وموسيقى وسينما، ولكن بشكل عام كان يطغى عليها طابع المباشرة، لذلك كانت تحرّكني القضية أكثر مما تحرّكني الأعمال الإبداعية، أما مع غنام غنام فقد اختلف الأمر . لقد أثار القضية الفلسطينية بشكل ذكي وابتعد عن المباشرة في نص مونودرامي طغت عليه الشعرية السوداوية بحيث كان المحور الأساسي للعرض مأساة الإنسان الفلسطيني الّذي مات أو الّذي سيموت في المنفى، بعد أن عاش المنفى وأرّقته الذكريات، ذكريات استوى فيها الإنسان والحيوان والنبات والحجر والتراب، ذكريات سرقها الاحتلال وعاش على وقعها الإنسان الفلسطيني، عاش ينتظر عودة، عاش ينتظر أن يضمه قبر يعتبره صدر أمه الحنون من خلال التحامه بالأرض من جديد، تلك الأرض الّتي خُلق من رحمها وإليها يعود.

العرض تذكّر ووصف واتهم وحنّ وتمنّى ورغب، فيه اتهام للعرب الّذين سهّلوا على اليهود محو اسم فلسطين من الخارطة وتذويب الهوية الفلسطينية، ولكن فيه أيضًا جلد للذات، اتهام للتقاعس الفلسطيني...

رأينا في هذا العرض عذاب الإنسان الفلسطيني مسافرا ومقيما وحيّا وميتا وشابا وشيخا وامرأة وصبية، ذلك الإنسان الفلسطيني الّذي وجد كلّ البلاد العربيّة بلده إلاّ بلده ليس بلده.

نغنّى العرض بالوطن وتألّم لضياعه وعبّر عن حنين جارف لأرض الوطن الّذي أصبحت تُذكر مدنه فوق شواهد القبور وتُمسح من الخرائط. لقد كان شبح الموت مخيما على العرض وكان البطل بامتياز ولكن رغم ذلك حاول الأستاذ غنام أن يُضحك الجمهور وأن يخرجه من جوّ الموت والفناء والقبور ببعض اللفتات الرشيقة والنكات الخفيفة ولكن رغم ذلك يبقى الجوّ رماديا فيه من المأساة شيء كثير وفيه من الكوميديا بعض الأشياء وفي النهاية كانت عبارة عن كوميديا سوداء طبعت العرض من أوله إلى آخره.

جاء عرض غنام معبّرا عن مأساته كإنسان وعن مأساة فلسطين الّتي تماهت مع مأساته الشخصية والعائلية. تحرّك غنام كثيرا وسط الجمهور وغنّى وحاول إشراك الجمهور في العرض ليجعله عرضا فرجويا لامس الفداوي والحكواتي وغنام له تاريخ مع التراث الفرجوي العربي الإسلامي منذ أواسط التسعينات عندما قدّم عروضا مُستلهمة من ذلك التراث. قدّم غنام عرضًا حول الوطن وغلاوته وحول ضياع الوطن الّذي لا يمكن تعويضه بأيّ شكل من الأشكال وتحت أيّ ظرف من الظروف وتحت أيّ موقع من المواقع:

وطني لو شُغلت بالخُلْد عنه نازعتني إليه في الخُلْد نفسي

وفي الختام ذكّرني عنوان الأستاذ غنام «سأموت في المنفى» بحوار دار في سوريا الحبيبة بين شاعرين سوريين كبيرين، الأول كان في المهجر وأراد الرجوع إلى سوريا ليموت في بلده وهو الشاعر رشيد سليم الخوري الملقب بالقروي، والثاني هو سليمان العيسى الّذي قرّر أن يكون في استقبال الشاعر المهاجر العائد إلى أحضان الوطن إذ قال الأول عندما احتضنه سليمان العيسى:

بنت العروبة هيئي كفني إني عائد لأموت في وطني

فرد عليه سليمان العيسى بقوله:

بنت العروبة هيئي سكني إني عائد لأعيش في وطني

وأنا بدوري أقول للأستاذ غنام ستعود إلى وطنك وستعيش في وطنك وستموت بعد عمر طويل في وطنك وانس حكاية المنفى وردّد مع الشاعر:

أعلّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

د/ محمد عبازه

تعليقات